معنى أن يعترف رئيس الدولة بوجود تجاوزات لبعض المسؤولين في ما حصل وما يحصل بمنطقة الحوض المنجمي من مدينة قفصة بتونس 1/3
كنت قد كتبت هذا المقال منذ أربع سنوات وبعد ثورة منطقة الحوض المنجمي من الجنوب التونسي بولاية قفصة من أجل المطالبة بحقهم في الشغل وتحسين ظروفهم المعيشية ولم يتسنى لي منذ ذلك الوقت ولظروف مادية صعبة نشره أما وقد أصبح ذلك ممكنا لي اليوم فإني رأيت بمناسبة الذكرى الرابعة لتلك الأحداث الدامية أن أضعه بين يدي القراء والمتابعين للشأن العام التونسي والمهتمين به. - حقيقة مكونات وطبيعة النظام بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987 : إن الحقيقة التي من المفروض أن لا تكون محل خلاف بين التونسيين على الأقل، أن نظام الإنقلاب على الهالك الحبيب بورقيبة لم يكن له أي برنامج واضح، مثلما لم يكن للحزب الإشتراكي الدستوري الحاكم من قبل، في ظل تحولات كبرى حصلت في العالم بعد سقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا وسقوط الإتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي كله معه وانتهاء الحرب الباردة وإعلان الأمبراطورية الأمريكية عن قيام نظام دولي جديد فاقد للتوازن الدولي القديم، وسعي أمريكا إلى أن تكون لها الهيمنة المطلقة عليه. وبعد تدخل المخابرات الأجنبية في الوقت المناسب لمنع خروج الوضع عن السيطرة في آخر حياة الحبيب بورقيبة السياسية، وبعد الموافقة على الجمع بين القوى العلمانية يمينها ويسارها بالبلاد على صعيد واحد تحت شعار "مع بن علي من أجل تونس" كانت المهمة الأوكد بالنسبة لكل هذه القوى الداخلية والخارجية، ليست الديمقراطية ولا التنمية ولا الإصلاح الإقتصادي والثقافي والإجتماعي والسياسي، ولا التوازن الجهوي ولا تخليص البلاد من المديونية التي كانت ومازالت تثقل كاهلها ولا العدل الإجتماعي ولا فتح الآفاق المناسبة لمعالجة قضية البطالة التي كانت بادية في الإستفحال والتي تعاظم أمرها، وازداد الوضع الإقتصادي والإجتماعي بها بالبلاد تعقيدا، ولا تطوير القطاعات الإنتاجية المختلفة، سواء في الميدان الزراعي أو الصناعي أو التجاري أو قطاع الخدمات، ولا وضع اقتصاد البلاد في ذمة الرأس مال الوطني، ولا المحافظة على القطاع العام وإحاطته بالرعاية والإهتمام والإصلاحات المناسبة للحفاظ على أكبر قطاع قادر على استيعاب أكثر ما يمكن من اليد العاملة، وممتص لأكبر فائض من البطالة، والمحافظ على أكبر قدر من القدرة الشرائية لعموم أبناء الشعب، والحاضن الأكبر للطبقة الوسطى، والمحافظ على أكبر قدر من التوازن الإجتماعي...ولكن المهمة الأوكد التي تصدرت اهتمامات مكونات النظام تلك المتفقة داخليا والموافق عليها خارجيا، كانت شن حرب إبادة واستئصال على خصم سياسي لها كلها وهو المرغوب فيه شعبيا وجماهيريا، وغير المرغوب فيه علمانيا داخليا هجينا وعلمانيا دوليا أصيلا. هذه الحرب التي مازالت معلنة، هي التي علق عليها الهالك محمد الشرفي الذي كان من كبار مهندسيها ومن كبار الداعين إليها والحريصين عليها، ومن كبار قادتها والأنشط فيها في حديث له من خلال قناة "المستقلة"، أنه كان يمكن أن لا تكون بذلك الحجم وبذلك العمق وبتلك القسوة وبذلك التصميم، بعد أن أنهك البلاد بها، وبعد أن أطرد من السلطة وبعد أن أصبح ينظر إلى الساحة من بعيد ومن خارج موقعه الذي كان من