نحن شعب يحبّ الموز مع أنّنا لا ننتجه .انظروا كيف تتواصل عشرتنا معه منذ سنوات، حتّى إنّ أسواقنا لم تخل منه إلاّ في أعوام التّعاضد ، يستورده تجّارنا وينافسون به الثّمار الوطنيّة في مواسمها ، كثرة ومقاربة في السّعر أحيانا. فبه تزدان موائد مواطنينا، أو يملأ سلالهم عند زيارة المرضى و الأصدقاء.
للموز سمعة شائعة تنسب إليه مفعول تقوية وتنشيط ، يراه الشّباب في أيدي لاعبي الرّياضة فيزيد هذا من شغفهم به وإقبالهم عليه، مفردا أو مخلوطا ببيض ولبن، في مشروب يسمّونه «حليب الدّجاجة» يرجون منه تقوية وإسنادا لفحولتهم. إلاّ أنّ الإكثار من تداول الموز بصورة حقيقيّة أو بالمعنى المجازيّ ،مع توفّر أقراص الفياغرا هذه الأيام ، وقبلها حبوب الهلوسة جعل النّاس يخشون بالجمع بينها خروج الأمر عن السيطرة، وشبقا شعبيّا وهياجا.ونغدو بذلك من جمهوريات الموز.
2
شاهدت وثائقيّا يحكي عن طائفة قرود يحكمها زعيم ، وإليه يعود توزيع الطّعام بين أفرادها كلّما توفّر لديه عرجون موز أو غيره. فيجمع عشيرته أولا ويعطيهم في أول اللّقاء فسحة ليقفز بعضهم على بعض في موكب مناكحة جماعيّ يسبق القسمة، ويفسّر صاحب الشّريط فعلهم ذاك بأنّه استفراغ للحيويّة وتهدئة للأعصاب ، حتّى لا يتقاتل القردة عند القسمة وقد نشطهم الموز.
في أحد الأفلام التي شاهدتها قديما وعنوانه « العصافير تذهب لتموت في البيرو» تظهر مشاهد كرنفال صاخب كتلك المألوفة في دول أمريكا اللاّتينية : موسيقى ورقص وأزياء ملوّنة وجمهور في عزّ الهياج . وبعد أكل وشرب وصخب ينتهي الأمر بالجميع آخر اللّيل على رمال الشّاطىء وقد اختلطوا حتى لا يبين الذّكر من الأنثى ، ليتبادلوا الموز بقية الليل ، أليسوا شعبا من جمهوريّات الموز؟.
3
اقترح أحد نوّاب المجلس التّأسيسي إطلاق صفة « جمهورية الموز» على بلادنا، فهل قصد تشبيها لها ببعض بلدان أمريكا الجنوبية أم كان هذا من باب التحبّب لثمر الموز اللّذيذ ؟ الأغلب عندي أنه رأى من سوءات الإدارة ومن فساد السّاسة واختلاط القوانين وضبابية الرّؤية ما جعله يرى بلاده صارت أشبه ببلدان تلك المنطقة وألصق بصفاتها.
فالانتصاب الفوضوي عمّ السّاحات والشّوارع حتّى استحال احتواؤه ، ومن لم يتجاوز غيره تجاوزه غيره ، وسرى الأمر من ميدان التّجارة إلى سائر الميادين، وكلّ من طالت يده أمرا فعله، فبنى من شاء حيثما شاء، واشتغلت المصانع بإرادة العملة، واختار التلاميذ أساتذتهم ومواعيد الدروس، وفتحت المستشفيات أو أغلقت برغبات المرضى، وارتهنت الوثائق الإداريّة بمشيئة الأعوان وحضورهم أو عدمه .ومن الطّبيعي إذا استفحل الأمر أن تصاب النّفوس والأرواح بعدوى الانتصاب الفوضوي ،فيتقلقل فيها كلّ شيء ويضطرب.
في جوّ كهذا يحقّ للدّوريّات اللّيليّة الانتصاب الفوضوي لحفظ الأمن، فتحشو في بناطلها كميّات موز لتوزيعها على المومسات وبنات اللّيل. بادئة بالشّوارع المضاءة حيث لا تظهر الشّبهات، ثمّ تدخل الأزقّة المنزوية حيث يبدأ الالتباس، وبعدها طواف بساحات مقفرة تكدّست فيها القمامة وأكوام الحجارة والرّمل. تتأمّل الكلاب السّائبة سيّارة الدّوريّة وأضواءها الكاشفة وهي تطوف مخفّضة سرعتها كالباحث عن أشياء ضائعة . تعرف الحيوانات أنها غير معنيّة بالزّيارة، فتنبح بغير حماس وتواصل بحثها في أكداس التّوالف .
تعثر الدّوريّة آخر الأمر على ضالّتها : سيّارة مركونة بزاوية مظلمة من شارع شبه خال يغلّفه سكون ساعات آخر اللّيل ، ولا يسمع فيه إلاّ صدى نباح بعيد، وهمسات عاشقين اختارا المكان للبوح بهواهما المكبوت. وجدت الدّورية ضالّتها في عاشقين متعانقين يجاهران بما ينافي الحياء ليلا، بمكان منزو، وفي سيّارة مغلقة . فتح الأعوان الأبواب واجتذبوا الشّابّ وفتاته عنوة ، سألوهما عن سبب اختيار هذا المكان ، وإذا ما كانا يخطّطان لارتكاب جريمة أو تناول ممنوعات. بعد بحث وتنقيب وتثبّت من انعدام أيّ جريمة ، أخرجت الدّوريّة كمّيّة الموز من بناطلها وناولتها لراكبي السيّارة جبرا وإكراها، وهدّدتهما بالسّجن إن رفضا الموز. أمّا إذا باحا بأنّ الدّوريّة أجبرتهما فستكون فضيحتهما أشنع. وبهذا أدّت الدّوريّة اللّيليّة مهمّتها وأظهرت حرصها على حفظ الأمن والأخلاق في جمهورية انضمّت حديثا إلى جمهوريّات الموز.