أخيرا: الطفل ''أحمد'' يعود إلى منزل والديه    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    الإطاحة بشبكة مختصّة في الإتجار بالبشر تنشط في هذه المناطق    عاجل/ ستشمل هذه المناطق: تقلبات جوية منتظرة..وهذا موعدها..    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    شركة نقل تونس: خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    تقلبات جوية في الساعات القادمة ..التفاصيل    مفزع: 17 حالة وفاة خلال 24 ساعة في حوادث مختلفة..    عاجل : بشرى للتونسيين المقيمين بالخارج    مواجهة صعبة لأنس جابر اليوم في بطولة مدريد    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    تونس / السعودية: توقيع اتفاقية اطارية جديدة مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة    قرار جديد من العاهل السعودي يخص زي الموظفين الحكوميين    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    العثور على شخص مشنوقا بمنزل والدته: وهذه التفاصيل..    غوارديولا : سيتي لا يزال أمامه الكثير في سباق اللقب    سان جيرمان يحرز لقب البطولة للمرة 12 بعد هزيمة موناكو في ليون    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    السعودية: تحذير من طقس اليوم    السعودية: انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي ولا وجود لإصابات    سينعقد بالرياض: وزيرة الأسرة تشارك في أشغال الدورة 24 لمجلس أمناء مركز'كوثر'    دولة الاحتلال تلوح بإمكانية الانسحاب من الأمم المتحدة    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    العروض الأجنبية بين الحقيقة والخيال...هل يحمي الترجي نجومه من لعبة «السماسرة»؟    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    غار الدماء: قتيلان في انقلاب دراجة نارية في المنحدرات الجبلية    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقاه خالد الحداد : الدكتور ناجي جلّول في منتدى الشروق ثورة 14 جانفي ستكلل بنظام تعددي يفصل بين السلط الثلاث
نشر في الشروق يوم 05 - 11 - 2012

«المنتدى» فضاء للتواصل مع قراء الشروق بصيغة جديدة ترتكز على معرفة وجهات نظر الجامعيين والأكاديميين والمثقفين حيال مختلف القضايا والملفات ووفق معالجات نظريّة فكريّة وفلسفيّة وعلميّة تبتعد عن الالتصاق بجزئيات الحياة اليوميّة وتفاصيل الراهن كثيرة التبدّل والتغيّر، تبتعد عن ذلك إلى ما هو أبعد وأعمق حيث التصورات والبدائل العميقة إثراء للمسار الجديد الّذي دخلته بلادنا منذ 14 جانفي 2011.

اليوم يستضيف «المنتدى» الدكتور ناجي جلّول أستاذ التاريخ والآثار الإسلامية بجامعة منوبة المتحصل على الدكتوراه من جامعة السربون وصاحب عدد من الكتابات والمؤلفات ذات الصلة بالمباحث التاريخية المختلفة.

وقد سبق للمنتدى أن استضاف كلا من السادة حمادي بن جاب الله وحمادي صمّود والمنصف بن عبد الجليل ورضوان المصمودي والعجمي الوريمي ولطفي بن عيسى ومحمّد العزيز ابن عاشور ومحمد صالح بن عيسى وتوفيق المديني وعبد الجليل سالم ومحسن التليلي ومحمود الذوادي ونبيل خلدون قريسة وأحمد الطويلي ومحمّد ضيف الله الّذين قدموا قراءات فكريّة وفلسفيّة وسياسيّة معمّقة للأوضاع في بلادنا والمنطقة وما شهدته العلاقات الدولية والمجتمعات من تغيّرات وتحوّلات في أعقاب ما بت يُعرف ب»ربيع الثورات العربيّة».

وبإمكان السادة القراء العودة إلى هذه الحوارات عبر الموقع الإلكتروني لصحيفتنا www.alchourouk.com والتفاعل مع مختلف المضامين والأفكار الواردة بها.
إنّ «المنتدى» هو فضاء للجدل وطرح القضايا والأفكار في شموليتها واستنادا إلى رؤى متطوّرة وأكثر عمقا ممّا دأبت على تقديمه مختلف الوسائط الإعلاميّة اليوم، إنّها «مبادرة» تستهدف الاستفادة من «تدافع الأفكار» و«صراع النخب» و«جدل المفكرين» و«تباين قراءات الجامعيين والأكاديميين من مختلف الاختصاصات ومقارباتهم للتحوّلات والمستجدّات التي تعيشها تونس وشعبها والإنسانيّة عموما اليوم واستشرافهم لآفاق المستقبل.

وسيتداول على هذا الفضاء عدد من كبار المثقفين والجامعيين من تونس وخارجها ، كما أنّ المجال سيكون مفتوحا أيضا لتفاعلات القراء حول ما سيتمّ طرحه من مسائل فكريّة في مختلف الأحاديث (على أن تكون المساهمات دقيقة وموجزة في حدود 400 كلمة ) وبإمكان السادة القراء موافاتنا بنصوصهم التفاعليّة مع ما يُنشر في المنتدى من حوارات على البريد الالكتروني التالي:[email protected].

