ما إ ن تطأ قدماك «باب القصيبة» وتخطو أولى الخطوات متجها نحو مسجد الحي أو المتحف البحري أو مقهى المبدعين حتى ينتابك شعور تشتم من خلاله رائحة هذا الشهر المبارك من خلال ما طرأ على واجهات المنازل. هذه الواجهات تزينت حتى أصبحت وكأنها ارتدت ثوبا جديدا لاستقبال شهر الصيام. لو رمت مشاهدة ما فوق السطوح أو ألقيت نظرة في بهو المنازل «السطحة» لرأيت زخرفا متنوعا من «العولة» مدخرات لأكلات الشهر كشربة الشعير والدقيق والحلالم والتوابل فربة البيت بالقصيبة لا تفضل اقتناء هذه المواد من المحلات التجارية وإنما تعمد بعضهن قبل قدوم هذا الشهر إلى التجمّع في منزل واحد لإعداد ما يكفي من الحاجيات لسنة كاملة في أجواء تجسّم اللحمة وحسن الجوار بين متساكني الحي وهي من المبادئ التي تميز سلوكهم ولعل طابعها المعماري هو الذي ساعد على هذا التكافل من خلال مجاورة الفقير للغني ويسر مبدأ التعاون الاجتماعي في ما بينهم حتى اطباق حلويات هذا الشهر والعيد فهي تعد في هذه اللمات. وبحلول يوم الصيام تقسم الادوار صلب العائلة فتركن الام وبناتها في المطبخ لإعداد مائدة الافطار تجسم خلالها شهواتها وما جادت به قفة الاب العائد من السوق ولئن لا تختلف المأكولات عن بقية مناطق الجهة إلا أن طبق السمك الذي تتصاعد رائحة شوائه من شقاق النوافذ لا يغيب عن السفرة اليومية عند عديد العائلات القصيبية إضافة إلى سمك «الشاوري» المجفف و«النشوة» المملّحة التي وقع تصبيرها لهذا الشهر تراها تعتلي صحن السلاطة المتميز لسكان المرسى العتيق وتتباهى به الأسر في ما بينها. علاقة خاصة مع البحر أما رجال حومة القصيبة فيتحول أغلبهم في رحلة صيد على متن القوارب التي أعدوها وجهزوها خصيصا لهذا الشهر علّهم يظفرون بصيد يدعمون به مائدة الافطار وإن لم يكن فإن الغاية هي تقصير يوم الصيام في جولة يعتبرونها نزهة بحرية يستمتعون خلالها بنسيم البحر العليل في هذا الفصل الحار ويومه الطويل ومن لم يجد مركبا يقله إلى اعماق البحار ينتقي مكانا على ضفاف شاطئ المرسى العتيق ويلقي بصناراته المتدلية من قصبة بعد أن شحنها بعجين الخبز الذي يضاف اليه قليل من الجبن ليصبح طعما يجلب سمك «البوري» أو « الملاعبنة» أو «الكميري» بلغة اهل القصيبة وما جاورها وفي الطرف الاخر من الحي وبالتحديد من على قنطرة سيدي سالم يتفنن هواة السباحة في القفز من اعاليها امام انظار المارة الذين تستهويهم هذه المشاهدة فتراهم يلتقطون لهم الصور فيما ينزوي كبار الحومة ممّن فاتهم ركب هذه الأنشطة تحت صور المتحف البحري ينعمون بظله ويتجاذبون أطراف الحديث ويشاهدون عبور الزوارق التي تغدو صباحا وتعود عند الاصيل وقد انحنت الشمس رويدا رويدا إلى الغروب. رونق الافطار في القصيبة هكذا ينقضي يوم الصيام وما اجمل لحظات رمضان قبل الغروب في حينا كما في الاحياء الاخرى وتخلو ازقة القصيبة إلا من أطباق الطعام يتهاداها ويتبادلها الجيران قبل موعد الافطار ويجتمع الصغار بجانب دار زروق ذلك المكان المخصص لانتظار موعد الاذان وقد كان منذ سنتين مكان انتظار المدفع ورغم إلغائه فقد حافظ ابناء القصيبة على هذا الملتقى حيث من هذا المكان المشرف على صومعة جامع المدينة ذي المنارة العالية التي تعطي أول اشارة ضوئية معلنة عن انتهاء يوم الصيام فينساب صوت المؤذن خاشعا بين ازقة الحي وينطلق الصغار بالأهازيج نحو منازلهم لتهدأ الحركة بالشارع وتنطلق على موائد الافطار. إقبال كبير على صلاة التراويح بمسجد الحي في حين تتوجه الام وبناتها نحو المطبخ لغسل ما تكدس من الماعون يتوجه الاب رفقة ابنائه الى مسجد القصيبة ذلك المعلم التاريخي من اقدم المساجد ببنزرت وقد اكتفى بالمصلين لصلاة العشاء والتراويح فيلجا بعضهم للصلاة خارج المسجد وتتلاصق الاجساد في صلاة ينساب فيها صوت الامام نديا هادئا يلف المكان بما له من الخشوع وينعم المصلون بسماع ما تيسر من القرآن الكريم .وينفض بعد ذلك المصلون فتعرف ازقة القصيبة وخاصة ضفاف المرسى العتيق اكتظاظا وحركية خاصة يختلط فيها سكان الحي بالزوار الذين اختاروا السهر في مقهى المبدعين التابعة لجمعية صيانة المدينة أو التجوال على شاطئ القصيبة ويفضل اهالي الحي الجلوس في مجموعات تتجاذب اطراف الحديث امام المنازل المطلة على البحر للترويح عن النفس والاستمتاع برطوبة الجو واستراق صدى الموسيقى المدوي في المكان مع اصوات النرجيلات المنبعثة من المقاهي في الضفة المقابلة وتتواصل السهرة إلى ساعة متأخرة تقارب وقت السحور. غاب (بو طبيلة) فحضر أطفال الحي من الخصوصيات الرئيسية في شهر رمضان الفضيل وعوما في الاحياء يأتي المسحراتي الذي يطلق عليه « البوطبيلة» ليضفي اجواء رمضانية على الحارات التي يجوبها ليوقظ الناس للسحور وعادة ما يكون متطوعا . لكن في السنوات الاخيرة لوحظ غيابه إلا أن ابناء القصيبة وجدوا الحل حيث تجتمع مجموعة من الاطفال يجوبون ارجاء الحي ويوقظون أصدقاءهم وجيرانهم للسحور ومنها لأداء صلاة الصبح جماعة في مسجد الحي يقفل بها يوم الصيام ويفتح آخر لتمر الليالي وتتعاقب ايام رمضان التي تشعر فيها باستعادة العلاقات بين اهالي الحي والدفء الذي سرقه منها نسق الحياة العصرية فتسوى الخلافات القديمة ولا بد من الاشارة في الاخير أن للأم الدور الكبير والهام في كامل مراحل شهر الخير والبركة لما تقوم به من جهد لإرضاء العائلة.