بعد جدل حادّ استمرّ لأسابيع، تولّى الوزير الأوّل السيّد الباجي قايد السبسي الإعلان عن موعد الانتخابات و حدّد الثالث و العشرين من أكتوبر تاريخا لخروج التونسيّين إلى صناديق الاقتراع و اختيار أعضاء المجلس التأسيسيّ الذين سيكتبون الدستور الجديد للبلاد و يمهّدون لانتقال ديمقراطيّ منشود. و اللاّفت في الندوة الصحفيّة التي عقدها رئيس الحكومة ما بدا من تناغم نسبيّ بين الحاضرين من الوزراء و ممثّلي الأحزاب السياسيّة و الصحفيّين و غيرهم من المراقبين. تناغم عكسته التصريحات اللاّحقة التي رحّبت بالتاريخ المعلن و التزم أصحابها بالعمل على إنجاح ذلك الموعد خدمة للوطن و انطلاقا من المسؤوليّة الملقاة على الجميع للخروج بالبلاد من حالة الجمود السياسيّ و الاقتصاديّ، و كلّ هذا جديد لم نعهده في الأشهر السابقة. لم ينس التونسيّون الأصوات التي كانت تحذّر من تأجيل الانتخابات و تنبّه إلى خطورة الأشخاص و المتآمرين الذين يقفون خلف ذلك القرار لإفشال الثورة و الالتفاف عليها من خلال الاستفادة من الوضع الأمنيّ المضطرب و الوضع الاقتصاديّ المتردّي. هذا التحوّل المفاجئ و التغيّر الواضح في لهجة الأحزاب يقودنا إلى محاولة تفسيرها من خلال جملة من الملاحظات: أوّلها أنّ البلاد مرّت منذ نجاح الشعب التونسيّ في الإطاحة بالدكتاتور بحالة من الفوضى عكستها الاعتصامات و الإضرابات التي شملت أكثر القطاعات باستثناء التعليم الذي عبّر رجاله عن وعي وطنيّ لا ينكر، فلم ينخرطوا في نزيف المطلبيّة التي أدّت إلى شلّ الكثير من الخدمات. الملاحظة الثانية تخصّ الوضع الأمنيّ الذي لم يعرف إلى حدّ اليوم استقرارا حقيقيّا و قد تعرّض المواطنون في شتّى الجهات و مازالوا إلى هجمات متفاوتة الخطورة من عصابات بعضها فرّ من السجون و بعضها الآخر شكّله منحرفون استغلّوا الفراغ الأمنيّ للقيام بالاعتداء على المتاجر الكبيرة و الصغيرة و بعض المصانع بهدف السرقة و التخريب، و لم تسلم المدارس فأحرقت أقسامها و أتلفت معدّاتها... و قد وجّهت أغلب الشكوك إلى أعداء الثورة من رجال النظام السابق، و قبض منذ أيّام على من ثبت تورّطهم في الأعمال الأخيرة التي جدّت بمدينة المتلوّي و ذهب ضحيّتها 11 قتيلا و عشرات الجرحى. و إذا أضفنا ما يحدث على الحدود مع ليبيا و ما يتحمّله المواطنون في الجنوب من ضغوطات و أخطار بعد أن فتحوا بيوتهم و مدارسهم و مستشفياتهم لاستقبال أشقّائهم اللاّجئين، يمكن القول إنّ الثورة التونسيّة ظلّت منذ 14 جانفي / يناير عرضة لأخطار عديدة خلقت وضعا غير مستقرّ و حكمت بالفشل على موسم سياحيّ كان الاقتصاد في أمسّ الحاجة إلى نجاحه. كلّ هذه الأوضاع التي أشرنا إليها في الملاحظات السابقة أثّرت سلبا على مناخ الثقة الذي يجب أن يسود الحدّ الأدنى منه بين جميع الأطراف فخلق قي مقابل ذلك ساحة سياسيّة تصادميّة بين الحكومة و الأحزاب حينا و بين الأحزاب و الأحزاب حينا آخر، و لم تستثن الهيأة العليا لحماية الثورة و الهيأة التي أفرزتها لتنظيم الانتخابات من التهم التي وصلت إلى حدّ التخوين و التشكيك في وطنيّة الكثير من أعضائها على خلفيّة القرار الذي أعلنه رئيس الهيأة الأخيرة كمال الجندوبي مطالبا بتأجيل الموعد الانتخابيّ إلى الحين الذي تتوفّر معه شروط إنجاحه. هذه الانقسامات التي أفرزتها دعوة التأجيل و ظهرت في تصريحات ناريّة لبعض الأحزاب و بثّت الكثير من الشكوك حول مستقبل الثورة التونسيّة اختفت تقريبا على إثر الندوة الصحفيّة للسبسي الذي نجح على ما يبدو في عقلنة الثورة فأقنع الأحزاب ،بعد أن تشاور معها، بالتوافق على الموعد الجديد دون مزايدات. و نبّه العمّال و العاطلين إلى ضرورة الكفّ عن جميع أشكال الاحتجاجات التي أرهقت اقتصاد الدولة. و طالب كلّ وسائل الإعلام بالقطع مع أسلوب التشكيك في عمل الحكومة لإنجاح مساعيها في الفترة المتبقّية. إنّها في مجملها دعوة إلى التعقّل و التعاون للوصول إلى هدف مشترك عنوانه الأبرز إنجاح الموعد الانتخابيّ و ضمان الانتقال الديمقراطيّ. و لعلّ المحاكمة الغيابيّة لبن علي و زوجته تشكّل حركة رمزيّة لجني بعض المكاسب المعنويّة التي تحتاج إليها الحكومة في بحثها عن تدعيم ثقة الشعب بها، و ما إعلانها قبل أيّام من هذه الندوة الصحفيّة إلاّ دليل على ذلك الجهد. فهل تصمد هذه العقلنة، و هل يقود صدقها إن صدقت إلى أن تنخرط فيها كلّ الأطراف بجدّيّة دائمة لحماية الثورة من بعض التداعيات المجنونة التي قد تطفو على السطح كلّما وجدت مجالها في غياب العقل و العقلاء ؟ عبد الرزاق قيراط.