الرابطة الأولى: النادي الصفاقسي يطالب بصافرة أجنبية في الكلاسيكو    استعمال'' الدرون'' في تونس : وزارة الدفاع تكشف مستجدات المشروع الجديد    مدنين: قريبا تركيز وحدة الاساليب الحسية لتذوق حليب الابل بمعهد المناطق القاحلة    الهند: ارتفاع حصيلة انفجار السيارة إلى 12 قتيلا    أطباء بلا حدود تكشف: الأوضاع الإنسانية بغزة ما تزال مروعة..    نواب ينتقدون مشروع ميزانية الدولة لسنة 2026: "استنساخ للسابقة واعتماد مفرط على الجباية"    الترجي الرياضي: توغاي يعود إلى تونس.. ورحة بأيام ل"بن سعيد"    لا تفوتوا مباراة تونس وموريتانيا اليوم..تفاصيل البث التلفزي..#خبر_عاجل    محاولة سطو ثانية على لاعب تشلسي... واللاعب وأطفاله ينجون بأعجوبة    عاجل : مداخيل'' البروموسبور'' تحقق قفزة وقانون جديد على قريب    عاجل: هزة أرضية بقوة 5.36 ريختر تُحسّ بها عاصمة بلد عربي    ائتلاف السوداني يحقق "فوزاً كبيراً" في الانتخابات التشريعية العراقية    فنزويلا: مادورو يوقّع قانون الدفاع الشامل عن الوطن    انطلاق معرض الموبيليا بمركز المعارض بالشرقية الجمعة 14 نوفمبر 2025    يوم مفتوح لتقصي مرض الانسداد الرئوي المزمن يوم الجمعة 14 نوفمبر بمركز الوسيط المطار بصفاقس    وزارة المالية: أكثر من 1770 انتدابا جديدا ضمن ميزانية 2026    قفصة: وفاة مساعد سائق في حادث جنوح قطار لنقل الفسفاط بالمتلوي    النجم الساحلي: زبير بية يكشف عن أسباب الإستقالة.. ويتوجه برسالة إلى الأحباء    تونس تشارك في بطولة العالم للكاراتي بمصر من 27 الى 30 نوفمبر بخمسة عناصر    تعاون ثقافي جديد بين المملكة المتحدة وتونس في شنني    أحمد بن ركاض العامري : برنامج العامين المقبلين جاهز ومعرض الشارقة للكتاب أثر في مسيرة بعض صناع المحتوى    "ضعي روحك على يدك وامشي" فيلم وثائقي للمخرجة زبيدة فارسي يفتتح الدورة العاشرة للمهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بتونس    ليوما الفجر.. قمر التربيع الأخير ضوي السما!...شوفوا حكايتوا    تحطم طائرة شحن تركية يودي بحياة 20 جندياً...شنيا الحكاية؟    معهد باستور بتونس العاصمة ينظم يوما علميا تحسيسيا حول مرض السكري يوم الجمعة 14 نوفمبر 2025    تحب تسهّل معاملاتك مع الديوانة؟ شوف الحل    سباق التسّلح يعود مجددًا: العالم على أعتاب حرب عالمية اقتصادية نووية..    عاجل/ هذه حقيقة الأرقام المتداولة حول نسبة الزيادة في الأجور…    اسباب ''الشرقة'' المتكررة..حاجات ماكش باش تتوقعها    خطير: تقارير تكشف عن آثار جانبية لهذا العصير..يضر النساء    الجبل الأحمر: 8 سنوات سجن وغرامة ب10 آلاف دينار لفتاة روّجت المخدرات بالوسط المدرسي    حادث مؤلم أمام مدرسة.. تلميذ يفارق الحياة في لحظة    عاجل/ بعد وفاة مساعد السائق: فتح تحقيق في حادث انقلاب قطار تابع لفسفاط قفصة..    أحكام بالسجن والإعدام في قضية الهجوم الإرهابي بأكودة استشهد خلالها عون حرس    بش تغيّر العمليات الديوانية: شنوّا هي منظومة ''سندة2''    تحذير عاجل: الولايات المتحدة تسحب حليب أطفال بعد رصد بكتيريا خطيرة في المنتج    عاجل: امكانية وقوع أزمة في القهوة في تونس..هذه الأسباب    فريق تونسي آخر يحتج رسميًا على التحكيم ويطالب بفتح تحقيق عاجل    طقس الاربعاء كيفاش باش يكون؟    