عبد الباقي خليفة:أعلنت رومانيا قبل أيام عن تفكيك آخر معسكرات الاعتقال السرية التابعة لوكالة الاستخبارات الأمريكية فوق أراضيها، ذلك فيما تتوالى التقارير التي تتحدث عن عمليات اختطاف لناشطين مسلمين في الدول الغربية عن طريق الاستخبارات الأمريكية "السي أي إيه" بالتعاون مع أجهزة تلك الدول أو بعضها. وحازت دول أوروبا الشرقية، التي وُصفت بالستار الحديدي قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، على النصيب الأوفر من عمليات القرصنة الاستخبارية الأمريكية، وإن كانت المعلومات حول تفاصيل ذلك شحيحة نسبيًّا بحكم طبيعة تلك الدول التي لم تتحرر تماماً من سطوة الأجهزة الأمنية، لكن الدول التي تتمتع بنسبة أعلى من حرية التعبير، ولاسيما دول أوروبا الغربية، تمكنت صحفها ومجتمعها المدني من الكشف عن الكثير من الحقائق بينما تبقى الدول العربية كمثلث بارمودا، سرها في الدوامة. ففي النمسا ذكرت أسبوعية "بروفيل" في عددها الأخير أن وكالة الاستخبارات المركزية (CIA )، تورطت بخطف شخصين مسلمين كانا يقيمان في النمسا، أحدهما له صلة بأحد الأئمة المصريين الذين تم اعتقالهم في إيطاليا عام 2003 م. وأوضحت الصحيفة أن وكلاء يتعاونون مع المخابرات الأمريكية اختطفوا جمال منشاوي، وهو طبيب مصري وعضو سابق بمجلس شورى الهيئة الدينية بمدينة غراتس، بينما كان متوجهاً لأداء العمرة بمكة المكرمة في أواخر عام 2002، وذلك عندما توقفت الطائرة التي كان على متنها في مطار عمان بالأردن. "عملية أبو عمر" وأشارت المجلة النمساوية إلى أن "منشاوي كان على صلة مع أسامة مصطفى حسن، وهو شيخ مصري كان يُعرف ب "أبو عمر"، والذي اختطف هو الآخر على أيدي عملاء المخابرات الأمريكية بمدينة ميلان الإيطالية في شهر فبراير 2003"م. ووفقاً لمصادر الصحيفة فإن "كلاً من الرجلين المصريين سُلما سراً إلى السلطات الأمنية المصرية التي بادرت باعتقالهما وإيداعهما السجن". ثم عاد أبو عمر إلى ايطاليا، حيث لا تزال قضيته أمام القضاء. وكانت السلطات الإيطالية المختصة قد أجرت سلسلة تحقيقات حول اختطاف الشيخ أبو عمر، أفضت إلى أن أعضاء في جهاز المخابرات العسكرية الإيطالية "Sismi " تعاونوا مع وكالة المخابرات الأمريكية في تلك العملية، حيث تم توقيف اثنين من كبار المسؤولين في جهاز المخابرات العسكرية الإيطالية في مايو الماضي للاشتباه بتورطهما بعملية خطف أبو عمر.كما أصدرت المحكمة الإيطالية المختصة مذكرة توقيف أوروبية بشأن بحق 22 عميلاً للمخابرات الأمريكية مشتبه بتورطهم في اختطاف "أبو عمر" الموجود الآن في أحد السجون المصرية. كما أكد تقرير "بروفيل" أن أحد خبراء الكمبيوتر المسلمين الأفارقة المقيم في العاصمة النمساوية فيينا، تعرّض بدوره للاختطاف من قبل وكلاء للمخابرات الأمريكية أثناء توقفه في مطار عمان في يناير 2003". ونسبت المجلة النمساوية إلى الرجل قوله: "لقد تعرضت للضرب، وحُرمت من النوم لعدة ليالٍ، كما قام خبراء