كيف تقدرون ما حدث في بلادنا يوم 14 جانفي، هل نحن فعلا إزاء ثورة أم شيء آخر؟

بعد وصول حركة النهضة إلى السلطة بدأ البعض في تقزيم الثورة التونسية، فرأى فيها البعض مجرد انقلاب عسكري قادته أطراف غاضبة داخل النظام، ورأى فيها آخرون مؤامرة أمريكية-قطرية وقع خلالها توظيف شريحة من الشباب المهمش. وخلافا لهذا المنحى المتشائم تؤكد الدراسة المقارنة أننا إزاء ثورة حقيقية و تسريع لنسق التاريخ لا عهد لبلادنا به منذ إستقلالها. فانتفاضات جانفي 1978 و 1984 لم تؤد إلى إسقاط النظام في حين عصفت ثورة 14 جانفي بمؤسساته و ثقافته السياسية. في هذه المرة لم يستطع شق من النظام توظيف الغضب الشعبي للانقلاب على شق أخر لترميم المنزل وتأبيد منظومة الاستبداد والفساد.

لم تكن ثورة جياع وانتفاضة خبز ولا نهاية للتاريخ بل بداية عهد جديد أسس له شباب متعلم حداثي يحسن التعامل مع الشبكات الاجتماعية والمعارف الرقمية، نزل إلى الشوارع مطالبا بحقه في العيش الكريم والحرية باسم المبادئ الكونية لحقوق الانسان.

كانت البلاد تعيش منذ أحداث الحوض المنجمي مخاضا ثوريا كما بدأت عدة مؤشرات تدل على تصدع النظام وفقدانه لقاعدته الاجتماعية. انتحر البوعزيزي داخل أتون قابل للاشتعال: أزمة اجتماعية واقتصادية، حالة غليان ثقافي وسياسي متواصلة منذ سنوات السبعين نتيجة لنشاط اليسار والاسلاميين والنقابيين ومنظمات المجتمع المدني واعتداء خارجي تقوده الولايات المتحدة واسرائيل يستهدف الأمة العربية. ألم تندلع الثورة الفرنسية بعد سنة من غلاء عام 1788، ألم يكن سقوط الباستيل مجرد حادث عابر استهدف مخزنا للبارود؟ مثل الثورة الفرنسية كانت ثورة الشباب التونسي نتيجة لمخاض طويل، وكما أدت ثورة فرنسا إلى ميلاد جمهوريات ديمقراطية في أرجاء أوروبا «les républiques sœurs « وكانت ثورة تونس أول أزهار الربيع العربي.

هل الثورة لحظة تاريخية بين نظامي حكم أم مسار طويل؟ وكيف يمكن أن يتوافق النظامان القديم والجديد؟

لنعد إلى التاريخ فهو دائما أول مدارس السياسة. اندلعت الثورة الفرنسية سنة 1789 بعد عدة انتفاضات قادها المزارعون ولكن المجلس التأسيسي المنبثق عنها صاغ دستورا يعكس توجهات فلاسفة الأنوار. كما أن هذه الثورة عرفت عدة حلقات وارتدادات وانتكاسات قبل أن تؤسس لجمهورية لائكية سنة 1905: أدت أحداث سنة 1789 إلى إنشاء ملوكية دستورية وإنهاء امتيازات النبلاء، ثم ألغيت الملوكية وفي سنة 1799 أسس نابليون الأول الإمبراطورية وخاض باسمها حروبا استعمارية.

واندلعت الثورة الأمريكية سنة 1774 من فيلادلفيا وكان من رموزها الفرنسي لافيات والأنجليزي توماس بان وكلل هذا المد الثوري بدستور سنة 1789. أما في البرتغال فقد كانت الشرارة الأولى لثورتها انقلابا عسكريا قاده الجنرال أنطونيو سبينولا سنة 1975 و لكنه لم يستول على السلطة مثلما يحدث عادة في البلدان ذات التركيبة التقليدية بل فتح المجال لقيام ديمقراطية تعددية حديثة بعد مخاض دام أربعة سنوات. وقد سبقت هذه الثورة تمردا عسكريا قاده سبينولا نفسه سنة 1972 لما كان قائدا للجيوش المرابطة في غينيا. وضعت هذه الثورة حدا لنظام سالازار المرتبط عضويا بالمستعمرات التي انتهى عهدها وانتشرت عدواها إلى اسبانيا وبعض بلدان أمريكا اللاتينية.

برز مصطلح «الثورة» في اللغات الأوربية سنة 1660 إبان الإصلاحات «الدستورية» الأنجليزية وانتشر استعماله في نهاية القرن الثامن عشر فاقترن ذلك ببروز الإيديولوجيات لما وضع آدم سميث أسس الليبرالية وصاغ جان جاك روسو «العقد الاجتماعي» الذي بشر «بالدين المدني» والديمقراطية الحديثة. فالثورة هي رديف للحداثة ووليدة مجتمعات عرفت مخاضا فكريا ودينيا وسياسيا وسلوكيا، ومثلما أمم أسقف أوتان إبان الثورة الفرنسية ممتلكات الكنيسة يمكن لمشائخ الزيتونة إنجاز مهام الثورة في تونس. ولهذا لا تراني أتحدث عن ثورة في ليبيا أو اليمن لأن هذه المجتمعات ليست جاهزة لتحولات ثورية عميقة مثل تونس والمغرب والأردن وبدرجة أقل مصر ولا أرى ثورات قادمة في السعودية وبلدان الخليج. أما في سوريا فإن التدخل الأجنبي ستكون له عواقب وخيمة تؤخر تدرج هذا البلد نحو الديمقراطية تماما مثلما حدث في العراق.