تقديرا لإسهاماته في تطوير البحث العلمي العربي : تكريم المؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي في الإمارات بحضور كوكبة من أهل الفكر والثقافة    محمد علي النفطي يوضّح التوجهات الكبرى لسياسة تونس الخارجية: دبلوماسية اقتصادية وانفتاح متعدد المحاور    الديوانة تُحبط محاولتين لتهريب العملة بأكثر من 5 ملايين دينار    عاجل/ الرصد الجوي يصدر نشرة استثنائية..    الكتاب تحت وطأة العشوائية والإقصاء    الحمامات وجهة السياحة البديلة ... موسم استثنائي ونموّ في المؤشرات ب5 %    3 آلاف قضية    وزارة الثقافة تنعى الأديب والمفكر الشاذلي الساكر    عاجل/ غلق هذه الطريق بالعاصمة لمدّة 6 أشهر    عاجل/ تونس تُبرم إتفاقا جديدا مع البنك الدولي (تفاصيل)    فريق من المعهد الوطني للتراث يستكشف مسار "الكابل البحري للاتصالات ميدوزا"    تصريحات صادمة لمؤثرة عربية حول زواجها بداعية مصري    عاجل/ وزارة الصناعة والمناجم والطاقة تنتدب..    مؤلم: وفاة توأم يبلغان 34 سنة في حادث مرور    عاجل/ وزير الداخلية يفجرها ويكشف عن عملية أمنية هامة..    الدكتور صالح باجية (نفطة) .. باحث ومفكر حمل مشعل الفكر والمعرفة    صدور العدد الجديد لنشرية "فتاوي تونسية" عن ديوان الإفتاء    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلمانية.. مفهوم للترك أم للتبني؟:منصف المرزوقي
نشر في الفجر نيوز يوم 04 - 08 - 2010

بعد خروجي من تونس، نظّمت لي مجموعة من الإسلاميين محاضرة في باريس عن وضع حقوق الإنسان في الوطن. بدأت بالقول إنني سأتحدث من موقعي كديمقراطي حقوقي علماني. كم فوجئت ورئيس الجلسة يخطف مني الميكروفون ليقول الدكتور لا يقصد أنه ملحد ثم يرجعه لي لأواصل.
شعرت بحرج مشوب بالاستنكار وبدا لي الأمر بقلة ذوق من يبدأ بتقديمي على أنني لست عميلا. إلا أن هذه الحادثة نبهتني أن العلمانية بالنسبة للإسلاميين مرادفة للإلحاد. وأنه ليس لي أنا نفسي عنها غير بعض الأفكار السطحية تتلخص في أن المفهوم ترجمة غير موفقة للمصطلح الإنجليزي secularism، وللفرنسي laïcité، أن بعض أصحابه يخفون وراءه عداء بدائيا للإسلاميين وحتى للإسلام، ويخفي بعض أعدائه عداء لا يقل بدائية للديمقراطيين والديمقراطية. خاصة أنه يختزل في الشعار المبتذل: فصل الدين عن الدولة.
كان من الضروري العودة للكتب لفهم أعمق وذلك عبر استكشاف طريقين متوازيين: الأول درس تطور المفهوم داخل الثقافة الغربية التي أنتجته وعلى وجه التحديد الفرنسية. والثاني تتبع زرعه في حضارتنا وتحديد من حاول سقي النبتة الجديدة أو اجتثاثها ودوافع هذا وذاك، المعلن عنها والمخفي.
ليست هذه المقالة المقتضبة مكان التوسع في هكذا إشكالية. لذلك أحيل من يريد التعمق إلى كتابات الغربيين: ديدرو، وفولتير، ولوك، وجفرسون، وجول فرّي، وبرتراند راسل وما أطول القائمة. وإلى كتابنا بين المناصرين والمناهضين: الجابري، والمسيري، والقرضاوي، ونصر أبو زيد، وحسن حنفي، وهيثم مناع، وراشد الغنوشي، ورفيق عبد السلام، وما أطول القائمة هنا أيضا.
كل ما توصلت إليه لخّص في كتاب نشر بالفرنسية سنة 2004 عنوانه Le mal arabe ''الداء العربي''، وكنت أتوقع له بعض النجاح. لكن "ربها واحد" والبشر يتصرفون بنفس الكيفية في كل عصر ومكان: إن لم تسمعهم ما يريدون سماعه، هددوا بقطع لسانك كما يفعل "المتخلفون"، أو تجاهلوك كما يفضل "المتقدّمون".
