بقلم الأستاذ محمد البويسفي رواية السجينة لمؤلفتها مليكة أفقير عبارة عن سيرة ذاتية تحكي فيها قصة حياتها بحلوها ومرها، قصة حياة امرأة عاشت حياة البذخ والغنى الفاحش والدلال، حياة القصور بكل معانيها: البذخ الترف الوشاية البرتوكولات. هي بنت الجنرال أوفقير، هذا الإسم الذي كان يثير الرعب في نفوس المغاربة في وقت ما، الرجل القوي في بداية عهد الحسن الثاني، كان وزير الدفاع الذي أمسك بجميع السلط في وقت ما. تبنى الملك الراحل محمد الخامس مليكة أفقير ، لتعيش رفقة الأميرة أمينة في القصر، فعاشت حياة الأميرات، استفادت من تربية وعناية خاصة شأنها شأن الأميرات، وبعد بلوغها مرحلة المراهقة فضلت الرجوع إلى بيت عائتها لتبدأ مشاورا جديدا في حياتها، وتترك نظام القصور بكل جدرانها وصرامته، وتتم دراستها شأنها شأن العائلات المخملية في الرباط، حيث الرفاهية والحرية المطلقة والأسفار والعلب الليلية. لكن سوف تقع أحداث عظيمة تغير مسار الكاتبة من الترف والرفاهية إلى السجن والبؤس، كان ذلك بعد أحداث الانقلاب العسكري الفاشل، الذي تورط فيه أبوها الجنرال محمد أوفقير مما كلف حياته، وتم سجن عائلته في أعماق الصحراء المغربية: من أسا إلى أكدز إلى تامتغات، إلى بير جديد قرب الدارالبيضاء، حيث عاشت العائلة حياة السجن بكل معانيه وزيادة: معان الذل والقهر، البؤس والأمراض، إضافة إلى الشعور بالظلم لأن الأسرة تعاقب بجريمة الأب لا بجريمتها هي. وسجون المغرب في ذلك العهد- خاصة سجون المعارضين السياسيين- تثير الذعر والهلع في النفوس، لقد كانوا يحشرون في زنازين تحت الأرض، مثلهم مثل الفئران، لا يعرفون عن العالم شيأ ولا يعرف العالم عنهم شيأ، الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود. تعلمت السجينة من تجربة السجن الشيء الكثير، وكشفت عن شخصية فريدة صقلتها المعاناة التي اكتوت بنارها وقاومت الموت بأشع صوره، والأمراض الجسمية والنفسية، واستطاعت أن تحافظ على حياتها وحياة عائلتها، فكانت المعلمة لهم، والمربية والأنيسة في الوحدة والغربة... علمتها تجربة السجن أخذ الحذر والحيطة، الصبر والتجلد، التعلق بالحياة وعدم اليأس. نقلت لنا الرواية حياة القصور وطقوسها: الحريم، الخضوع، البذخ، البروتوكل..، كما نقلت أيضا نمط حياة العائلات المخملية في الرباط: الترف، التحرر، الثقافة الغربية.. حياة السجينة مليئة بالمتناقضات: الترف والبؤس، الحرية والسجن، التقدير والإذلال، الحضارة والبداوة. دخلت السجن وفي ذهنها مغرب الستينات وبداية السبعينات، وخرجت إلى مغرب التسعينات، وجدت كل شيء تغير، توقفت حياتها داخل السجن فيما حالت عقارب الساعة ستتوقف، فكانت المفاجأة بعد الخروج. أخوها عبد اللطيف كبر في غياهب السجون وعندما خرج انبهر وكأنه كان في عالم آخر غير عالم الكرة الأرضية، قصته ذكرتني بقصة حي بن يقظان. القارئ للرواية-السيرة الذاتية يقف إجلالا وإكبارا للصمود والمقاومة التي أبدتها السجينة وعائلتها، والعزيمة والإرادة التي استطاعت بهذه وغيرها التغلب على اليأس والأمراض والموت البطيء والتغلب على السجن والسجان وتتويج ذلك بالفرار إلى عالم الحرية، ونقل قضيتها من عتمات السجن إلى الرأي العام الوطني والدولي. استطاعت السجينة نقل قضيتها للرأي العام والجمعيات الحقوقية، لكنها بتأليفها لهذه الرواية استطاعت التعريف بقضيتها وكسب تعاطف الناس معها بالتألم لألمها والفرح لفرحها، استطاعت أن تصل إلى قلوب الناس عبر هذه الرواية وتتقاسم معهم ما عاشته بحلوه ومره، بعد أن كانت مجرد قضية عند الحقوقيين في المنتديات الدولية. للكاتبة قدرة هائلة على السرد والحكي واستعادة الماضي بتفاصله، والوقوف عند اللحظات واللقطات المؤثرة، وتوظيفها، ثم السخرية السوداء التي أعطت للرواية نكهة خاصة تنقل القارئ من مأساوية المشهد إلى النكتة والترفيه، كما يقال في المثل المغربي: كثرة الهم تضحك. تعليقها على المشاهد والأحداث ينم عن ثقافة ووعي، وسبر أغوار النفس البشرية، وعن حمل هم قضية العائلة. اللافت في الرواية وفي حياة آل أوفقير هو تحولهم من الإسلام إلى النصرانية، عللت السجينة ذلك بأن الإسلام لم ينقذها ولم يقدم شيأ لها في محنتها عكس النصرانية، لكن الظاهر هو أن تربيتها على يد النصارى جعلها وعائلتها تتنصر، أمها أيضا تربت على يد الراهبات في المغرب أيام الاحتلال، مربيتها في القصر الملكي كانت ألمانية، تكوينها وثقافتها الفرنسيين، كل ذلك جعلها لا تعرف عن الإسلام إلا الإسم، وعن النصرانية كل شيء. هذا يحيلنا على حال الأسر البورجوازية والأعيان المغربية التي عايشت الاستعمار وتعايشت مع المستعمر.كان الاحتلال الفرنسي من أسوء أنواع الاحتلال، لأنه احتل العقول العباد قبل البلاد. الرواية قيمة مضافة إلى الأدب الإنساني والعربي خاصة، لأنها تحكي واقع الإنسان العربي البئيس في ظروف ما يسمى ب: ما بعد الاستقلال والتحرر من الاحتلال. وها هي المأساة تخرج في المغرب أيضا أدب السجون من رحم المعاناة خرج الإبداع في أبهى صوره. ترى لولا هذه السجون هل كنا سنقرأ أعمالا أدبية رفيعة ومؤثرة مثل هذه؟ يا لسخرية القدر عندما يحول المأساة إلى إنجاز، والمحنة إلى منحة. مصدر الخبر : بريد الحوار نت a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=20872&t=رواية "السجينة" إضاءة على مغرب السبعينات والثمانينات بقلم . محمد البويسفي&src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"