إذن كانت حركة 14 جانفي بداية الثورة التونسية وأنا واثق بأن نهاية هذا التحول الثوري ستكلل بإرساء نظام حكم يفصل بين السلطات الثلاث ومجتمع تعددي حديث شعاره الحرية وحرية الرأي وحق الاختلاف ولنتذكر هنا مقولة غرامشي الشهيرة : إن القديم لم يمت تماما وأن الجديد لم يأت بعد وبينهما فترة حادة من التمزق. نفس التمزق والتجاذب الذي يميز بلادنا اليوم ولكن القديم مات لأنه لم يعد يتناسب مع تركيبة مجتمعنا وثقافته وانفتاحه على العالم الخارجي. وما نشاط السلفية إلا أحد مظاهر احتضار هذا النظام القديم التي تمثل هذه المجموعات جزء من ثقافته. كما أن المجتمع التونسي منخرط اليوم أكثر من أي وقت مضى في طريق العلمانية وهذا الإنخراط في خط الحداثة المادية هو الذي يفسر أيضا سبب نجاح الحركات الأصولية حسب محمد أركون. فهذه الحركات التي تنادي بتطبيق الشريعة هي في اخر المطاف علمانية وأغلب مناضليها يأتون من الطبقات الدنيا ذات الثقافة التقليدية وغير القادرة على الوصول إلى الثقافة الحضرية الحديثة فهم يطالبون بالحقوق والعدالة الإجتماعية والمساهمة السياسية و»لكن لكي يعبروا عن هذا المشروع وأمالهم العلمانية فإنهم يستخدمون مفردات اللغة الدينية التي هي اللغة الوحيدة التي يحسنونها».

كما أن وصول النهضة إلى السلطة سيساهم في «تحديثها» ودمجها في «المجتمع السياسي» المحلي بعد أن تتخلص من طابعها الدعوي. ونتيجة للبنية التي ولدت فيها وكذلك مكوناتها ستحقق هذه الثورة، بعد مخاض طويل، تغييرا عميقا وجوهريا وديمقراطيا دون أن تسقط في الثالوث المعتاد: انقلاب عسكري أو تدخل أجنبي أو فوضى عارمة. لكن يجب أن يتخلى بعض هواة السياسة عن شعارات الإقصاء و»القطع مع الماضي» لأنه لا جديد بدون القديم، فالجديد هو جزئيا نتيجة لرسكلة القديم و دمجه في منظومة جديدة.

كيف ترون مآل التجاذب الأيديولوجي في تونس خاصة بين العلمانيين والإسلاميين؟

ما معنى الإسلاميين؟ هذا التعريف الذي استبطنته الصحافة الأوربية يجعل من الإسلام مرادفا للأصولية، كذا فإني أحبذ تسمية النهضة وهي حزب علماني له مطامح وبرامج وسياسات علمانية ولكنها توف الدين للتعبئة وتجييش الجماهير داخل المساجد وخارجها وهي حزب سلطة وسياسة واقتصاد وسلوك وليست حزب نقائض الوضوء وقد خلق هذا التوظيف أزمة ثقة بينها وبين باقي مكونات المشهد السياسي وجعلها تلاقي معارضة على عدة مستويات وتستنفر ضدها الكثير من الفئات التي تقف موضوعيا مع التغيير والتحرر. كما أن بعضها يخاف من «الإسلامية» أكثر من خوفه من عودة النظام القديم إذ يقولون بأنهم يفضلون استبداد الشرطي الذي يمارس على الأجساد على استبداد يمارس على العقول والأجساد في آن واحد.ومن جهة أخرى بقي بعض العلمانيين حبيسي المنظومة الفرنسية اليعقوبية أو ما يسميه إدغار موران الكاتو-لائكية التي تجعل من فصل الدين والدولة ناموسا مقدسا صالح لكل زمان و مكان في حين أن التجارب الأمريكية والأنجليزية قننت «الدين المدني»، كذلك نحن يمكن لنا ابتداع ديمقراطية محلية لا تقطع مع إرثنا الحضاري وتوظف كل جوانبه الثورية والتقدمية لبناء مجتمع الحرية والعدالة.

وللتقدم نحو هذا الهدف يجب على حركة النهضة أن تتخلى عن طابعها المسجدي والقطع مع حاكمية سيد قطب التي نهل منها زعيمها راشد الغنوشي وتتبنى الأنظمة المدنية التي تمنعها من احتكار السلطة في كل الفضاءات الاجتماعية لتمارس السلطة في نفس الظروف المتاحة في تركيا.

ولإنهاء هذا التجاذب يجب على «الإسلاميين» التخلي عن نظرية المؤامرة والاستناد إلى فلسفة واضحة عوض الاعتماد على مواقف وشعارات تتغير باستمرار وهو ما يجعل الآخر يفقد الثقة فيها ويرى في «انفتاح» النهضة مجرد مناورة للتلاؤم مع وضع تونسي يتميز بتحرر اجتماعي أكبر من السائد في باقي العالم الإسلامي. وعلى «الحداثيين» تجاوز العلمانية التقليدية التي ولدت من رحم التجارب الفرنسية والستالينية واستعادة العلمانية بأصولها الليبرالية وهي أصولها الحقيقية، وقد قدم رواد المدرسة الأنجلوساكسونية مثل بنيامين كونسانت (17671830) وجون راولز (19212002) لقضية العلاقة بين الدين والسياسة حلولا إنسانية مخالفة للعلمانية الراديكالية التي حولت العلمانية من فصل الدين والسياسة إلى فصل الأفراد بالقهر عن التدين. والعلمانية هي أكثر من مجرد التفريق البسيط بين الشؤون الروحية والشؤون الزمنية فهذا التفريق موجود علميا في كل المجتمعات حتى عندما ينكر وجوده ويحجب بواسطة المفردات الدينية أما هويتنا العربية الإسلامية فهي إحدى مقومات ذاتنا وهي التي تمدنا اليوم ببعض مبررات الوجود.

