معنى أن يعترف رئيس الدولة بوجود تجاوزات لبعض المسؤولين في ما حصل وما يحصل بمنطقة الحوض المنجمي من مدينة قفصة بتونس 3/2
ماذا تعني تلك الإعترافات من طرف رأس السلطة واقعا وقانونا : 1- معنى تلك الإعترافات واقعا : إن وجود ما تمت الإشارة إليه من تجاوزات وانتهاكات خطيرة في المستوى السياسي والإجتماعي والثقافي والإقتصادي والأخلاقي والحقوقي، والتي اضطرت السيد رئيس الدولة للإعتراف بها، هو دليل على فساد الخيارات السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية، ودليل على الفساد المالي والإداري والأخلاقي، وعلى عدم وجود الرجل المناسب في المكان المناسب، وعلى فساد المقاييس التي يتم على أساسها الإختيار الذي لم يكن على أساس الكفاءة والنزاهة، ولكن على أساس الإنتماء الحزبي، وعلى أساس القرابة والعلاقات الخاصة وغيرها من المقاييس غير الوطنية، خاصة في مواقع المسؤوليات الكبرى والمتوسطة وحتى الدنيا أحيانا. وهو دليل على عجز السلطة عن الإحاطة بالمشاكل الحقيقية للبلاد وللشعب، وعن وضع الحلول المناسبة لها في الوقت المناسب. وهو دليل عن الإهمال وعدم أخذ الأمور بالجدية المطلوبة وبالحرص المطلوب، وبعدم وجود أي قيمة للإنسان في ثقافة السلطة، وعدم اكتراث بحاضره وماضيه ومستقبله، وعدم الإعتراف له بما له من حقوق، ومطالبته بما لها عليه من حقوق وما عليه إزاءها من واجبات. إن اعتراف رئيس الدولة بتجاوزات المسؤولين المتكررة جهويا ومركزيا في الكثير من الميادين وفي الكثير من الأحيان، هو دليل عن غياب السلطة وعن غياب المتابعة والمحاسبة وعن ترك الحبل على الغارب ليفعل كل من هب ودب ما يريد، ولتكون مشاغل الناس واهتماماتهم ومشاكلهم وحقوقهم في ذمة من لا يرعون فيهم إلا ولا ذمة، ولا يعترفون لهم بشيئ من ذلك. إن ذلك يعني حلول الفوضى التي ليس المواطن هو المتسبب فيها، ولكن المتسبب الأول فيها هم المسؤولون. والذي يدفع الثمن بعد ذلك هو المواطن الذي لا يجد نفسه إلا أمام عصا البوليس ورصاص بندقيته سواء كان مقبلا أو مدبرا. وهو الذي ليس عليه إلا أن يسمع ويطيع، وأن يقبل بعدم الإعتراف له بحقه وبعدم تمكينه منه، وبقبوله طائعا أو كارها بالملاحقة القانونية التي يتحول فيها إصراره عن المطالبة بأي حق من حقوقه إلى جريمة. هذه المطالبة التي يمكن أن تتحول إلى احتجاج بعد نفاذ صبره وإمضاء من الوقت ما يكفي أو أكثر من الكفاية في المطالبة به بالطرق السلمية، ومن الإنتظار ومن التسويف، ليكون الحل من الجهات المسؤولة الإنتهاء به إلى هذه المرحلة التي يتم جره فيها إلى العنف جرا، ويكون فيها مضطرا إليه اضطرارا، وهو الذي يكون قد تم استدراجه إليه استدراجا، لتكون قوات البوليس له بالمرصاد، ويكون ضحية اعتداءاتها، وتحميله المسؤولية عن كل ما يكون قد حدث وما يمكن أن يحدث، وما حصل من أضرار ومن خسائر، وليتم الضرب بمطالبه المشروعة وبحقوقه عرض الحائط، وتكون نهاية المشهد بطش وتنكيل وإيقافات بالجملة وتحقيق ومحاكمات وسجن، لتضيف بذلك الجهات المعنية إلى مأساته باسم القانون وباسم الأمن والإستقرار المزيد من المأساة، وإلى معاناته المزيد من المعاناة، ولأسرته كلها المزيد من الأتعاب والمشاق والخسائر والأضرار. وعندما يبلغ المشهد والوضع من التعقيد حدا لم يعد يجدي التغاضي والسكون عنه، يخرج السيد الرئيس على الرأي العام وفي لقاءاته مع المسؤولين، الذين من المفروض أنهم سبب في كل ما حدث وما يحدث ومن المتورطين فيه، ليعترف بوجود تجاوزات لأولئك المسؤولين أنفسهم، وليتواصل المشهد والوضع بعد ذلك على نفس النحو الذي كان عليه، في محاولة لإيصال رسالة واضحة لكل ذي حق أن لا يتجرأ بعد الذي حصل على المطالبة بأي حق، وإذا كان لابد، فبطرق الإستجداء ومن مواقع الذلة والصغار وبالقدر وبالطريقة التي يريدها أولئك المسؤولين وفي الوقت الذي يريدونه، ولهم في النهاية أن يعترفوا لمن أرادوا ببعض الحق أو لم يعترفوا... هذه هي الصورة الموضوعية للواقع الإجتماعي، ولكيفية معالجة السلطة لمشاكل الإنسان التي أوجدتها له والتي ليست مستعدة لمعالجتها ولا هي قادرة على ذلك، ولا هي معترفة بإنتاجها ولا بالعجز على إيجاد الحلول المناسبة لها. وهي التي ليس من الحلول إلا أربعة : 1- حل التسويف والإستخفاف. 