أكبر الإستئصاليين من خلاله، وبعد أن كان يريد أو يراد له أن يكون بعد ذلك ومن مواقع أخرى دورا آخر... لقد كان لا بد لمكونات هذا النظام في ذلك الوقت، انطلاقا من طبيعتها الإستئصالية واللاديمقراطية واللاشعبية، وانطلاقا مما هو معلوما عنها من خلال طبيعتها المادية من فساد مالي وإداري وسياسي وثقافي وأخلاقي أن توجد بالبلاد وضعا استثنائيا شاذا تغطي به عجزها وسوء إدارتها للأوضاع المختلفة بالبلاد، وافتقارها لأي برنامج سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي واضح، وتصرف أنظار الناس عن مشاكلهم الحقيقة إلى مشكل مفتعل تبرر به السلطة الفاسدة أصلا، ومنذ البداية انطلاقا من تركيبتها ومن كل مكوناتها، العنف والإرهاب الذي مازالت تنفق عليه من المال العام ما لا حاجة للشعب في إنفاقه عليه، وما ليس له فيه من مصلحة، وما ليس فيه من حاجة ومن مصلحة إلا للسلطة وللنظام وللعصابات المكونة له. فكيف لنظام بهذه الصفة وبهذه المكونات وبهذه الطبيعة، أن لا يكون غير منتج للمشاكل، وكيف له أن يكون قادرا على إيجاد الحلول لها وعلى إدارة الشأن العام بنجاح؟
- ليست المرة الأولى التي يعترف فيها رئيس الدولة بالفساد الذي يديره وبالتجاوزات التي يحدثها المفسدون من حوله : أنا لم أرصد في الحقيقة كل المحطات التي تحصل فيها التجاوزات التي كانت من المعلوم بالضرورة لدى القاصي والداني بالبلاد وإسراع السيد الرئيس للإعتراف بذلك، ولم أسجل مثل هذه المواعيد. ولكن المتابع لإدارة الشأن العام بالبلاد، ولو من بعيد وعن غير كثب، يحضره الكثير مما يكون كافيا للإحتجاج والإستدلال به على فساد الخيارات السياسية المختلفة لهذا النظام، وعلى إدارة المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون لها، وهم من الأخسرين أعملا ومن الذين ضل سيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. يقول تعالى :" قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ولا نقيم لهم يوم القيامة وزنا".فقد حصل أن كانت الأيام الأولى من المجيء به لحكم البلاد حبلى بالتجاوزات، وهو الذي افتتح عهده بالتحقيق مع من كانوا يسابقون المخابرات الأجنبية للإطاحة بحكم الهالك الحبيب بورقيبة لإنقاذ البلاد مما كانت متردية فيه من المفاسد والأزمات، ومن المشاكل التي كانت لا حد لها والتي كانت زائدة في الإستفحال والتي أوشك فيها الوضع على حلول مجزرة كانت فصولها الأولى كلها قد اكتملت، ولم يبق منها إلا نصب أعواد المشانق وجز الرقاب لقيادات حركة سياسية معارضة كان كل ذنب قياداتها وقواعدها في ذلك الوقت أنها إسلامية إصلاحية سلمية. ذلك التحقيق الذي تواصل تسليط التعذيب فيه على الذين ظل الإنقلابيون محتفظين بهم في حالة إيقاف، والذي انتهى فيه إلى سقوط الرائد المنصوري شهيدا على أيديهم الملوثة من قبل بدم الشهيد عثمان بن محمود وغيره من شهداء الحركة السياسية الوطنية العلمانية منها والإسلامية. ولم يكن للإنقلابيين برنامج سياسي ولكنهم جاؤوا ومن التحق بهم ممن اضطرهم الهالك الحبيب بورقيبة من قبل إلى البقاء في المعارضة، ببرنامج إرهابي كان المستهدف فيه دائما هي حركة المعارضة الوحيدة الأصيلة الجادة أو الأكثر جدية على الأقل، والتي كانت تمثلها الحركة الإسلامية عموما وحركة النهضة الإسلامية تحديدا. وهي المرحلة التي شهدت فيها البلاد على أساس ذلك