هل يقدر الإسلام السياسي على تقديم رؤية عملية لسلطة مدنية ديمقراطية تحترم حقوق الانسان و تحمي التعددية؟

ذكر صديقي محمد القوماني أن المختصين يجدون صعوبة منهجية في تحديد الخصائص الفكرية لحركة النهضة فهي تعد الجميع بالحرية والاختلاف وتفصل تلك المبادئ عن منظومتها الحاضنة أي الحداثة والأنوار وقد لاحظ محمد الحداد أن فصل هذه الشعارات عن فلسفتها يجعل منها مجرد دعاية. كما أن التطور الحاصل لديها في الجانب السياسي لم يتبعه تقدم مماثل في الجانب النظري خاصة مع غياب التداول الحقيقي على رئاسة الحركة. هذا الغياب جعل, مثلما أشار لذلك علية العلاني، كل الأوراق بيد راشد الغنوشي وأبد سلطته الأدبية والردعية التي تمنع إنشاء مراكز قوى أو مجموعات ضغط كالتي نجدها في العديد من الأحزاب الديمقراطية. وأعتقد أن ابتعاد الغنوشي عن النهضة مثلما يلوح به سيمكنها من تجاوز المشروع الإخواني الذي صاحب نشأتها وتعميق المشروع الإصلاحي الذي يتبناه الشق المعتدل فيها، وهو ما سوف يمكن النهضة من التواصل مع الحركة الإصلاحية التونسية التي رفضت في عهد حمودة باشا الدعوة الوهابية وقادت حركة التحديث التي دشنها خير الدين باشا. وبهذا تعمق النهضة وجودها داخل المشهد السياسي الوطني وتصبح مكونا أساسيا من مكونات المجتمع الديمقراطي التعددي مثلما هو الحال مع الأحزاب «الديمقراطية-المسيحية»الأوربية.

كيف تقرؤون دور العسكر والجيوش في عمليات الانتقال الدّيمقراطي والثورات؟

الجيوش ليست بمعزل عن محيطها البشري إذ عادة ما تعكس عقائدها وسلوكاتها ثقافة مجتمعاتها فالمؤسسة العسكرية في أوروبّا هي جزء من تركيبة مدنيّة معقدة ولكن واضحة المعالم، في حين أنّها تنشط في بلداننا في مجتمعات مثقلة بالتقليدانية التي تجرّه نحو الفضاءات الماضويّة وهي مجتمعات غالبا ما تمّ تأطيرها في إطار إيديولوجيا معارضة للديمقراطية ممّا فتح الطريق أمام تعدّد الانقلابات العسكرية بعد فترة التحرّر الوطني. وهذه الانقلابات عطّلت سيرورة بلداننا نحو الحداثة وأجهضت عمليات التحوّل الديمقراطي كما أن الأنظمة المنبثقة عنها لم تنجح في انجاز عملية الدمج الاقتصادي والثقافي الذي استطاعت البرجوازية الغربية صنعه إبان مرحلة التحديث التي توصلت خلالها إلى تغيير سلطة الحق الالاهي بسلطة جديدة ترتكز على السيادة الشعبية. أما الحالة السياسية التي أبدتها انقلاباتنا فهي «حالة الزعيم التاريخي» الذي يعتمد على الجيش والبوليس والحزب الواحد والتكنوقراط. صحيح أنها كانت في أغلبها أنظمة «علمانية» بحكم طبيعة الأشياء ونماذج الإدارة والحكم لكنها كانت مقطوعة عن النظرية العليا للسيادة الشعبية وعن الحداثة العقلية.

وفي الحقيقة عرفت المجتمعات الأوروبيّة الحديثة بعض الانقلابات ولكن تركيبتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية جعلت منها أحداثا ظرفية وعابرة فانقلاب نابليون الأول في فرنسا سنة 1799 كان نتيجة ل «إرهاب» روباسبيار كما ارتبط انقلاب نابليون الثالث سنة 1851 بنتائج الحرب مع بروسيا. أمّا انقلاب الجنرالات في الجزائر سنة 1961، فقد اقترن بالحركة الوطنية الجزائرية.
ويعكس نجاح التحوّل الديمقراطي في بلدان المعسكر الاشتراكي خير دليل على ما ذهبنا إليه، فرغم غياب الديمقراطية بقي العسكر في هذه الجمهوريات وفيّا للدولة المدنية وانتقلت هذه المجتمعات الحديثة نحو الديمقراطية بطريقة سلسة إثر انتفاضات شعبيّة. أمّا الانقلاب الذي استهدف «ميخائيل غوربتشاف» في شهر أوت من سنة 1991، فقد فشل بعد ثلاثة أيّام من وقوعه.

