قال صاحبي: تناول حوارنا الأسبوع الماضي مظاهر تدحرج الدولة بمؤسساتها وأجهزتها نحو الأسفل، مؤكدا أن هذا التدحرج تكشفه مظاهر مختلفة يلمسها المواطن في حياته اليومية، ولا يحصل ذلك فجأة، بل عبر مراحل تطول أو تقصر، ومن المعروف أن الصعود يحتاج إلى زمن أطول، وعزيمة أشد مضاء، ويحتاج بالخصوص إلى كفاءة تتبنى رؤية مستقبلية، أما النزول فإنه يحدث بسرعة، وبخاصة في المجتمعات النامية، وما بعد العيان من بيان. يلمس المواطن العادي يوميا هرولة المجتمع نحو الأسفل، يقف على ذلك في تدهور محيطه البيئي، وفي خدمات المؤسسات العمومية الهترئة في مجالات الأمن، والنقل، والصحة، والتربية، ولكنه لا يتفطن بسهولة إلى مظاهر أخرى أشد خطرا على مستقبل المجتمع، مظاهر تشد انتباه المهمومين بالشأن العام، والقادرين على استشراف المستقبل، لا أدري هل توافقني ؟ قلت بكل تأكيد، وأكتفي بضرب مثالين على ذلك: 1- معرض تونس للكتاب، وقد أجمع رواده على أن ظاهرة كتب الشعوذة، ونشر الفكر الغيبي الأسطوري قد اكتسحته بعد الثورة، جميل أنه تخلص من الرقابة باسم الحرية، ولكن الحرية تحتاج إلى تنظيم، وتحتاج إلى رعاية وصيانة، فما معنى أن تقول : إنا فتحنا الأبواب بكل حرية، وتترك يمر عبرها الفكر الأصولي المعادي لقيم الحرية! ليس كل حزمة من الورق يلفها غلاف هي كتاب، وبخاصة عندما تسوق في معرض تشرف عليه الدولة، وفي مرحلة بناء تجربة ديمقراطية لبّها الفكر التجديدي الحرّ، الكتاب الذي ترعاه الدول، وتسعى إلى نشره هو الذي يقدم إضافة في ميدانه. لم نسمع عن معارض كتب أيام ازدهار الحضارة العربية الاسلامية، فقد كانت مخطوطة ونادرة، وكان لها دور خطير الشأن في إفادة حضارة الإسلام من ثقافات الحضارات القديمة، وقد بلغ الأمر تبادل المأمون أسرى الروم عنده بكتب يطلبها منهم، فهل يمكن أن نتصور أن يطلق أسيرا مقابل كتاب بيزنطي يتحدث عن عذاب القبر في التراث المسيحي، بل أكاد أجزم أن ذلك لم يحدث حتى في عصر المماليك، أيام حكم قراقوش ! 2- أما المثال الثاني، وقد سيطر على الساحة الثقافية التونسية، وكان له صدى كبير في وسائل الإعلام فهو تجوال داعية لفكر أصولي ماضوي في المدن التونسية لنشر خطاب لا علاقة له لا بالفكر، ولا بالإسلام، وبلغ الأمر محاولة اكتساح المؤسسة الجامعية، وتساءلت النخبة التونسية كيف تسمح الدولة أن يحاضر في إحدى كلياتها، وفي مدينة إسلامية عريقة أشعت علومها أيام ازدهارها على الأندلس، وعلى جزر البحر الأبيض المتوسط، وعلى إفريقيا جنوب الصحراء ؟ تقول الرواية : إن الحديث في كلية آداب، وعلوم إنسانية كان عن لحم الخنزير ! هل هناك سقوط أكثر من هذا ؟ لما قرأت الخبر رجعت بي الذاكرة إلى أولئك الفطاحل الذي دعوا لإلقاء محاضرات في المؤسسات الجامعية قبل التدهور، تذكرت زيارة طه حسين بعد عام واحد من الاستقلال، وتناول في محاضرته الرائعة بروز ظاهرة الغزل في الشعر العربي في القرن الأول للهجرة بعد أن اتصل الأدب العربي بالبيئة الحضارية في العراق، وبلاد الشام، وتذكرت محاضرة الجامعي السوداني عبد الله الطيب علامة التراث العربي، والتي قارن فيها بين لزوم ما لا يلزم للمعري بنصوص شبيهة بها في الأدب الإنقليزي، وحديث محمد أركون عن ضرورة قراءة النص الديني قراءة جديدة، ومسامرة جاك بارك، وخطاب الفيلسوف الفرنسي الشهير جاك دريدا عن الآنا والآخر، ومفهوم الغيرية في العصر الحديث. قال صاحبي : هل يحدث هذا صدفة؟ قلت: هنا يكمن الخطر، لو حصلت هذه الهرولة نحو القاع صدفة لربما هونا على أنفسنا وقلنا لعلها سحابة صيف، ولكن الناس محزونون لأنك ذلك لا يحدث صدفة، بل هو مخطط تحركه أيد خفية، وتغدق عليه بسخاء لتغيير النمط المجتمعي، ويبدأ ذلك بتهميش التيار العقلاني الذي عرفت به تونس في الفضاء العربي الإسلامي، ولا ينجو من ذلك تيار الفكر الاسلامي المستنير، والذي تمتد جذوره في العصر الحديث إلى القرن التاسع عشر، التيار الذي يمثله أحمد بن أبي الضياف، ومحمد السنوسي، وسالم بوحاجب، والزعيم عبد العزيز الثعالبي، والطاهر الحداد، ومحمد الفاضل ابن عاشور. قال صاحبي: إنه من نكد الدهر أن تفتح الأبواب للناعقين الجدد في أرض القيروان الرائدة، والزيتونة الثائرة بالأمس القريب ! قلت : نأمل أن يقف نكد الدهر عند هذا المستوى، ولا يحمل لنا أنكادا أخرى.