طبيعي ألا يسرّ المثقفون اللائكيين الفرنسيين (وأتباعهم في بلدان المغرب العربي) بأطروحات الكتاب بخصوص مفهوم يعتبرونه "ماركة مسجلة" مثل الشامبانيا وعطور ديور ويريدون تصديره للعالم أجمع وهي:
- أن فصل الدين عن الدولة كما نظمه قانون 1905 في فرنسا جاء ليختم صراعا تاريخيا بين كنيسة كاثوليكية كانت دوما مع الإقطاع، ودولة هي وريثة الثورات المتتالية. لكن الإسلام كان في تاريخنا ولا يزال راية الثوار ضد الفساد والظلم.
- أن الطلاق الذي حصل بين الدين والدولة في فرنسا كان ممكنا لوجود جسمين مهيكلين أي الكنيسة والدولة. لكن عندنا لا وجود لكنيسة، فبين من ومن يقع الطلاق؟
-عوض دخول النخب الفرنسية في محاولة فرض نموذجها لعلاقة الدين والدولة وتلقف النخب العربية الفكرة دون اعتباره جذورها التاريخية والدخول في إسقاطات لا معنى لها، من الأحسن التركيز على الديمقراطية وهي تضمن كل الحريات، ناهيك عن كونها أرضية تتلاقى عليها كل الثقافات بدل اللائكية التي تبقى خاصية ثقافية فرنسية لم تستطع تصديرها حتى لأوروبا.
تقول إذن شهد شاهد من أهله، ماذا بقي لرمي المفهوم في سلة المهملات؟ المشكلة أن عقلي الباطني قاوم بشدة فكرة التخلي عنه وكأنه منتبه أن هناك رضيعا لا يجب أن يرمى مع الماء القذر في الحمام.
أمام المعضلات الفكرية المستعصية، يجب أحيانا تركها للوعي الباطني وكأنّ هناك آليات فكرية في قاع الدماغ تتلقفها لتعمل عليها بصمت قبل أن تقذف بالنتيجة إلى الوعي.
حصل القذف من الأعماق المجهولة يوم سألني صحفي عن موقف اللجنة العربية لحقوق الإنسان من مشروع قانون فرنسي يمنع الحجاب، فرددت أن موقف حركة حقوق الإنسان عربيا ودوليا كان وسيبقى إدانة فرض لبسه بالقوة كما يفعل النظام الإيراني، وإدانة نزعه بالعنف كما يفعل النظام التونسي.
فجأة والكلمات تتدافع، استقامت الأفكار حول تصوّر للعلمانية يتجاوز مبتذلة أنه لا يجب أن يكون للدولة دين أوللدين دولة .
لنحلّل قضية الحال (الحجاب). بداهة نحن أمام تصرف مشين لاستبدادين: الإيراني الذي استولى على الدولة باسم "الدين" ويستعمل آلياتها لفرض لبس الحجاب على من لا تريده، والتونسي الذي استولى على الدولة باسم الوطنية والحداثة وحتى الديمقراطية ويفرض بالعنف خلعه على من لا تريد خلعه.
هنا على القارئ الانتباه للفكرة الأساسية لهذا النص وعدم تأويلها خطأ.
ليتصوّر أن فيروسا حصد البشرية عن بكرة أبيها. بالطبع سيبقى الخالق والخلق والخليقة (بقية الكائنات الحيوانية والنباتية) لكن كل الكيانات الرمزية مثل الموسيقى والأدب والأديان ستختفي باختفاء الإنسان وهي لا توجد إلا بوجوده. ليتصوّر أن هذا الفيروس عنصري ولم يحصد إلا المسلمين. طبيعي أن الإسلام سينقرض كدين لأنه ليس كيانا هلاميا مستقلا عن وجود المسلمين.
لنفرض أن بعض "الكفار" اكتشفوا القرآن والأحاديث في مكتبة مهجورة فأبهروا وقرروا الإيمان. ها قد عاد الإسلام، لكن بهم، هم حفنة من البشر وهو سينتصر بهم أو سيفشل بهم. لقائل أن يقول لكن الإسلام أكبر من كل المسلمين فهو كلام الله، وهو قيم، وهو تاريخ يعبر الأجيال. طيب، لكن من يحفظ كلام الله؟ من ينقله؟ من يصنع الأحداث التي تشكل الذاكرة الجماعية ومن ينقل هذه الذاكرة إن لم يكونوا بشرا؟ لا وجود إذن للإسلام إلا بالمسلمين. ومن ثمة فإن كلمة محمد عبده "ما أجمل الإسلام وما أقبح المسلمين" لغو فارغ من كل معنى. إنه نفس القانون بخصوص الأديان الأخرى أو الديمقراطية أو العلمانية.