خلافا لأوروبا كانت الانقلابات العسكريّة هي الطريقة الأكثر شيوعا لانتقال السلطة في المجتمعات العربيّة: الضبّاط الأحرار في مصر (1952)، عبد الكريم قاسم في العراق (1958)، جعفر النّميري والقذّافي في السودان وليبيا (1969)، حافظ الأسد في سوريا (1970)... هذه «الثورات» لم تؤد إلى تحديث المجتمع ولا إلى تطوّر تركيبته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولمواجهة اليسار والنخب اتّجه أنور السادات وريث عبد الناصر إلى الدين وإلى نشر السلفيّة لكي يبقي المجتمع على مقياس حاجات السلطة. كما أن الثورة المصريّة لم تؤدي في آخر المطاف إلاّ إلى تقاسم السلطة بين المؤسسة العسكرية والإخوان المسلمين الذين عملوا منذ فترة طويلة على «تحنيط» المجتمع المصري في ظلّ تعليم متخلّف وإعلام متخلّف واقتصاد فقاعي. أمّا في سوريا فإن كلّ المراقبين للمشهد السياسي يتّفقون حول استحالة أي تسوية خارج المؤسسة العسكريّة التي تبقى الضّامن الرّئيسي لوحدة هذا البلد المتعدّد الأعراق والملل. وتتّجه ليبيا نحو فترة طويلة من الفوضى «الخلاّقة» لأن جراد الدّكتاتورية إلتهم فيها على حدّ تعبير علاء اللاّمي الأخضر واليابس طول أربعة عقود من حكم القذافي الفردي «ولا عبرة هنا في ترويج أكذوبة الناتو عن انتصار التيّار اللّيبرالي في مسرحيّة الانتخابات الأخيرة».

المؤسسة العسكريّة ودورها في مسار الثورة والانتقال الدّيمقراطي في تونس؟

يختلف الوضع في تونس جوهريّا عمّا هو في باقي دول الرّبيع العربي. ويمكن تشبيه الثورة التونسيّة بثورة القرنفل في البرتغال سنة 1975 التي لعب فيها العسكر دورا فعّالا ذلك أن نظام سالازار البوليسي لم يمنع توجّه هذا المجتمع نحو الحداثة وهي حداثة عمّقتها الثورة التي أدّت في آخر المطاف بعد فترة انتقالية دامت أكثر من أربعة سنوات إلى تغيير تركيبة المجتمع البرتغالي وثقافته. وفي تونس ساهمت الحركة الاصلاحية التي عرفتها البلاد منذ القرن التاسع عشر في تحديث البلاد وتدّعم ذلك مع التجربة البورڤيبية التي أدخلت عناصر إضافية على تركيبتها الاجتماعية زادت من درجة الانصهار الجماعي وخلقت مجتمعا مدنيا مؤهلا أكثر من غيره للسير نحو الديمقراطية التعدّدية الحديثة بعيدا عن المحاصصة القبلية التي تعرفها ليبيا أو الدينية التي تعرفها مصر.

نظرة سريعة على تركيبة العساكر العربية الحديثة تؤكد تفرّد الجيش التونسي. في سوريا يهيمن العنصر العلوي وفي ليبيا كان للقبائل الحليفة للقذافي نصيب الأسد أمّا في البحرين فقد وقع إقصاء العنصر الشيعي الأغلبي من الخدمة العسكريّة. وخلافا للجزائر لم يعرف الجيش التونسي معارك التحرير الوطني، إذ بعث سنة 1956 في دولة مستقلّة في طور البناء وفي فترة سلم، ممّا جعله خاضعا للمؤسسة السياسية التي قادت الكفاح الوطني. أمّا تركيبته فقد كانت منذ الأوّل «وطنيّة» و»تقنيّة» إذ تشكّل من عدّة عناصر لا تجمعها عقيدة قتالية موحّدة ولا عقيدة سياسية إذ تألّفت نواته الأولى من:

عناصر من الحرس الملكي الهيئات المكلّفة بحفظ الأمن في البوداي والتّابعة لوزارة الدّاخلية التشكيلات النظامية لرجال الوجق والمخازنيّة الضبّاط والجنود الذين وضعوا تحت تصرّف الحكومة التونسيّة من قبل السلطة الفرنسيّة الشبّان من حصّتي 1954 و1955.
ورغم عملية «التطهير التي عرفها بعد المحاولة الانقلابية سنة 1962 فقد حافظ هذا الجيش على الأهمية التي مكّنته من إنقاذ السلطة السياسيّة من مأزقها خلال أزمات 1987 و1984.

تعود جذور القطيعة بين الجيش والسلطة حسب رأيي إلى بداية حكم زين العابدين بن علي. فرغم أصوله العسكرية اختار هذا الأخير الاعتماد تقريبا بصفة كليّة على جهاز أمني ضخم (حوالي 120.000 عنصر) ومارس بن علي على مختلف وحدات الجيش مراقبة بوليسية لصيقة. وكان هذا الجيش الذي لا يتعدى عدد أفراده 35000 عنصر يعاني قبل الثورة من نقص فادح في العتاد والتجهيزات ولا يلتحق به إلا 25 % من الشباب, كما كان مموّلا خاصّة عن طريق الإعانات الفرنسية والأمريكية. ورغم هذه الهنات فقد كانت كوادره على درجة عالية من التكوين نظرا لعلاقته المتميزة مع الأكاديميات العسكرية الفرنسية والأمريكيّة.