البرنامج مجزرة حقيقية أتت على عشرات الآلاف من أبناء الشعب، ولم يستثنى منها حتى النساء والشيوخ والرضع والأجنة في بطون أمهاتهم. كان كل ذلك يحصل في ظل حملة إعلامية لا ينتهي فيها المرجفون من أصحاب الأقلام المأجورة ومن المؤجرين لألسنتهم من الإشادة بالسياسة الرشيدة لحامي الحمى والدين، وبالمفهوم الشامل لحقوق الإنسان، والديمقراطية والتعددية الحزبية، والنجاحات الإقتصادية المنقطعة النظير، والتسامح والتضامن وغيرها من الشعارات الخادعة الذي يثبت واقع المعاناة التي كان يعيشها الشعب منذ ذلك الوقت حتى اليوم أن الأمور كلها إنما تسير وتدار على خلاف ذلك. وعندما بلغت انتهاكات النظام لحقوق الإنسان مستوى غير مسبوق وحدودا لا تطاق، ولم يعد بالإمكان نكرانها أو التغاضي أو السكوت عنها أو إخفائها، تحرك بعض الوطنيين الذين كانوا من قلة بالداخل في ذلك الوقت والذين كانوا أكثر بالخارج، ليؤكدوا على خطورة الوضع وليحتجوا على ما كان يحدث من فضاعات، عندها تحرك السيد الرئيس كما تحرك من قبل للإعتراف بوجود تجاوزات في استشهاد الأخ المجاهد الرائد المنصوري ومن سبقوه للشهادة من إخوانه، ليعترف مرة أخرى بوجود تجاوزات من بعض المسؤولين ومن بعض الأطراف ومن بعض الجهات في بعض الجهات أحيانا وفي بعض المستويات والمواقع. ولتدارك الأمر الذي كان له عليه إشراف مباشر، أشار عليه المحيطون به بتشكيل هيكل حقوقي مغشوش أسند الإشراف عليه للمدعو رشيد إدريس ليتولى التحقيق في التجاوزات والخروقات والإنتهاكات. وكانت الحقيقة في ذلك، ليس لمعرفة حقيقة ما انتهى إليه الوضع في انتهاك حقوق الإنسان، ولكن ليعلم إلى أي حاد كان الضرر بالغا وهل بلغ المستوى المطلوب، أم أن الأمر مازال يتطلب المزيد من التنكيل حتى يبلغ المدى المراد والمطلوب منه بلوغه. ومع تواصل الإنتهاكات التي ازدادت حدة في ظل وجود تلك الهيئة، والتي صلحت غطاء مناسبا لمواصلة المعالجة البوليسية لوضع سياسي يراد له أن يكون ديمقراطيا ويروج له على أنه كذلك، وأن كل الذي كان بصدد الحصول هو تصفية الحسابات مع خصوم سياسيين تم تصنيفهم علمانيا لائكيا من داخل النظام ومن خارجه على أنهم أعداء للحرية والديمقراطية بالبلاد. وفي ظل تواصل بعض الإحتجاجات الدولية الحقوقية والسياسية، وكلما اشتد عليه الضغط الخارجي أحيانا خاصة، كلما كانت معالجة الوضع الخطير جدا بمزيد الإعتراف بوجود تجاوزات يمكن أن تحصل في أكبر الديمقراطيات الدولية. واستمر الوضع على ذلك النحو، وكانت المعالجة الوحيدة المستمرة هي الحل البوليسي لمسائل الخلاف السياسي، واعتراف السيد الرئيس بوجود تجاوزات في تلك المعالجة وانتهاكات لحقوق الإنسان ولمصادرة الحريات، إلا أن تكون حرية تفسخ وانحلال وفساد. وأذكر أنه بالتزامن مع تسليط البوليس على الحياة العامة والخاصة "للمواطنين" (البدون ببلادنا )، ظهرت قضية الرشوة التي كان لابد ومن الطبيعي أن تستفحل في وضع ليس فيه من يتولي الإهتمام المطلوب والمناسب بإدارة الشأن العام على نحو أفضل، وليس فيه إلا من يولي اهتمامه بالمعالجة البوليسية لكل الأوضاع، وبتصفية الحسابات مع أصحاب الخلاف في الرأي ومع المعارضة السياسية الوطنية الأصيلة الجادة. وقد أصبحت هذه القضية حديث الخاص والعام وجرى بحديثها الركبان، وكانت النهاية والمعالجة الأفضل لتلك القضية، أن طلع علينا السيد الرئيس كعادته، ولأول