معنى هذا أن الفاعل في إشكالية الحجاب في إيران ليس الإسلام (المطلق الوهمي المعزول عن تياراته وبشره) وإنما المسلمون بل صنف جدّ محدّد منهم (مسلمون، إسلاميون، شيعة، ثوريون محافظون)، وفي تونس الفاعل ليس "الدولة" (المطلق الوهمي الآخر المعزول عن مؤسساته وبشره) وإنما أناس لا يخشون على تسلطهم شيئا قدر خشيتهم من الإسلام السياسي ويتقربون بمحاربته لأعدائه المحليين والغربيين. طلبا لدعم تواصل سلطتهم. ماذا عن الإسلاميين؟
هم ينتفضون أمام المفهوم لأنهم يرون فيه تشريع طردهم من ساحة الفعل السياسي والاجتماعي ليعيشوا في الزوايا والمساجد. لماذا يصر عليه اللائكيون في الملحقات الثقافية الفرانكوفونية؟ لأنهم يعتقدون أنه يكفل لهم البقاء وحدهم في السوق السياسية بلا منافسين خطرين مثل الدينيين الذين يجيدون الضرب على الأوتار الحساسة لعامة الناس. هنا أقول عمدا الدينيين لا المتدينين لضرورة التفريق بين هؤلاء -وهم كل من يمارسون الشعائر الدينية عن إيمان شخصي- وبين الدينيين -وهم من يستعملون الغطاء الديني بحثا أو حفاظا على المكانة والسلطة وقد يكونوا متدينين أو كمن نعرف ولا نعرف من الملوك والأمراء عشاق الخمر والميسر وكل أصناف الفساد.
كم صدق التوسر "في مقولته الشهيرة : صراعاتنا النظرية هي في الواقع صراعات سياسية في النظرية.
السؤال الآن ما "وقود" المعركة بين أنصار المفهوم وأعدائه؟ تاريخيا لم يعلن اللائكيون الفرنسيون "جهادهم" ضد الكاثوليكيين إلا للانتقام من استبدادهم القديم وخوفا من تجدده. نفس الشيء عن تعلق بعض العلمانيين في المغرب العربي بالمفهوم وهم يرون فيه السدّ المانع أمام اكتساح الإسلاميين المتهمين بالإعداد للاستبداد (وهو ما أدى ببعضهم مثل محمد الشرفي في تونس وسعيد السعدي في الجزائر إلى التحالف مع استبداد العصابات لحمايتهم من استبداد الجماعات).
حجر الزاوية في الصراع إذن الاستبداد ولا بدّ من العودة إليه مطولا لفهم دوره في توليد العلمانية ويمكن تقديم الأفكار الأساسية كالتالي:
- الاستبداد تصرف أفراد وجماعات يواصل عبر التاريخ في أشكال متزايدة التعقيد عنف الصياد البدائي المعتمد على قوته البدنية لافتكاك من يشاء من نساء القبيلة واقتطاع أكبر قدر من لحم الصيد والتنكيل بكل من يهدد سيطرته.
- منطلق التصرف الوجه المظلم لما يسميه المتنبي شيم النفوس، أي كل المترسب داخلنا من جشع الطفل وعنفه وظلمه ونرجسيته وقلة نضجه (كم منا لا يكبرون رغم بلوغهم الشيخوخة) وتدعم هذا الاستعداد الغريزي ظروف ندرة المواد وما تفرضه من صراع محموم حولها، ثم تخلق القلّة المنتفعة –قل تختلق- الإيدولوجيا لتبريره ومنها الكتابات التي يقوّل فيها الله اذهبوا لتلك الأرض واقتلوا من فيها وتمتعوا بها فقد وهبتها لكم.