وفي سنة 2010 خفّضت أمريكا من الإعانات وكانت إشارة هامة من البنتاغون مفادها أنّه بدأ يفكّر بجديّة في فترة ما بعد بن علي. ويبدو أن قيادة الجيش الوطني فهمت الرّسالة ولازمت الحيّاد إبّان الثورة وهو موقف يدلّ على براغماتية هذه المؤسسة وحرفيتها وانضباط عناصرها لمّا عارضت نظاما فقد كل شرعيته.

ولإنجاح المسار الديمقراطي يجب تدعيم هذا الجيش الذي يحظى باحترام أغلبيّة الشعب التونسي ولم ينزلق إلى أتون المحاصصة السياسية بعد سقوط بن علي واكتفي بمهامه الأمنية بعيدا عن صراعات أهل السياسة. ولإنجاح هذا التوجّه يجب عدم الانسياق أمام دعوات حركة النهضة التي تريد وضعه تحت سلطة المجلس الدستوري أو جعله أداة طيعة في يد السلطة التنفيذية لأننا مازلنا في فترة إنتقالية قابلة للإرتداد والمراجعة ويمكن في هذا المجال الاستلهام من التجربة التركية التي جعلت المؤسسة العسكرية راعية لمدنيّة الدولة ومؤسساتها وضامنة للتداول على السلطة خاصّة وأن استطلاعا أخيرا للرأي أكّد انبهار 66 % من التونسيين بالنموذج التركي نظرا لديمقراطيتها العريقة وحيوية مؤسساتها المدنية.

الدور التركي لافت في حراك الربيع العربي ، هل يستهدف إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية ؟

مصطلح العثمانيون الجدد (YeniOsmanlicilik) أصبح اليوم شائعا في مجال الجغرافيا السيّاسيّة (جيوبليتيكا) ويعني هذه السياسة الجديدة التي دشّنتها حكومة ترغوت أوزال (1983 1989) وعمّقها وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم. لا يجب أن ننسى أن ترغوت أوزال هو أحد مؤسسي هذا الحزب المحافظ. وتهدف هذه السياسة إلى تدعيم مكانة تركيا واستعادة فاعليتها داخل المجال الممتد الذي كانت تشكله إيالات الباب العالي، أمّا شعارها فهو «صفر مشاكل مع دول الجيران». وفي هذا الإطار يأتي التقارب مع سوريا وإيران أي القطب الثاني الغير العربي في المنطقة وكذلك التصالح مع أرمينيا وتشكيل هيئات جديدة للشعوب العديدة ذات الأصول التركيّة. ورغم علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية فقد سعت إلى عدم التصادم مع الصين إبّان اندلاع أزمةالإيغور (وهم مسلمون من أصل تركي) و حافظت على دور «مدني» في أفغانستان و نسبيا أيضا في ليبيا.

وقد ساهمت التحوّلات الجيو سياسية التي عرفها العالم منذ التسعينات على نجاح هذه السياسة التي دعّمت مكانة أنقرة العالمية، خاصّة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وريث روسيا القيصرية التي كانت وراء جلّ انتكاسات الإمبراطورية العثمانية. ورغم الطابع العلماني للدولة التركية الحديثة فإن هذه السياسة تستعيد من النّاحية الرّمزية والثقافيّة مشروع الإمبراطورية الإسلامية التي كان السلطان عبد الحميد الثاني يصبو إلى إحداثها في القرن التاسع عشر وأفشله التدخّل الغربي ومحاولات التقسيم. وقد غدت اليوم فكرة «الوحدة الإسلامية تستهوي قطاعات هامّة من المسلمين نتيجة لفاعلية تيارات الإسلام السياسي والشعور بالغبن الذي يجتاج الشباب العربي إزاء سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفشل الحكومات ذات التوجه القومي في صراعها مع إسرائيل خاصة وأنها حكومات فقدت قاعدتها الشعبية منذ زمن طويل وارتمت كليا في أحضان الراعي الأجنبي.

على ضوء ذلك التحليل كيف ترون العلاقات العربية التركية اليوم؟

لا ننسى أن السلطان سليم الأوّل تلقّب بالخلافة بعد انتصاره على المماليك في مصر سنة 1517 وأن الدولة الإيرانية الصفوية التي كانت تنافسه في المنطقة كانت شيعية المذهب، كما أن خليفته سليمان القانوني تمكن من ضمّ جلّ الأراضي العربيّة تحت سلطته، ممّا جعل من الوطن العربي منذ تلك الفترة المحور الرئيسي للسلطنة العثمانية.

وخلافا لما تدّعيه بعض الدراسات ذات النزعة القومية كان العهد العثماني بالنسبة للمقاطعات العربيّة قبل أزمة القرن التاسع عشر فترة رخاء اقتصادي واجتماعي نسبي أمّا الحركات الانفصالية فقد كانت غالبا نتيجة لنشاط الدول الغربية الاستعمارية ومطامعها الترابية. إذن لعب الموروث المشترك إضافة إلى تراجع المدّ القومي والفكر الناصري دورا هاما في تدعيم مكانة تركيا السنيّة في المنطقة العربيّة منذ التسعينات مما يمكن أن يجعل منها «العمق الاستراتيجي» الأهم حسب عبارة أحمد أوغلو وإلى جانب هذا الموروث فإن البلاد التركية تضمّ أقلية عربية نشيطة مندمجة منذ عقود في المجتمع المحلي, كما أنها طوّرت شبكة هامة من البنوك الاسلاميّة سهّلت تدفّق الأموال الخليجيّة نحوها. وتوجد اليوم في أغلب بلدان الوطن العربي فروع لوكالة التعاون الدولي التركي (Tika).

