المغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهداية نفسه كفيلا وبقي في العمى فاتّخذ الهوى قائدا والشيطان دليلا. ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلا . قال تعالى {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (فاطر 5) وقال تعالى {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} (الحديد 14) وقال تعالى {ان أكرمكم عند الله أتقاكم}. فالغرور هو سكون النّفس الى ما يرافق الهوى ويميل اليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان وأكثر النّاس يظنّون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فهم مغرورون وان اختلفت أصناف غرورهم واختلفت درجاته وكان غرور بعضهم أظهر وأشدّ. ومن هذه الأصناف وأخطرها:
غرور الكفّار
فمنهم من غرّته الحياة الدنيا ومنهم من غرّه بالله الغرور وقالوا اليقين خير من الشكّ ولذات الدنيا يقين ولذّات الآخرة شكّ فلا نترك يقينا بالشكّ قال ابليس {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف 12) والى هؤلاء الاشارة بقوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة 86).
غرور العصاة من المؤمنين
بقولهم انّ الله كريم وانّا نرجو عفوه واتّكالهم على ذلك واهمالهم الأعمال وظنّهم أنّ الرّجاء مقام محمود في الدّين وأنّ نعمة الله واسعة ورحمته شاملة وكرمه عميم. فإن قلت أين الخلط في قول العصاة انّ الله كريم وانّا نرجو رحمته ومغفرته وقد قال أنا عند ظنّ عبدي بي فليظنّ بي خيرا، فما هذا الاّ كلام صحيح مقبول ظاهرا، لكن اعلم أنّ الشيطان لا يغوي الانسان الاّ بكلام مقبول الظاهر مردود الباطن، ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب. فالخوف والرّجاء قائدان وسائقان يبعثان النّاس على العمل، فما لا يبعث على العمل فهوتمنّ وغرور .
أهل العلم
منهم من أحكموا العلوم الشرعية وتعمّقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد الجوارح وحفظها عن المعاصي واغترّوا بعلمهم وظنّوا أنّهم لهم عند الله مكانة وأنّهم قد بلغوا من العلم مبلغا لا يعذّب الله مثلهم بل يقبل في الخلق شفاعتهم.
ومنهم من أحكموا العلم والعمل الاّ أنّهم لم يطهّروا قلوبهم من الكبر والحسد والرياء. وآخرون أحكموا العلم والعمل وطهروا قلوبهم من الصفات المذمومة ولكنّهم بعد مغرورون لأنّهم طلبوا الذكر وانتشار الصيت.
ومن أهل العلم من اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة في الأهواء والردّ على المخالفين واعتقدوا أنّه لا يكون لعبد عمل الاّ بالايمان ولا يصحّ ايمان الاّ بأن يتعلّم جدلهم وما سمّوه أدلّة عقائدهم وظنّوا أنّه لا أحد أعرف بالله وبصفاته منهم وأنّه لا ايمان لمن لم يعتقد مذهبهم ولم يتعلم علمهم. وفريق منهم اشتغلوا بالوعظ والتذكير وأعلاهم رتبة من يتكلّم في أخلاق النّفس وصفات القلب من الخوف والرّجاء والصبر والشكر والتوكّل والزهد واليقين والاخلاص والصدق وهم مغرورون يظنّون بأنفسهم أنّهم اذا تكلّموا بهذه الصفات ودعوا الخلق اليها فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات وغرور هؤلاء أشدّ الغرور لأنّهم يعجبون بأنفسهم غاية الاعجاب.
أرباب العبادة والعمل
منهم فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل والنّوافل وربّما تعمّقوا في الفضائل كالذي تغلب عليه الوسوسة في الوضوء فيبالغ فيه فهو مغرور لاسرافه في الماء. وآخرون اغتروا بالصوم وربّما صاموا الدهر أوصاموا الأيّام الشريفة وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة وخواطرهم عن الرياء وبطونهم عن الحرام. ومنهم من اغترّوا بالحجّ فيخرجون الى الحجّ من غير خروج عن المظالم وقضاء الديّون واسترضاء الوالدين وطلب الزاد الحلال ولا يحذّرون في الطريق من الرفث والخصام ثمّ يحضر البيت بقلب ملوّث برذائل الأخلاق وذميم الصفات لم يقدّم تطهيره على حضوره. وفرقة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر منهم من ينكر على النّاس ويأمرهم بالخير وينسى نفسه.
وفرقة زهدت في المال وقنعت من اللّباس والطعام بالدّون وظنّت أنّها أدركت رتبة الزاهد ومع ذلك منهم من لا يتفقّد قلبه ويطهّره من الرياء والكبر والعجب ثمّ لا يخلو هذا المغرور مع سوء خلقه مع النّاس وخشونته وتلوّث باطنه. وفرقة حرصت على النّوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض ترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى وبصلاة اللّيل ولا يجد للفريضة لذّة ولا يشتدّ حرصه على المبادرة بها في أوّل الوقت.
أرباب الأموال
منهم من يحرص على بناء المساجد والمدارس وما يظهر للنّاس كافة ويكتبون أسماءهم بالآجر عليها ليتخذ ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم وهم يظنّون أنّهم قد استحقّوا المغفرة بذلك انهم مغرورون من جهتين أنّهم يبنونها من أموال اكتسبوها من الظلم والنهب والرشاوى والجهات المحرّمة فهم قد تعرّضوا الى سخط الله في كسبها ولسخطه في إنفاقها.
وفرقة أخرى ربّما اكتسبت المال من الحلال وأنفقت على المساجد وهي مغرورة من جهتين: الأولى الرياء وطلب الثناء فانّه ربّما يكون في جواره أو بلده فقراء وصرف المال اليهم أهمّ وأفضل وأولى من الصرف الى بناء المساجد وزينتها.والثانية أنّه يصرف الى زخرفة المسجد وتزينه بالنّقوش التي هي منهي عنها وشاغلة قلوب المصلّين ومختطفة أبصارهم ..