- في إطار المشروع التاريخي الجبار الذي يمكن تسميته الأنسنة أي انتقال البشر من الآدمية بثقلها الغريزي الحيواني إلى الإنسانية بما تعنيه من ترويض الغرائز والسمو على الطبيعة الحيوانية فينا، خلقت البشرية الدين والفلسفة والأخلاق وحقوق الإنسان وأهم جزء من برنامجها كان ولا يزال وضع حد للاستبداد بما هو تنظيم مجحف وموجع وظالم بحق الأغلبية الساحقة. لكن قوة الوجه المظلم لشيم النفوس وتجدده عبر كل جيل وتواصل الظروف الموضوعية التي تدعمه.
- (ندرة المواد وكثرة الأفواه) جعلت الأنسنة هذه تنهض وتكبو من جديد والاستبداديين (الأطفال الكبار العنيفين الجشعين النرجسيين) يعيدون الاستيلاء كل مرّة على آليات السلطة الثلاث الدولة والدين والمال، لفرض المصلحة الخاصة على العامة بالقوة.
- لمحاربة الاستبداد بالمال جربت الأنسنة الشيوعية لكنها فشلت وهي استبداد يعوض استبدادا. ولمحاربة الاستبداد بالدولة جربت انطلاقا من الغرب الديمقراطي (هذا المشروع الذي يحمله الديمقراطيون أي الأطفال الذين كبروا فعلا وفهموا أنه لا خلاص لهم على حساب الآخرين وإنما معهم ولأجلهم). ولمحاربة الاستبداد بالدين جربت العلمانية في فرنسا أساسا وبعض البلدان الأخرى مثل تركيا والمكسيك.
إلى هذا الحدّ من توضيح المفهوم يمكن القول إن العلمانية تاريخيا ردّ خصوصي على إشكالية عامة.
الإشكالية العامة: كيف يمكن منع المستبدين باسم الدين من التمكن من الدولة ومصادرتها لمصالحهم الخاصة وتكليف المجتمع ما يكلفه كل نظام استبدادي من آلام عبثية؟
الردّ التجريبي الخصوصي (اللائكية الفرنسية): بفصل الدين عن الدولة. ترجم بمنع البابا والأحبار من التدخل في السياسة الفرنسية عبر أحزاب ومؤسسات دينية ومنع تمويل نشاطها من المال العمومي وخاصة الاستئثار بالتعليم العام لقطع دابر كل تأثير على عقول وقلوب للأجيال المتتالية.
ما الحلّ الخصوصي عربيا بما أنه لا بابا نمنعه من التدخل في شؤون الدولة ولا كنيسة إسلامية نستطيع عزلها ولا مجال لمنع تدريس التربية الإسلامية في مناهجنا وهي جزء من تراثنا الثقافي وهويتنا ... علما وأننا نحن أيضا نواجه الإشكالية العامة والاستبداد باسم الدين قوام تاريخنا والعمود الفقري لأكثر من دولة عربية إسلامية ناهيك عن خطر تجدده والموجة الإسلامية تكتسح مجتمعاتنا.
أليس الحل بكل بساطة الديمقراطية التي فيها كل الضمانات ضد الاستبداد بالدين ناهيك عن الاستبداد بالدولة (للأسف هي مشلولة تجاه الاستبداد بالمال).
لننتبه لخطأ شائع في التعبير عندما نقول عن زيد أنه مناضل من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، لأن الديمقراطية مضمنة آليا في حقوق الإنسان حيث هي البنود 19 و20 و21 من الإعلان العالمي. نفس الخطأ عندما نقول عن عمر إنه ديمقراطي علماني، فالعلمانية بكل طلباتها وعلى رأسها المساواة التامة أمام القانون بين المؤمن وغير المؤمن، وحرية الضمير والمعتقد، ناهيك عن علوية القوانين الوضعية على ما عداها من تشريعات والرفض العملي لأي سلطة فوق سلطة الشعب.. مضمنة كلها داخل الديمقراطية.
أضف لهذا أنه لا معنى فيها لفصل الدين عن الدولة، هذا البعبع النظري الذي يجعل الشرر يتطاير من عيون الإسلاميين. فداخل النظام الديمقراطي يمكن لأي حزب ولو كان دينيا –انظر التاريخ الطويل في إيطاليا للمسيحيين الديمقراطيين- أن يستلم السلطة وأن يمارسها طالما احترم قواعد وأسس الديمقراطية التي أوصلته إليها. كما يمكن لحزب غير ديني أن يمارس السلطة بنفس الشروط لكن لا دينيته هذه لا تمنعه من احترام مشاعر وطقوس المتدينين ومواصلة الإنفاق على مؤسساتهم. أليست أغلب الديمقراطيات الغربية في تواصل مع دين الأغلبية ولم تسقط فريسة استبداد الدينيين؟
ما الفائدة إذن من هذه الزائدة الدودية المسماة علمانية؟ نعم لماذا المحافظة عندنا على مفهوم لا يضيف شيئا والخط الفاصل في الحرب على الاستبداد ليس بين الإسلاميين والعلمانيين وإنما بين الديمقراطيين أيا كانت خلفياتهم العقائدية وبين الاستبداديين أيا كانت الأقنعة الأيدولوجية التي يلبسون.