وتهدف السياسة التركية الجديدة أو «التفاحة الحمراء» كما يسميها الأتراك إلى جعل أنقرة جسرًا يربط العالم العربي بآسيا الوسطى ومنطقة التبادل الاقتصادي للبحر الأسود وكذلك بوّابة أوروبّا الأولى نظرا لتعطّل مشروع المغرب العربي الكبير. هذا الدور التركي الجديد دعّمته أيضا مبادرة «الشرق الأوسط الكبير» الذي بشّر به الرئيس بوش سنة 2004، وساعد على تناميه السريع انهيار العراق والأزمة السورية والثورة المصرية، فالعراق دخل في نفق طويل لا يعرف نهايته إلاّ الله وسوريا مهدّدة بالبلقنة ومصر أضحت غائبة على الساحة الاقليمية نظرا لاضطراب سياسة الإخوان في إدارة شؤون البلاد. صحيح أن المملكة العربية السعودية وإيران حافظتا على فاعليتهما ولكن النخب العربية لا تبدي تعاطفا كبيرا مع معقلي الوهابية والتشيع وتتعاطف طبيعيا مع تركيا السنيّة والديمقراطية المنفتحة على العالم الخارجي والتي تمكنت من دمج أقليتها الدينية بما فيها الأقلية العلويّة. وممّا له مغزاه أن عبد الله غول كان أوّل رئيس أجنبي يزور مصر بعد سقوط نظام حسني مبارك. فهل تدشن هذه الزيارة عهد الزّعامة التركية للشرق الأوسط مثلما دشّنت حملة سليم الأوّل على بلاد النيل في 1517 بداية الخلافة العثمانيّة عديد المؤشرات تدل على ذلك خاصة وأن هذا الدور يلاقي تشجيعا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ولكن العلاقات مع إسرائيل والتدخل العشوائي في شؤون سوريا يمكن أن يفشلا هذه الزعامة.

ثورات الرّبيع العربي هل هي امتداد لمشروع مّا لإعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط والصراع الدّولي في المنطقة؟

هنالك جزء من النخب العربية التي اعتبرت وصول الإسلاميين إلى السلطة نهاية التاريخ والدليل على رجعيّة المجتمعات العربيّة وسلبيتها فراحوا ينظّرون لنظرية المؤامرة الأمريكية الصّهيونية وتناسوا الشباب الذي نزل بالآلاف إلى الشوارع معبّرا عن رغبته في القطع مع الدّكتاتورية. ثم هل وجدت ثورات بمعزل عن التجاذبات الدوليّة، ما هو مصير حركة التحرّر الأمريكي بدون الدّعم الفرنسي وثورة فيتنام بدون الصين والاتحاد السوفياتي. إذن ما العيب أن تلتقي اليوم مصالح الولايات المتحدّة ومصالح شعوب المنطقة التي حوّلت الدّكتاتوريات المحلية حياتها إلى جحيم كما أن الثوار الذين نزلوا إلى شوارع تونس والقاهرة لم يكونوا بيادق تحركهم المخابرات الأجنبية. على أنّي لا أؤمن بنظرية «الدينمو الثقافي» التي ترى في «الوحدة الثقافية والدينية»سببا رئيسا لتزامن هذه الثورات فالثورة اللّيبية كانت بالأساس ثورة خارجية من صنع الناتو وفي سوريا يشنّ ألدّ أعداء الديمقراطية حربا قذرة على هذا البلد بواسطة الجهاد يين الأجانب وبتمويلات قطرية وسعوديّة ضخمة وهو ما ينذر بتكرار المشهد العراقي وإدخال كلّ بلاد الشام في أتون حرب أهلية مدمّرة.

كانت تسريبات ويكيليكس المبرمجة مؤشرا على انطلاق الرّبيع العربي الذي لعبت خلاله الأنترنت شبكات التواصل الاجتماعي دورا رائدا فكانت ثورة الياسمين في تونس (2011) مثلما كانت قبلها ثورات الزهور في جورجيا (2003) والبرتقال في أكرانيا (2004) والزنابق في كرغستان (2005) كلّها تحمل أسماء الورود وكلّها عرفت اليد الناعمة لمنظمة أتبور (Otpor) ومدرسة كنفاس (Canvas) والبرنامج الأمريكي لتطوير الديمقراطية.
أسس منظّمة أتبور الصربي سرجا بودوفيك بمعية من تبقي من ثوارانتفاضة بلغاريا الفاشلة وبمساعدة ضابط أمريكي يدعى روبرت هلفي (Robert Helvey) ويتمثل دورها خاصّة في تكوين المدوّنين وقيادة الاحتجاجات السلمية الشابة وغدا شعارها (القبضة البيضاء المرسومة على إطار أسود) رائجا بعد الثورة التي أطاحت بالرئيس الصربي ملوفيزيتش. وتتأتى تمويلات المنظمة ومدرستها (Canvas) من عدّة شبكات مرتبطة بشكل أو بآخر بأجهزة المخابرات الأمريكية مثل مؤسسة ألبرت إنشتاين وفريدم هاوس ومؤسسة سوروس (Soros). كما يوجد ضمن كوادر هذه المؤسسات العديد من قدماء الضّباط ورجال المخابرات مثل جيمس ولساي، ونعرف أيضا الدور النشيط الذي يلعبه رجال مثل دونالد رمسفيلد وبول ولفوبتس وصمويل هوتنجتون (صاحب كتاب صراع الحضارات) ضمن مؤسسة فريدم هاوس. ومن مدرسة أتبور تخرّج أغلب زعماء حركة 6 أفريل بمصر مثل إسراء عبد الفتّاح وأحمد ماهر وعادل محمد الناطق باسمها.