مرة أسمع شخصيا من خلال تدخله (بخموس وعشور وبلقاسم) وهي الورقات النقدية من فئة خمسة دنانير وعشر دنانير وثلاثين دينارا المتداولة ببلادنا، ليعترف بوجود بعض التجاوزات، ولينتهي الأمر عند ذلك الحد تقريبا، ما عدى ما يمكن أن تقدم له به بعض المتنفذين الكبار من أكباش فداء من بعض صغار الموظفين وأعوان الأمن، سواء من المغضوب عليهم أو من غير المرغوب فيهم أو من المضطرين المحتاجين أو من الضعفاء الذين لا حول ولا قوة لهم إلا بالله، ولأن لا يعود الحديث عن ذلك الأمر بعد ذلك، مع تواصل الوضع على حاله وربما على خطورة أكبر. وباستمرار الأمور والأوضاع على ذلك النحو، تستمر المعالجة الأفضل للتجاوزات والإنتهاكات والفضائح والمشاكل العالقة والزائدة في الإستفحال، باعتراف السيد الرئيس بوجودها والوقوف عند ذلك الحد. وكان ذلك دائما هو الحل الأنسب والوحيد والأصوب بالنسبة له. وهو الحل الذي جابه به كذلك الأحداث الناتجة عن تفجر الوضع الإجتماعي بمنطقة الحوض المنجمي في كل من الرديف وأم العرائس والمتلوي والمظيلة، وفي غيرها من الجهات والمناطق من البلاد، كجهة السند وفريانة وسيدي بوبكر وغيرها من المناطق، في ظل المعجزة الإقتصادية التي يترنم بها النظام كلما تمت الإشارة إلى إخفاقاته وفشله وفساد خياراته المختلفة في الإدارة، وإلى خطورة الوضع الإجتماعي والإقتصادي والثقافي والسياسي بالبلاد، والتي لم يستطع أن يواجه بها مشكلة واحدة ظلت تنخر المجتمع وتزداد استفحالا يوما بعد يوم، وهي مشكلة البطالة بالرغم من الزيادات المتصاعدة في الضرائب والآداءات، وبالرغم من إيرادات التفويت في القطاع العام التي لا يعلم أحد ما مصيرها وأين ذهبت، وبالرغم من فرض، وفي ظروف استثنائية بالبلاد، سيولة مالية موازية ومصادر دعم مالي ومنشئات مالية مفتكة افتكاكا ومنتزعة انتزاعا من الشعب في تلك الظروف التي يراد لها أن تستمر لتظل العملية متواصلة، وفي ظل استمرار وجود الرئيس بن علي في السلطة، لتستمر كذلك تلك الظروف، ولتستمر تلك العملية غير المشروعة في جمع الأموال، والتي كانت أبرز تجلياتها في ما سمي في البداية الصندوق الوطني للتضامن 26 – 26 والذي تم تحويله بعد ذلك إلى بنك التضامن 21- 21، وما سمي بصندوق التنمية الرياضية وغيرها من مؤسسات الدعم المالي التي كان مصدرها الإنتزاع العيني المباشر من المواطن على قاعدة التضامن الوطني تحت شعار " التونسي للتونسي رحمة " وغيرها من الشعارات التي لا علاقة لهل في الأصل بثقافة التغريب المستمر في فرضها، والتي لا علاقة لها إلا بالثقافة الإسلامية المعادي والهادم لها والتي لا علاقة له بها ولا حاجة له فيها، إلا بقدر ما يبتز بها الشعب الذي بالرغم من كل شيئ وبالرغم من معاول الهدم التي أعملت فيها، مازال مؤمنا بها، ومازال لا يقبل في النهاية إلا بالإيمان والقبول بها ولو بالصورة والطريقة المغشوشة التي يمارسها عليه غير المؤمنين بها، ومن ليس لهم إيمان إلا بهدمها، وعلى خلفية الإستثراء السريع والحصول على المال الوافر المحرم بأي طريقة وبأي وسيلة، وقد فتحت للراغبين في ذلك والقابلين به أبوابا وفرصا كثيرة، مقابل الحظوظ والفرص الضعيفة في الشغل، وفي تدني الأجور التي تضاعفت اقل من خمس مرات تقريبا منذ 1989، وفي الإرتفاع المطرد للأسعار التي تضاعفت أكثر من 15 مرة تقريبا كذلك منذ ذلك التاريخ أيضا..