أردنيون وأمريكيون باستجوابي". وأشار إلى أنه اعتُقل لمدة ثلاثة أشهر قبل أن يطلَق سراحه. واستناداً للمجلة النمساوية أيضاً فإن "جهاز المخابرات النمساوي، BVT ، يتعاون عن قرب مع وكالة المخابرات الأمريكية في عمليات الخطف"، بيد أن وزيرة الداخلية النمساوية رفضت إعطاء أية معلومات عن تلك العملية. ولاحظت "بروفيل" أن "السلطات المعنية في الاتحاد الأوروبي تجري تحقيقات منذ ظهور تقارير تفيد بأن دول الاتحاد تساعد واشنطن في سياستها غير القانونية، التي يتم بموجبها نقل رعايا أجانب مشبوهين إلى بلدان أجنبية بدون عملية قانونية ". وفي هذا السياق، تعتبر المنظمات المهتمة بالدفاع عن حقوق الإنسان أن "إجراءات التسليم غير العادية تمثل انتهاكاً للقانون الدولي، حيث إن المشتبه بهم يتعرضون في نهاية المطاف للتعذيب في البلد الثالث". تحقيقات أوروبية وكانت مجلة دير شبيغل الألمانية قد كشفت النقاب عن تحقيقات يجريها وفد برلماني أوروبي من "لجنة الأمن البرلمانية" المعنية بحقوق الإنسان، حول تورط أجهزة الاستخبارات المقدونية والبوسنية والإيطالية في العمليات السرية للاستخبارات الأمريكية، ونقلها لمتهمين بالإرهاب عبر المطارات الأوروبية. وشملت التحقيقات استجواب المسئولين الأمنيين والموظفين في وزارات المالية، حيث عثرت اللجنة على ما وصفه أحد أعضائها ديك مارتي ب "الأمر الذي يصعب فهمه" ولاسيما فيما يتعلق بخالد المصري الذي تم اعتقاله في مقدونيا سنة 2004، وما يتعلق أيضاً بهوية الجهة التي سددت أجرة الفندق الذي أقام فيه المصري طيلة فترة احتجازه في سكوبيا، إذ كيف يمكن لعاطل عن العمل الوصول من ألمانيا إلى مقدونيا خلال فترة عيد الميلاد على متن حافلة لتوفير بعض النقود ويعتصم بهذه الحجرة لمدة 23 يوماً ثم يسدد الحساب البالغ بضعة آلاف يورو من جيبه. وتختلف رواية الاستخبارات المقدونية المقدمة للجنة الأمن بالبرلمان الأوروبي عما ذكره خالد المصري الذي تحدث للجنة عبر الانترنت، قائلاً: "احتُجزت في غرفة في مقدونيا ولم يكن يُسمح لي بالخروج منها أبدًا، ولم يختلف أسلوب الحرس هناك عن ممارسات السجَّانين، فقد خضعت لحراسة مشددة حتى عند الذهاب للحمام". وعثرت اللجنة على أدلة مزورة تتعلق هذه المرة بعملية إقلاع طائرة "السي أي إيه" من مطار سكوبيا في 23 يناير 2004، و طبقاً لرواية المصري فإن تلك الطائرة نقلته إلى أفغانستان بعد أن حطت في بغداد. من بغداد إلى كابول وبعد مراجعة لوائح هيئة الرقابة للطيران الأوروبي سجلت اللجنة البرلمانية الأوروبية توقف الطائرة البيونغ 737 رقم 313 بي تابعة لشركة وهمية على مدرج مطار سكوبيا لتتابع مسارها، وهي طائرة صادفها البرلمانيون الأوروبيون سابقاً لدى تحقيقهم في قضايا اختطاف أخرى، وأمام حقيقة صارخة كهذه اضطر وزير الداخلية المقدوني وعناصر الاستخبارات المقدونية للاعتراف بإقلاع الطائرة من سكوبيا. المشكلة أنه لا أحد سأل عن أهداف الرحلة ولا عن هوية ركابها وطاقمها، وهو