تتباين القراءات بخصوص الدور الفرنسي والدّور الأمريكي في مسارات الانتقال الديمقراطي بين سياسة الإفشال أو الإجهاض أو الدّعم والاستيعاب، ما رأيكم؟

يؤكد آخر تقرير للتنمية العربية ثقل ميراث الدّكتاتوريات التي جثمت على صدورنا لفترة طويلة مثل تدني الحريات والمعرفة وحقوق المرأة. فالأمية تعصف ب 40% من السّكان الذين يعيش ثلثهم تحت خطّ الفقر مع وجود أكثر من 50 مليون عاطل عن العمل هذا الفشل دفع بالولايات الأمريكية إلى التخلي عن مساندة هذه الأنظمة ممّا جعل منها حليفا طبيعيّا للحكومات التي تمخّض عنها الرّبيع العربي. ويتجلّى الدعم الأمريكي لتونس في القروض العديدة التي قدّمتها لها وفي الضمانات التي تعهّدت بها لدى المؤسسات البنكية العالمية. ورغم أزمة السفارة الأخيرة فإن هذا الدعم سيتواصل لأهمية التجربة التونسية على المستوى الإقليمي وعدم ثبات الأوضاع التي تمخّض عنها هذا الحراك الجماهيري. إذ يصعب إطلاق الأحكام القطعية على ما ستؤول إليه الأمور بعد سنة فحركة النهضة خسرت في ظرف وجيز ثلث ناخبيها وخسر الإخوان بين الرئاسيّة والتشريعية أكثر من نصف كتلهم الانتخابيّة.لكن يبدو أن أمريكا بدأت في الضغط على النهضة قصد دفعها إلى التخلص من كوادرها السلفية وتدعيم مكانة الشق «المعتدل» الذي يقوده حمادي الجبالي و هو ما ينذر بأن هذا الحزب مقبل على تصعدعات هامة نتيجة للصراع الداخلي الذي تساوق الصراع مع مطالب الحليف الأمريكي.

وخلافا لأمريكا فإن فرنسا التي تعشق دبلوماسيتها بصفة تكاد تكون مرضية الاستقرار مازالت تنظر إلى التحوّلات في المنطقة العربيّة عبر وهم «الإرهاب الإسلامي» وقد أثّرت هذه المقاربة على جزء من النخب المحلية التي سقطت في العداء المجاني والبدائي للتيارات الإسلامية برمّتها. ورغم نضج المجتمع التونسي وعراقة تجربته فإن الانتقال الديمقراطي مازال مهدّدا وتشكّل رابطات حماية الثورة أحد التهديدات الكبرى خاصّة إذا ما تحوّلت إلى منظمات شبه حكومية على غرار الحرس الثوري والباسيج الإيرانيين.

المثقّف والعمل السياسي ، حدود التلاقي والتمايز؟

للأسف نرى أن جزءا هامّا من النخبة التونسية ترفض الانخراط في العمل السياسي المنظّم والمساهمة في تأسيس مشروع الثورة السياسي والثقافي وهو من عوامل ضعف المعارضة الديمقراطية. ذلك أن الاستحقاقات الاجتماعية والسياسية للثورة وتأمين الانتقال الديمقراطي لا يمكن أن يصنعهما الساسة بمفردهم لانّ السياسات العامّة محتاجة دوما إلى من ينتج القيم والمعايير ويرسم الخرائط الرّمزية للمجتمع ويعقلن الخطاب للخروج بالصراع السياسي من دائرة السّجال إلى دائرة الفكرة والمشروع.
لكن لا يجب أيضا أن يغلب الصّراع الفكري والقضايا الإيديولوجيّة على الحياة السياسية مثلما نراه اليوم عند بعض الحركات اليساريّة، فالأحزاب السياسية هي منظمات سياسية وليست جمعيات ثقافية وعلميّة.

من هو ناجي جلول؟
أستاذ التاريخ والآثار الإسلامية بجامعة منوبة، أستاذ تعليم عالي، متحصل على الدكتوراه من جامعة السربون (1988). وعلى شهادة الدراسات العليا المتحفية من معهد اللوفو (باريس) (1983) وعلى التأهيل الجامعي من جامعة تونس (2000).
عضو مؤسس للجنة الوطنية للتاريخ العسكري.
عضو مؤسس للمجلّة التونسية للتاريخ العسكري.
أهم مؤلفاته
التحصينات الساحلية لإيالة تونس في العهد العثماني (زغوان 1995).
التحصينات بالبلاد التونسية (تونس 1999).
الرّباطات البحرية بإفريقية في العصر الوسيط (تونس 1999).
المهدية عاصمة الفاطميين [بالفرنسية] (تونس 2005).
مدينة سوسة [بالفرنسية] (تونس 2006).
الشراع والسيف (تونس 2011): حول البحرية العسكرية والتحصينات والموانئ العسكرية بالمغرب العربي الكبير في العصر الوسيط.
قاعدة غار الملح العسكرية (تونس 2012).
عشرات المقالات حول التاريخ العسكري والتحصينات والمعاقل والمعارك في العصر الوسيط.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.