منذ سنوات خلت، تحدّثت دوائر التفكير الاستراتيجيّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة عن مخاطر محدقة بالمصالح الأمريكيّة في المنطقة العربيّة في أفق العقديْن القادميْن. وأنبأت دراسات «مركز نيكسون» مثلا بأنّ أحد الحلول الممكنة لامتصاص تحوّلات كبرى قد تعصف بعروش «ملوك الطوائف» في المنطقة هو المسارعة - إن حدثت - إلى حرفها عن مساراتها وإغراقها في حروب أهليّة ذات طبيعة دينيّة وتيولوجيّة بالأساس. حلّ كهذا سيؤجّل قيام ديمقراطيّات في منطقة من أغنى مناطق العالم، وسيضمن بقاء الحاجة إلى الحامي الأمريكيّ الضامن ليوتوبيا العالم الحرّ، وسيمدّد لعلاقات الوصاية والاستغلال في ظلّ مناويل تنمية اقتصاديّة واجتماعيّة هجينة لا تفعل أكثر من تأبيد الموجود وإن كان ذلك بنكهات مختلفة وبإبهار خاصّ. لست من القائلين بنظريّة المؤامرة، ولا أرتاح لتعليق خيباتنا على كيد «العواذل» من الأغراب، غير أنّي أسوق هذه المصادرة الآن، وقد صحّت بها التجربة ويثبتها العيان يوما بعد يوم. لم تعد الفتنة تغمز بعينيها ولا تطلّ برأسها بل لقد أسفرت عن وجهها وسائر جثمانها بجلاء لا تخطئه العين والبصيرة. لهذا الكائن العجيب، اليوم، اسم وعنوان وموضوع. اسمه فتنة قادمة من ممالك الرمال والبترول على وجه التحديد. عنوانه إعادة فتح بلدان «الربيع العربيّ» بإخضاعها عنوة إلى سلطانها القروسطيّ. الموضوع ثارات قديمة وتجارة بالدين والغيبيّات والأوهام. يوما بعد يوم، ينكشف الغطاء عن الدور القطريّ والسعوديّ - غير الرسميّ بالضرورة - في تفريخ قوى «الثورة المضادّة»، فلا يكاد يمرّ أسبوع دون أن يقبل شيخٌ علينا من «ثنيّات الوداع» بخطاب الفتنة والاحتراب الأهليّ والتعسّف على أنماط العيش والأعراف المرعيّة في البلاد في المساجد والساحات العامّة ودور الثقافة وحتّى الشطآن. صار التونسيّون يتندّرون على هؤلاء بتسميات من قبيل شيوخ النكاح والوطء ورضاع الكبير ومفاخذة الرضيعة بعد تحجيبها، وهلمّ جرّا. في قسمة ضيزى، صرنا نقايض إخوتنا هناك، فنوفد إليهم العلماء وأساتذة الجامعات ويوفدون إلينا شيوخ الكراهية والتعصّب والفتنة. الوسيط في استجلاب هذا الرهط جمعيّات شعبيّة ورسميّة أيضا فرّخها المال المشبوه لتنشط تحت غطاء «خيريّ» و»دعويّ». بحث سريع عن موارد هذه الجمعيّات ومناشطها يؤكّد حجم الاستثمار الذي وقع إنفاقه لبلوغ الهدف.
لقد قلتها سابقا وأعيدها بالصوت العالي: إسلام البترول ليس من مصلحته أن تنجح أيّ تجربة ديمقراطيّة في المنطقة، ولذلك فهو العنوان الحقيقيّ للثورة المضادّة جنبا إلى جنب مع كلّ من تشمله عبارة الطابور الخامس في بلادنا. يضمّ هذا الطابور جميع المستفيدين من حملات هذا الإسلام الغريب، وجميع من يوظّف حملاته لمزيد التوسّع والانتشار، وجميع من ينفّذ أجنداته – علم أو لم يعلم - في إجهاض أشواق الناس إلى حياة حرّة كريمة في ظلّ مجتمع المواطنة والمساواة والعدل لا في ظلّ سلطة الإكليروس والإقطاع الدينيّ.
صارت تونس وجهة محبّبة لبعض شيوخ الكراهية والتعصّب في هجرات رمزيّة لا تخلو من الانتقام والثأر من تميّز النموذج المجتمعيّ التونسيّ والتجربة التحديثيّة التونسيّة في التعليم والصحّة والأحوال الشخصيّة على وجه الخصوص.
لو كان لمريديهم عقول يتدبّرون بها الأمور لسألوا أنفسهم: لو كان لدى هؤلاء الدعاة صلاح لأصلحوا ما بأنفسهم. هل أصلحوا مجتمعاتهم وذوي السلطان فيهم؟ هل يحيا الناس، هناك، بكرامة تليق بمنزلة الإنسان الحرّ؟ هل ممالك الرمال والبترول نماذج اجتماعيّة وسياسيّة يمكن للتونسيّين أن يحتذوها؟ (أتخيّل مجتمعا تونسيا مُسَعْودا ولكن بلا بترول. يا للرعب ! ). هل النموذج السوداني يصلح نموذجا يحتذى، وهذا الشعب الرائع لا يكاد يخرج من حرب حتّى يدخلوه في حرب جديدة منذ عقود حتّى صار لنا بدل السودان اثنين سودان الشمال وسودان الجنوب. هل الصومال هي النموذج، وقد مرّت على أديمه جحافل صنّاع الموت من تجّار الدين؟ وهل تصلح تجربة أفغانستان للاقتداء، وقد تناوبتها على يد «المجاهدين العرب الأفغان» الحروب المقدّسة والأهليّة؟
لا أعرف، حقّا، ما هو النموذج الذي يحلم به مريدو هؤلاء الدعاة إلى الفتنة والموت؟
عودا على بدء، لم تكن تلك الجماعات «الإسلامويّة» (والإسلام منها براء) بمعزل عن الأطماع الاستعماريّة والامبرياليّة في المنطقة منذ المساعدات اللّوجيستيّة البريطانيّة للدعوة الوهابيّة في بادية «نجد» مرورا بالعلاقات الخاصّة التي جمعت الأنقليز بالإخوان المسلمين منذ تأسيسهم سنة 1928 وصولا إلى ظاهرة «المجاهدين» باعتبارهم صناعة أمريكيّة بامتياز. صناعة موّلتها السعوديّة، وكوّنت عناصرها مصر الرئيس «المؤمن» أنور السادات، واحتضنت معسكراتها باكستان. لطالما انقلب السحر على الساحر، وارتدّ السهم على راميه. حصل هذا سابقا حين انقلب «المجاهدون» إلى محور للشرّ ذهب لقتاله الأمريكان في العراق. ويحصل الآن كما جرى لقتيل السفارة الأمريكية في بنغازي أو ما يجري في صحراء مالي. وقطعا سيحصل الأمر ذاته في المستقبل. ولكن هل من معتبر؟