تمر تونس بمرحلة سياسية قد تكون الأهم بين كافة المراحل التي مّرت بها منذ سقوط النظام البائد في الرابع عشر من جانفي 2011 وليومنا هذا وهذه المرحلة هي مرحلة تأسيس مرتكزات الدولة التونسية الحديثة وبناء مؤسسات تستند على دستور دائم في اطار توافق وطني بين مختلف القوى السياسية من خلال إيجاد آلية للتعايش لتجاوز هذه المرحلة الصعبة. الّا أن العمل الإرهابي الإجرامي الذي استهدف أحد الرموز الوطنية البارزة المرحوم شكري بلعيد في هذا الوقت بالذات عمّق من حجم الأزمة التي تتخبط فيها البلاد منذ أسابيع طويلة بعدما وصلت المفاوضات التي دخلت فيها أحزاب الترويكا مع المعارضة الى طريق مسدود في ظل أجواء مشحونة بالخلافات والانقسامات والنوايا غير الحسنة التي يضمرها بعض الفرقاء المشاركون في العملية السياسية التي أريد منها الوصول الى تشكيل فريق حكومي جديد على درب تغليب مصلحة تونس العليا. فهل نحن اليوم في حاجة الى حوار أم إلى مصالحة؟ بحق أجد نفسي اليوم أمام مشهد شبيه وإلى حد كبير بالمشهد الفلسطيني الذي طال فيه أمد الانقسام والتشرذم، فقد ترسّخ الإحباط في دواخلنا بعدما طال الحديث وتشعب حول التحوير الوزاري الذي بات الشغل الشاغل لكل المحرومين والجائعين والمعطلين سواء منهم من كان مستقلا أو من كان له انتماء سياسي يعارض هذا الجانب أو ذاك وكأن فيه الخلاص من العذاب الأليم، وهو ما يجعلني أجزم بأن ما يدور اليوم في تونس هو صراع ارادات ووجود وحاضر ومستقبل بين فصائل وليس أحزاب بعدما أصبح منطق الشحن والتحريض و التجييش هو الطّاغي في كل المنابر بما يشكل نشاذا في المشهد التونسي. ان الحقيقة التي لا نصدح بها سهوا أو عمدا هو أن العنف بدأ على صفحات الجرائد المأجورة والمحزّبة وفي المنابر التلفزية والإذاعية بحيث تم تجهيز طبق الاغتيال في مطبخ الاعلام الموغل في الانحياز والمطيع للرأسمال الفاسد الذي طالما تمعّش من الأنظمة الدكتاتورية ، كما لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتغاضى عما يدور في مساجدنا من تسخير للمنابر من أجل ايصال افكار ذات طابع سياسي حزبي وايديولوجي يصل في كثير من الاحيان الى تقسيم الصف بما يوغل الصدور ويزيد النار زيتا في الوقت الذي أبدت فيه الحكومة ضعفا كبيرا وارتباكا واضحا في التعامل مع هذه الملفات الحساسة. الواضح اليوم أن خطوط الشرخ في تونس قد برزت للعيان بين مختلف المعسكرات السياسية والاجتماعية خصوصا بعدما عجزت كل الأحزاب عن الوصول الى حالة التوافق على برنامج مشترك يضمن الوحدة الوطنية وحالة التوافق الممكنة ومنه الوصول الى تشكيل حكومة ممثلة للجميع ولا تعكس البرامج الحزبية الضيّقة، وكل هذا ينبأ بدخول البلاد في أزمة مفتوحة سياسيا وزمنيا في ظل انسداد آفاق الحلول والمخارج السياسية وفي ظل هوّة آخذة في الاتساع يوما بعد يوم بين كل الأحزاب السياسية بما فيه الترويكا الحاكمة. في ظل كل ما سبق، نجد أن دعوة رئيس الحكومة الحالي حمادي الجبالي إلى تشكيل حكومة تكنوقراط كحلّ للأزمة الحالية هي مقاربة مفيدة للواقع التونسي بما تمثله من ضمانة على درب ايجاد مساحة مشتركة لغالبية الفرقاء السّياسيين، وهنا تجدر الاشارة الى أن الحديث عن الشرعية الانتخابية في ظل نظام مؤقت لا يحتكم الى دستور دائم يطرح الكثير من التساؤلات و يجعل الحديث عن حكم الأغلبية أمرا مثيرا للجدل خصوصا وأنها كانت الحجة الأساسية في رفض مبادرة الجبالي من طرف أحزاب الترويكا الحاكمة حتى وصل الأمر الى اعتبار مبادرة الجبالي انقلابا واضحا على الشرعية بل ذهب البعض الى اعتباره انقلابا واضحا على حركة النهضة ودعما لأعداء الثورة. الى أين نسير بتونس في ظل هذا المنعرج الجديد وهل أصبحنا نقاد بقانون قوة الدفع والتسارع دون اللجوء الى العقل والمنطق ودون أن نقوم بقراءة المستجدات قراءة متأنية ونخضعها للتحليل والبحث والتمحيص بعيدا عن المحفزات والدوافع والمثيرات الميكافيلية التي باتت تحاصر المشهد السياسي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الا أن نسلم بأن ما يحدث في تونس لا يعدو أن يكون تدميرا ذاتيا يقوده جزء من الدولة، فأصل المأزق اليوم بين أيدي النخب الذين أصبحوا جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل بعدما اختلطت الأوراق وتبعثرت في وقت بات فيه الجميع يبحث امّا عن تموقع جديد أو عن ترسيخ تموقعه في دواليب الدولة استعدادا للمعركة الانتخابية القادمة. أستاذ جامعي* عضو نقابة كتاب تونس