د. مختار صادق كنت قد ذكرت في مداخلة سابقة (صناعة الحياة بأرواح أمريكية) كيف أن الرجل الأمريكي "جوناثن جونز" قد ضحى بحياته و ألقى بنفسه في النهر لإنقاذ ولدين مسلمين لعائلة مغربية من مدينة "سيدر رابيدس" الأمريكية و ترك ولديه يتيمين من بعده! و قد تمت العملية على مرأى و مسمع ولدي "جوناثان" حين كانا يقضيان يوما للتنزه مع أبيهما على ضفاف نهر " باليسادز " يوم الواقعة. و قد روى لي أصدقائي الحكاية إذ لم أكن موجودا على عين المكان حينها و لم أتمكن من التعرف على عائلة جوناثان و وولديه اليتيمين من بعده إلى حين الليلة الماضية (الجمعة الموافق للثاني عشر من شهر أوت الجاري 2011) حيث أقمنا إفطارا جماعيا بالمسجد و استدعينا ثلة من الأصدقاء غير المسلمين ليشاركونا الإفطار و يتعرفون أكثر على شعائرنا و ديننا. و كان من جملة المدعوين عائلة "جوناثان". و كم كان المنظر مؤثرا عندما رأيت ابن "جوناثان" (قرابة التاسعة من العمر) يلعب مع إبن صديقي ذلك الطفل "الميت الحي" الذي كان في عداد الموتى لولا رحمة الله و تضحية "جوناثان" بنفسه. كان المنظر أكثر إثارة للمشاعر عندما رأيت أم "جوناثان" (فهي من تكفل الولدين من بعد وفاة ابنها) و قد ضمّت إلى صدرها ابنة صديقي المغربي (سنتان من العمر) التي استسلمت إلىها بكل دعة و هي تُربِّت على شعرها و تهمس في أذنها كأنها جدتها الحقيقية دما و دينا و ثقافة. و غير بعيد كانت بنت "جوناثان" (قرابة الثالثة من العمر) تضحك و تمرح في أحضان زوجة صديقي المغربي. استفزني المشهد الإنساني الرائع رغم هول الكارثة الممتد في صخب المكان و صمت الذاكرة فتقدمت أنا و زوجتي من الجدة (أم جوناثان) و أردنا مواساتها ببعض الكلمات. لا أتذكر ماذا قلت بالضبط و لكن فيما أذكر أني أثنيت على "جوناثان" كبطل ليس لي أنا أو جاليتنا المسلمة فحسب و لكن بطل للإنسانية كلها ثم شكرتها وعلى سعة صدرها و قبولها الدعوة. في أعماقي كنت أدرك أن الأمر قد لا يكون هينا بالنسبة لأم "جوناثان" فمن منا سيكون الحِلْم ديدنه حين يرى من كان سببا في وفاة فلذة الكبد و تيتيم الأحفاد يضحك أمامه؟ و كم كانت دهشتي كبيرة عندما سمعت الإجابة من أم الضحية فقد قالت حرفيا "بل كل الشكر لكم أنتم على توجيه الدعوة لي بالحضور و قبولي بينكم"! فهل بعد هذا الكلام من تعليق؟! و لكم أن تتصوروا لو أن حادثة كهذه وقعت في بلدنا فكيف ستتصرف أمّ الضحية حتى و إن كان المتسبب في الوفاة يشاركها الدين و اللغة و الثقافة و الدم...الخ؟ إن موقف هذه الأم الثكلى لحريّ بالتدبّر و التمحيص. فقد كان اقترح عليّ أحد الأصدقاء نقل بعض ملاحظاتي عن حياة الأمريكيين و قدرتهم على التعايش رغم كل التنوّع الديني و العرقي و الثقافي عسى أن يستلهم منه التونسيون بعد الثورة لبناء حياة جديدة متطورة و لست أجد أبلغ من موقف "أم جوناثان" لنتعلم منه جميعا و ننشر من خلال ذلك في أنفسنا و أنفس أبناءنا ثقافة "العفو عند المقدرة" و نهج التسامح و الصفح الجميل بدل ثقافة الإنتقام و التشفي و التقوقع على الذات و نفي الآخر حتى مع من تسببوا في جرح المشاعر و إيلام الأنفس. و نحن كمسلمين أحرى باتخاذ مثل هذه المواقف اقتداء برسولنا الكريم في تعامله حتى مع ألد أعدائه. و من رأيي يجب على التونسيين في معالجتهم لقضايا المحاسبة بعد بن علي التفريق بين من أجرموا و تلطخت أيديهم بدماء المناضلين و الأبرياء (و هؤلاء تجب محاكمتهم و القصاص منهم لتكون هناك حياة لأولي الألباب و غيرهم!) و بين البقية الذين لم يقووا على الوقوف في وجه الظلم و الإغراء إذ تجب مقاربة مواقفهم من باب "من اجتهد و أصاب" ... و لا يجب اليوم صرف الجهد في تتبع عورات الماضي (ما لم ينجر عنها أضرار غير سياسية) و التفكير في تونس الغد لكل أبناءها و لم شمل ساحة التونسيين مهما كانت الجراح (و الأكيد "ما يحس الجمرة كان اللي عافس عليها") و مع كل ذلك يبقي ديدننا موقف رسولنا الكريم عند فتح مكة و ما قاله لكل من ناصبوه القتل و العدا (اذهبوا فأنتم الطلقاء)