قبلي: قافلة طبية للتقصي المبكر لاضطراب طيف التوحد بمستشفى دوز    تونسي على رأس الجمعية الإفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    تونس تحقق عائدات سياحية بحوالي 7 مليار دينار خلال سنة 2023    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان على غزة إلى 34454 شهيدا و77575 مصابا    التشكيلة الأساسية لكلاسيكو النجم الساحلي و النادي الإفريقي    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    بطولة المانيا: ليفركوزن يحافظ على سجله خاليا من الهزائم    المنستير: ليلة رعب في الطريق الحزامية بين قصر هلال وبنّان    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة "تستقطب اكثر من 5 الاف زائر.    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    عميد المحامين يدعو وزارة العدل الى الالتزام بتعهداتها وتفعيل إجراءات التقاضي الالكتروني وتوفير ضمانات النفاذ الى العدالة    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية خلال مؤتمر رابطة برلمانيون من اجل القدس باسطنبول    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    الإنطلاق في استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين المستشفى الجهوي بقبلي والمستشفى الجامعي الهادي شاكر بصفاقس    مشروع المسلخ البلدي العصري بسليانة معطّل ...التفاصيل    الإنطلاق في تكوين لجان جهوية لمتابعة تنفيذ برنامج الشركات الأهلية    بطولة القسم الوطني "ا" للكرة الطائرة: برنامج الجولة الثالثة    بطولة انقلترا - غالاغر يمنح تشيلسي التعادل 2-2 أمام أستون فيلا    اختتام الصالون الدولي 14 للفلاحة البيولوجيّة والصناعات الغذائية    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    القلعة الكبرى: اختتام "ملتقى أحباء الكاريكاتور"    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    سوسة: وفاة طالبتين اختناقا بالغاز    تعزيز جديد في صفوف الأهلي المصري خلال مواجهة الترجي    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    اليوم.. انقطاع الكهرباء بمناطق في هذه الولايات    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    اكتشاف أحد أقدم النجوم خارج مجرة درب التبانة    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    كلوب يعلق على المشادة الكلامية مع محمد صلاح    إمضاء اتفاقية توأمة في مجال التراث بين تونس وإيطاليا    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط حفظ الصحّة    اعتماد خطة عمل مشتركة تونسية بريطانية في مجال التعليم العالي    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    عميرة يؤكّد تواصل نقص الأدوية في الصيدليات    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأصولية القاتلة
نشر في الشروق يوم 15 - 06 - 2012

عرفت كل الأديان وحتى الافكار والفلسفات نشوء تيارات أصولية في صلبها تسعى الى المحافظة على المثال الاول الذي أعطاه الأنبياء واتباعهم من آمنوا بهم واتبعوهم عقيدة ومنهجا وحاولت هذه التيارات بمختلف السبل ان تحافظ على ما تؤمن به أو تفهمه من النموذج الأول السامي الذي لا يكون الناس مؤمنين الا باتباعه وتعظيمه وجعله نبراسا إيمانيا تستضيئ به قلوب وأفكار وذاكرة المؤمنين زمن تبدل المعطيات والحيثيات والمسببات التي افترضت ظهورما يلوح انه زيغ او انحراف اقتضت ضرورة العودة الى المنبع والأصل الاول. وإن الحديث عن علاقة الأصل بالحادث او المحدث ليس أمرا اعتباطيا قائما على مجرد السجال الفكري بين الاصوليين وغيرهم بل هو صراع حقيقي على من يملك الفهم الحقيقي لهذا الأصل ومن يملك الحل الفعلي لقضايا المجتمع ومن يملك الدواء لهذا القلق الذي أصاب هذه الحضارة الاسلامية منذ قرون.

الاشكال حسب تقديرنا لا يكمن في تقديس الاصل بل في فهمه وتنزيله على واقع متغير حركي لا نصنعه نحن بل يصنعه غيرنا.وهذا المجال لا يسمح باستعراض الآراء والأفكار والتيارات التي حاولت تنزيل الأصل على الواقع ولكنني سأتوجه بمقالنا الى ما سميته الأصولية القاتلة ليس لأننا نخلع الاصولية من ذواتنا ونتبرأ من أسلافنا لمجرد أننا نصف كلمة الاصولية بأنها قاتلة أبدا فنحن أصوليون حد النخاع وسلفيون حد الوجد بما ترك لنا السابقون الاولون من المهاجرين والانصار وبما خطت لنا أنامل العلماء والمفكرين والفقهاء والمتكلمين من كتب ومجلدات أربكت خواطرنا وسقت أرواحنا من معين الاسلام وحضارته وفكر علمائه وفقهائه ومفسريه ومحاربيه. وكل مسلم حقيقي أصولي بالضرورة كما قال مصطفى محمود بل نحن نصف الاصولية بالقتل حينما تحاول أن تقتل فينا رموزنا وتحوّلها الى كوابيس وأعظم القتل أن تقبر حضارة الروح والعقل داخل قوالب جاهزة واستفراد بالتاريخ والفهم المتعصب على الأصل والواقع في آن واحد.