أمر فريد من نوعه، كما تقول اللجنة الأوروبية، خاصة أن الطائرة توجهت إلى كابول بعد أن توقفت في بغداد فترة اندلاع الحرب في العراق، "لذا من غير المعقول أن تتوقف الطائرة المدنية في بغداد لهدف سياحي". وقالت ماريا نايسفسكي، الناشطة في منظمة هلنسكي لحقوق الانسان بمقدونيا: "من الممكن حدوث أعمال كهذه، والسلطات تراجعت عن نفيها السابق أمام الحقائق الدامغة، لقد حصلت وتحصل أمور كهذه هنا، لأن ديمقراطيتنا ضعيفة حتى الآن، وليس لدينا آلية رقابة فعلية تسمح للمجتمع المدني بالاعتراض على ما ترتكبه السلطات من أعمال غير مشروعة، وبفتح تحقيقات ملائمة". وتعاني مقدونيا ودول البلقان من مشكلة انتهاك حقوق الإنسان، لعدم إدراك بعض الجهات لأهمية الموضوع ودوره في الارتقاء بالإنسانية من البربرية في النظام التوليتاري والكولياني إلى القيم الحضارية الديمقراطية الحقيقية". البوسنة في القائمة ولا يقتصر رصد اللجنة على تصرفات السلطات المقدونية؛ بل عدة دول أخرى، من بينها البوسنة، حيث تم اعتقال 6 جزائريين في أكتوبر سنة 2001، ووُجهت لهم اتهامات بتهديد سفارتي الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا، لكن القضاء البوسني برَّأهم من تلك التهم وأمر بإطلاق سراحهم رغم الضغوط التي مورست عليه، فتم تسليمهم للاستخبارات الأمريكية التي نقلتهم على متن الطائرة بوينج 737 رقم 313 بي التابعة لشركة وهمية إلى معسكر غوانتانامو، عبر مطارات أوروبية لم يفصح عنها حتى الآن. ولا تزال التحقيقات جارية بهذا الخصوص لمعرفة المزيد من أسرار تلك الرحلة، وبما أن الحكومة البوسنية الحالية لا علاقة لها بتلك العملية فإنها تتعاون بالكامل، بل بإصرار مع التحقيقات، وكان البرلمان البوسني قد أقر بعدم شرعية ترحيل الجزائريين الستة، وقدمت الحكومة البوسنية تعويضات رمزية لأسر الجزائريين الستة، وطالبت الإدارة الأمريكية بإطلاق سراحهم، وقد أطلق سراح 3 منهم وعادوا للبوسنة بداية العام الجاري، ولا يزال الآخرون في غواتنانامو لأنهم لا يحملون الجنسية البوسنية. تواطؤ إيطالي وكشفت اللجنة البرلمانية الأوروبية تورط 25 عنصراً من الاستخبارات الأمريكية في عملية احتجاز الإمام أبو عمر المصري وتعذيبه ومن ثم نقله إلى مصر ليتلقى وجبات أخرى من التعذيب في زنازين الداخلية المصرية، وقد واجهت اللجنة الأوروبية الاستخبارات الإيطالية بسؤال عما إذا كانوا متورطين في تلك العملية أو غير مؤهلين للوظائف التي يقومون بها في حالة عدم علمهم بما كان يجري فوق أراضيهم من عمليات سرية للاستخبارات الأمريكية. رئيس الاستخبارات العسكرية الإيطالية نيكولا بوفوري أكد أن " الجهاز الذي أترأسه لم يتعاون مع الأوروبيين"، لكنه لم ينف تورط أجهزة استخبارات أخرى في بلاده في العملية، ومع ذلك لم تصدق اللجنة الأوروبية أقواله؛ إذ "لا يُعقل أن يتصرف 25 عنصراً من الاستخبارات الأمريكية كما يحلو لهم فوق الأراضي الإيطالية لبضعة أسابيع دون علم