2- الحل البوليسي. 3- حل الملاحقة القضائية. 4- حل اعتراف السيد الرئيس بوجود تجاوزات لبعض المسؤولين. 2- معنى تلك الإعترافات قانونا : إذا كان الإقرار هو سيد الإعترافات، فإن إقرار رئيس الدولة كشخصية وطنية، أو كرمز معنوي وأدبي ككل الرموز المعنوية والأدبية في الأوساط الشعبية وفي المستويات الإقليمية والدولية، بوجود تجاوزات من طرف المسؤولين وتحميل الحكومة المسؤولية عن ذلك يكون مهما، وتكون بذلك بداية الحل لأي قضية، إما مختلف حولها أو يشوبها الغموض وينقصها الوضوح، أو كانت محل بحث وتحقيق، فما بالنا إذا كان من المفروض أنه رمز "الشرعية" و"الإجماع الوطني"، وهو أكبر مؤسسة تنفيذية دستورية له من الصلاحيات القانونية ما ليس لغيره بالبلاد كلها،ويستطيع أن تكون له في الأصل من القرارات ما ليس لأحد الحق ولا القدرة على مراجعته فيها بأي اتجاه، وكان ينبغي أن لا تكون قراراته إلا باتجاه تطبيق القانون وتحقيق الإستقرار والإستجابة للمطالب المشروعة لأصحابها، والمعالجة الحقيقة والصحيحة للقضايا المطروحة في نفس الوقت. ذلك أن الإعتراف بالتجاوزات هو اعتراف بالمسؤولية على ما حدث، وهو اعتراف ضمني بحق المطالبين بالشغل أو بغير ذلك من المطالب المشروعة، أو بحدوث ضرر للأي جهة أو طرف أو فرد أو مجموعة من الأفراد كانت مثل هذه التجاوزات قد حصلت في حقهم. وما من تجاوز إلا ويكون قد ترتب عنه ضرر أو خسارة أم مظلمة تستوجب الإعتراف لصاحبها بذلك، وتستدعي بالضرورة من الناحية المنطقية والعقلانية والقانونية رفع ذلك الضرر أو تلك الخسارة أو تلك المظلمة عن الواقع عليه ذلك الضرر أو من لحقت به تلك الخسارة أو من تسلطت عليه تلك المظلمة. إلا أن الحاصل، أن كل ذلك كان يتم بعيدا كل البعد عن منطق العقل والمنطق والقانون. وأن اعتراف مؤسسة الرئاسة بتجاوزات المسؤولين وبمسؤولية الحكومة لم يكن له من دلالة ولا معنى سوى محاولة امتصاص الغضب وتخفيف الإحتقان وإظهار قدرة الرئيس على الجرأة على المسؤولين باتجاه الإعتراف نيابة عنهم بما هو حاصل وبما يحصل وما يمكن أن يحصل من جانبهم ومن جانب حكومته من تجاوزات في حق المواطنين، ومن عدم قدرة على اعتراف واضح وصريح بحق من حصلت ومازالت تحصل في حقهم تلك التجاوزات، وما يمكن أن يبدوا لبعض المغفلين والأغبياء من أنه انحياز منه للمواطن واصطفاف إلى جانبه، والبحث منه عن الأسباب والمبررات الحقيقية والصحيحة التي دفعت بالمواطن إلى الإحتجاج وإلى العنف بعد انتهاء أكثر ما يكفي من الوقت في المطالبة بحقوقه بالطرق السلمية. والذي نعلمه أن المواطنين أبعد ما يكونوا في الحقيقة عن المبادرة بالعنف، لأنهم يعلمون منذ البداية أنهم الأضعف، وأن السلطة هي الأقوى، وأنهم إنما يكونوا قد دخلوا منذ البداية في مواجهة وفي معركة خاسرة مع نظام يعلمون أنه مستبد ومحسومة نتائجها سلفا لغير صالحهم. والحقيقة أن البادي بالعنف دائما هي السلطة ممثلة في أجهزتها البوليسية القمعية، لأنها تعلم أنها الأقدر على حسم المعركة لصالحها وأن مصلحتها، أمام عجزها على قضاء حوائج الناس والإستجابة لمطالبهم والإعتراف لهم بحقوقهم وتمكينهم منها، في انتهاج العنف سبيلا لإنهاء الإحتجاجات والمطالبة السلمية بالحقوق المشروعة. إن تناول هذه المسائل من الناحية القانونية والأخلاقية يقضي بأن يكون كل فرد في المجتمع