توحي كلمة أصولية منذ الوهلة الأولى بأنها المسك بأصل العقيدة والشريعة في مقابل كل تغير او انحراف عن المعالم الاولى للدين ولكننا سنخرج الكلمة من الاصطلاح الديني الى السياق الفكري والاجتماعي حيث يعتبر أيان لوستيك استاذ العلوم السياسية في كلية «دارتماوث» أن الاصولية لها علاقة وثيقة جدا ومباشرة بين عقائد المرء الاساسية وبين السلوك المصمم على تحقيق تغير جذري في المجتمع (1) وفي هذا التعريف احالة على أن الأصولية المقصودة من المقال لا تعنى مدارس أصول الفقه والعقيدة بل جملة الأفكار والممارسات التي تتبناها الجماعات التي تتغذى فكريا من التعاليم السامية المقدسة وتعمل على انزالها إلى أرض الواقع لاحداث نوع من التغيير الجذري والسريع والشامل وفق فهمها وقراءتها لنصوص الدين المتمسكة بظاهر القول الحاسمة في ترجيحها والغير قابلة للنقاش والنقد الذاتي او الخارجي وهذا ما يضفي عليها صفة التعصب والدوغمائية وهنا يكمن الاشكال في رفضها للاختلاف و زعمها امتلاك الحقيقة باسم الدين وهذه هي نفس البنية الفكرية التي قتلت الصحابي الجليل عثمان بن عفان وهي ذات الأيدي التي ذبحت الامام علي ابن أبي طالب وهي نفس المناهج التي حاصرت الامام الطبري في بيته حتى توفي لأنها تزعم امتلاك الحق والنطق باسمه وهذا ما نعنيه بالأصولية القاتلة.

إن التمسّك بفهم أحادي للتراث والعمل على إسقاطه على أرض واقع حي له رهاناته وله قضاياه وله مميزاته المختلفة عن مميزات أسلافنا ومجتمعهم والادعاء بأن الاسلام يقف عند هذه النقطة ولا يتجاوزها وكل ما خالف هذا الفهم منكر مبتدع وضالّ إنما هو انحراف خطير عن مقاصد الاسلام كدين وعن مقاصد السلف كفكر وتحويل الرسالة الاسلامية الي قالب جاهز أشبه بالخرافة اليونانية القديمة التي تروي مساوئ قاطع طريق كان يرقد ضحاياه على سرير ضيق فإذا كانت الضحية أضخم من السرير قطع رجليها وإذا كانت الضحية قصيرة مدّد أعضاءها بفصل الرجل عن الجسد، هكذا يصنع التعصّب الايديولوجي والدوغمائي بالواقع وهذا ما رفضه علماء الاسلام واعتبروه تحميلا للقرآن والسنّة ما لا يحتملان.. ألم يقل الإمام القرافي في «الفروق» «إن الاعتكاف على ما أنتجه السلف الماضون ضلال في الدين وانحراف عن مقاصد المسلمين» ألم يكن عمر ابن الخطاب يقول «لاتكرهوا أبناءكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم»، فلماذا القسر والإكراه اليوم الذي يطمس معالم واقعنا حتى يجعلنا عاجزين على الفعل فيه باسم الأصولية؟ ألم تعد معركتنا اليوم بيننا وبين التاريخ وكأنه يقف في الضفة الأخرى من ذواتنا جرّاء هذه القوالب الجاهزة التي تدعي أنها تعطينا حلول الدنيا والآخرة.

كم أربكنا التاريخ حتى وكأنه تحول الى أوزار ثقيلة تقلقنا في مشينا وسط عالم لا نصنعه نحن، بل غيرنا.. يقول المستشرق «فرهارد دفتري» «إن التاريخ عند المسلمين دين والدين عندهم تاريخ» وهذا سبب نكبتنا وعزلتنا وقد كانت صرخة جمال الدين الأفغاني محاولة «لماذا لا تبعدون أنظاركم عن هذه الكتب المشوبة بالنقص وتنظرون الى هذا العالم الواسع؟ هذه صرخة ضد الجمود وقراءة العالم والأحداث في سياق واحد منغلق لا يؤمن بالتعدّد والاختلاف بكلمات حقّ كثيرا ما يراد بها باطل». نحن نحتاج الى تغيير أنفسنا فكل من يعتقد أنه يمتلك الحقيقة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدينية والايديولوجية فليحفر لها قبرا ويدفن تعصّبه الأعمى وأصوليته القاتلة في التراب.

غفران حسايني
(باحث جامعي في الحضارة والفكر الاسلامي)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.