الاستخبارات العسكرية الإيطالية "، كما "لا يمكن أن يُنقل أشخاص بطرق غير شرعية عبر مطار روما دون أن يعلم عناصر الاستخبارات المحلية بذلك.. إنه أمر منافٍ للعقل، أو أن الاستخبارات الإيطالية لا تتمتع بأي كفاءة". وأشارت اللجنة الأوروبية في تقريرها الأخير استناداً لتقرير هيئة الرقابة الملاحية الجوية الأوروبية إلى أن وكالة الاستخبارات الأمريكية سيَّرت نحو ألف رحلة جوية، لكن الأمر لا يتعلق بهذه المعلومة القديمة نسبيًّا، والتي اعتبرتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس مبالغاً فيها، وإنما بتورط الاستخبارات المحلية في ذلك. وتؤكد اللجنة أن القضية لا تتعلق بالتعاون ضد الارهاب وإنما بخرق القوانين والأعراف الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان "ومن ذلك احتجاز 6 جزائريين نُقلوا من البوسنة إلى جوانتنامو دون محاكمة منذ فبراير 2002 م"، وهكذا "استجابت بعض الجهات لذلك وألغت القوانين المرعية المدللة على تفوق الحضارة لصالح قانون اللاقانون، وأوروبا لم تحرك ساكناً ودفنت رأسها في التراب، وعلينا التحرك لوقف التدهور إذا شئنا إنقاذ مكاسب الإنسانية وتطورها الحضاري". مشاركة في التعذيب ولم يقتصر الأمر على التعاون مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية في خطف ونقل الناشطين فحسب؛ بل وصل التواطؤ إلى حد المشاركة في عمليات التعذيب، فقد اتهم السفير البريطاني السابق لدى جمهورية أوزبكستان، غريغ موراي، أجهزة المخابرات الغربية والألمانية بشكل خاص بالقيام بتعذيب معتقلين في أوزبكستان للحصول على معلومات. وأكد السفير البريطاني السابق، في شهادة له يوم 20 إبريل الماضي أمام اللجنة البرلمانية الأوروبية أن أجهزة مخابرات غربية، ومن بينها ألمانية قامت بتعذيب أشخاص، ينتمون إلى جنسيات مختلفة في أوزبكستان للحصول على معلومات حول تورطهم المزعوم في أعمال إرهابية. وقال موراي: "لديَّ معلومات مؤكدة تثبت أن جهاز المخابرات الألماني يتعاون بصورة وثيقة مع نظيره في أوزبكستان وأن السفراء الأجانب في أوزبكستان، ومن بينهم السفير الألماني، على علم بهذا الأمر". وأضاف موراي في شهادته أن "بريطانيا والولاياتالمتحدةالأمريكية اتخذتا، في وقت سابق، قراراً سياسياً يقضي بالحصول على معلومات من خلال تعذيب أشخاص معتقلين بشكل غير قانوني، على خلفية الاشتباه بتورطهم أو صلتهم بأعمال إرهابية في بلدان أخرى". وكانت اللجنة نفسها استمعت خلال شهر مارس الماضي، إلى شهادة الألماني من أصل لبناني، خالد المصري، الذي قال إنه تعرض للاستجواب من قِبل شخص ألماني بعد عملية اختطافه من مقدونيا ونقله إلى معسكر للاحتجاز في أفغانستان، وإنه عانى من المعاملة السيئة، وذلك خلال عام 2003. هذا ومن المقرر أن تقدم اللجنة التابعة للبرلمان الأوروبي أول تقرير لها حول ما توصلت إليه من نتائج قبل نهاية العام الجاري. الاسلام اليوم الاحد 02 رمضان 1430 الموافق 23 أغسطس 2009