للصراحة، كانت النية مبيتة للدعوة إلى إهمال مفهوم العلمانية ليسقط بالتقادم، لكن متى اختفت المفاهيم بأمر من هذا أو ذاك؟ ثم أليس وجودها دليلا على ضرورتها في لحظة ما من التاريخ؟
هنا يجب العودة مجددا لهذه اللحظة التي نعيشها وتفحصها بدقة وهي كالتالي.
نحن نعايش انهيارا بطيئا للمستبدين. للإسراع برحيلهم إلى حيث هرّبوا أموالهم، يجب أن تتوحد كل قوى المعارضة. لكن أكبر عنصر في هذه المعارضة هو الإسلامي، جزء منه جزء من الداء وجزء منه جزء من الدواء. فداخل التيار هناك طرف معاد بكل وضوح للديمقراطية ويستعد لجولة استبدادية أخرى قناعها الإسلام ستشكل الفشل الرابع لنظامنا السياسي بعد فشل الاستبداديين باسم الوطنية والقومية والاشتراكية. مثلما هناك طرف قبل مبدئيا بالديمقراطية ويمكن أن يساهم في نواة صلبة لقوة تاريخية تبني النظام الديمقراطي في إطار احترام ثوابت الهوية وقيم الأمة ومقدساتها.
ثمة إذاُ تحديان: الأول مواجهة الجزء الاستبدادي من الإسلاميين وهم خطر داهم قد يعيدنا لوضع نتحسّر فيه على "طيبة" من عرفنا. في مواجهته يجب أن تكون العلمانية النواة الصلبة لخيار لا حياد عنه وهو أن مصدر السلطة الشعب لا إرادة إلهية مزعومة لا يعرفها إلا فقهاء يخلطون بين مصالحهم ومصالح الدين (المطلق الوهمي).
التحدي الثاني بناء الجبهة التاريخية مع الإسلاميين الديمقراطيين. المشكلة أن الديمقراطية بالنسبة لبعضهم مرحلة تكتيكية. يتصورونها انتخابات شعبوية تحملهم للسلطة وبعدها باسم إرادة القوائم الانتخابية التي يتصورون أنها إرادة الشعب، يمكنهم سن ما يشاؤون من القوانين.
في مواجهة هؤلاء الديمقراطيين التكتيكيين يجب على الديمقراطيين فقط أن يذكروا دوما أن الديمقراطية كل لا يتجزأ، وأن الأغلبية البرلمانية لا تعطي الحق في المس بالثوابت الديمقراطية. وداخل هذه الصلابة العامة، يجب أن تكون العلمانية الجزء النشط المنتبه الحذر من الفكر الديمقراطي لرفض أي مساومة في كل برنامج معارضة أو حكم حول المساواة التامة أمام القانون بين المسلم وغير المسلم، بين المؤمن وغير المؤمن، حول تحييد المساجد في المعارك السياسية، أو حول تقدم الأحزاب مكشوفة الوجه على برامج سياسية لا على ادعاء تمثيلها لله.
بديهي أنه إذا قبل الإسلاميون الديمقراطيون بهذه المواقف فإنهم يصبحون إسلاميين علمانيين. لم لا وأي عيب في هذا؟
فالقول بأن العلمانية في أحسن الأحوال حياد بارد تجاه الدين وفي أسوئها عداء دفين، لا تقل عن غباء القول بأن الديمقراطية معاداة الدولة لأنها تحترز من أجهزتها وممن يديرونها. في آخر المطاف هي ليست إلا هاجس منع أي كان من استغلال الدولة باسم الدين, فيسلم الدين وتسلم الدولة ولا يسقطان بين البراثن القذرة.
هكذا تصبح الدولة والدين أداتين متوازيتين لدفع برنامج الأنسنة قدما عوض أن يكونا أهم العقبات في وجهه.
الجزيرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.