كامل المواطنة وأن ينال كامل حقوقه، وأن لا يجد نفسه في أي وقت من الأوقات مضطرا للمطالبة بها. وإذا كان لا بد من ذلك فلا ينبغي أن يجد نفسه مضطرا لذلك بغير الطرق السلمية، وهو صاحب الحق في مواصلة تلك المطالبة بتلك الطرق المدنية حتى ينالها، وهو صاحب الحق في أن لا يقبل طويلا بمماطلة المسؤول إياه في الإستجابة لتحقيق مطالبه وتمكينه من حقوقه كاملة خاصة ما كان متعلقا منها بحقه في الحياة، ويأتي على رأس حقوقه الكاملة حق الشغل والعيش الكريم بعزة وكرامة. يقول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم :" لا تفقروهم فتكفروهم " وقال علي ابن أبي طالب عليه السلام ورضي الله عنه وأرضاه : " لو كان الفقر رجلا لقتلته بسيفي" ولا يكون اللجوء إلى العنف من طرف المواطن إلا لضرورة قصوى، وهو الذي يجد له مبررا في الفقر والفاقة والظلم والحيف الإجتماعي، وفي انتهاج سياسة التجويع المتعمدة والمقصودة خاصة والسياسات الخاطئة غير المتعمدة وغير المقصودة، وهو من أصبح يعلم كما يعلم الكل اليوم أن المال العام الذي هو أحد أصحاب الحق فيه قد أصبح دولة بين فئة قليلة معلومة من الناس يذهب هنا وهناك للحسابات الخاصة بالداخل والخارج في غير قضاء حوائج المجموعة الوطنية، والأسماء والعائلات العابثة بالمال العام متداولة ومعروفة. وليس العنف إلا وجها من أوجه الكفر، وهو كذلك سبيل من يعلم أنه من يموت دون ماله وعرضه يكون قد مات شهيدا. فالمعلوم قانونا وأخلاقا أنه لا معنى لاعتراف للناس بحق من حقوقهم من غير تمكينهم منه. كما أنه لا معنى ولا قيمة للإعتراف بتجاوزات المسؤولين وبمسؤولية الحكومات وبمظالم هذه الجهات في حق غيرها ممن لها مسؤوليات عليهم من غير مراجعة أصحابها فيها ومحاسبتهم معاقبتهم عليها. إلا أن الحاصل في كل مرة يتورط فيها المسؤولون في بلادنا في تجاوزات خطيرة في حق المواطنين تصل نتائجها إلى حد قتل أو موت أنفس بشرية بريئة، يظهر علينا سيادة الرئيس المسؤول الأول قانونيا وإداريا على البلاد كلها ليعترف بوجود تجاوزات للمسؤولين الذين غالبا ما يكونوا أو هم الذين دائما من المنخرطين في حزبه، لا ليساوي بين الجلاد والضحية فقط، ولكن ليبرئ المتجاوزين من الجلادين عن تجاوزاتهم، وليجرم المواطنين الضحايا من أجل المطالبة بحقهم في العيش بكرامة في بلادهم، وليتواصل المسؤولون في البقاء في مواقعهم ومزاولة "حقهم" في ممارسة التجاوزات في حق المواطنين أصحاب الحقوق الجادين في المطالبة بها تحت وطأة الحاجة والفاقة والإحتياج والحرمان، وليحال أصحاب الحقوق بعد الإيقاف والتعذيب والإهانة على القضاء التابع ليسلط عليهم من العقوبات ما يراه "مناسبا" أي رادعا يكونون بها عبرة لمن يعتبر. هكذا تتم معالجة القضايا وقضاء حوائج الناس وتمكينهم من حقوقهم. وهكذا يكون التعامل معهم ومع مشاكلهم ومطالبهم في بلادنا، حيث دولة "القانون والمؤسسات"، وحيث السياسة "الرشيدة والقيادة الحكيمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها"، والتي لا يعلم أحد كيف سيكون مستقبل ومصير البلاد بعدها وبعد انقراض هذه "السلالة الحاكمة لا قدر الله". ففي الوقت الذي يعترف قيه رئيس الدولة بوجود تجاوزات، ويحمل فيه المسؤولية للحكومة في المستوى المركزي وللمسؤولين في المستوى الجهوي، ظل ملازما لذلك الخطاب الممجوج الذي دأب عليه نظام الحكم منذ عقود من الزمن، والذي كان فيه إصرار دائم على تمجيد سياسة السلطة وصواب خياراتها وتوجهاتها وعدم القبول في الطعن فيها أو نقدها أو إثبات فسادها وعدم جديتها وجدواها. وهو تأكيد منه على المضي في سياسة الحلول البوليسية للقضايا الأساسية بالبلاد، والعقاب البوليسي والقضائي لكل محتج على المماطلة والتسويف وعدم الإكتراث بالمطالب المشروعة لكل صاحب حق مشروع في العيش.