تونس تسجّل أعلى منسوب امتلاء للسدود منذ 6 سنوات    عاجل/ رئاسة الحكومة: جلسة عمل للنظر في تسريع إتمام هذه المشاريع    عاجل/ تحويل جزئي لحركة المرور بهذه الطريق    مأساة على الطريق الصحراوي: 9 قتلى في حادث انقلاب شاحنة جنوب الجزائر    عاجل/ أمريكا تجدّد غاراتها على اليمن    وزير الرياضة يستقبل رئيسي النادي الإفريقي والنادي الرياضي البنزرتي    لماذا اختار منير نصراوي اسم 'لامين جمال" لابنه؟    عاجل: إدارة معرض الكتاب تصدر هذا البلاغ الموجه للناشرين غير التونسيين...التفاصيل    اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتأمين صابة الحبوب لهذا الموسم - الرئيسة المديرة العامة لديوان الحبوب    قسم طب وجراحة العيون بالمستشفى الجامعي بدر الدين العلوي بالقصرين سينطلق قريبًا في تأمين عمليات زرع القرنية (رئيس القسم)    عاجل/ زلزال بقوة 7.4 ودولتان مهدّدتان بتسونامي    تونس.. زيادة في عدد السياح وعائدات القطاع بنسبة 8 بالمائة    أجور لا تتجاوز 20 دينارًا: واقع العملات الفلاحيات في تونس    الليلة: أمطار رعدية بهذه المناطق..    الشكندالي: "القطاع الخاص هو السبيل الوحيد لخلق الثروة في تونس"    جريمة قتل شاب بأكودة: الإطاحة بالقاتل ومشاركه وحجز كمية من الكوكايين و645 قرصا مخدرا    القيروان: انتشال جثة طفل جازف بالسباحة في بحيرة جبلية    عاجل/ العريّض خلال محاكمته في قضية التسفير: "هذه المحاكمة ستعاد أمام الله"    تعاون ثقافي بين تونس قطر: "ماسح الأحذية" في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للمونودراما بقرطاج    مدنين: مهرجان فرحات يامون للمسرح ينطلق في دورته 31 الجديدة في عرس للفنون    معرض تونس الدولي للكتاب يختتم فعالياته بندوات وتوقيعات وإصدارات جديدة    "نائبة بالبرلمان تحرّض ضد الاعلامي زهير الجيس": نقابة الصحفيين تردّ.. #خبر_عاجل    عاجل/ تسجيل إصابات بالطاعون لدى الحيوانات..    عشر مؤسسات تونسية متخصصة في تكنولوجيا المعلومات ستشارك في صالون "جيتكس أوروبا"    منوبة: احتراق حافلة نقل حضري بالكامل دون تسجيل أضرار بشرية    تعزيز مخزون السدود وتحسين موسم الحبوب والزيتون في تونس بفضل الأمطار الأخيرة    غرفة القصّابين: أسعار الأضاحي لهذه السنة ''خيالية''    سليانة: تلقيح 23 ألف رأس من الأبقار ضد مرض الجلد العقدي    مختصون في الطب الفيزيائي يقترحون خلال مؤتمر علمي وطني إدخال تقنية العلاج بالتبريد إلى تونس    فيلم "ميما" للتونسية الشابة درة صفر ينافس على جوائز المهرجان الدولي لسينما الواقع بطنجة    حزب "البديل من أجل ألمانيا" يرد على تصنيفه ك"يميني متطرف"    فترة ماي جوان جويلية 2025 ستشهد درجات حرارة اعلى من المعدلات الموسمية    جندوبة: انطلاق فعاليات الملتقى الوطني للمسرح المدرسي    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تحرز ذهبيتين في مسابقة الاواسط والوسطيات    البرلمان : مقترح لتنقيح وإتمام فصلين من قانون آداء الخدمة الوطنية    البنك المركزي : معدل نسبة الفائدة يستقر في حدود 7،50 بالمائة خلال أفريل 2025    خطر صحي محتمل: لا ترتدوا ملابس ''الفريب'' قبل غسلها!    إلى الأمهات الجدد... إليكِ أبرز أسباب بكاء الرضيع    صيف 2025: بلدية قربص تفتح باب الترشح لخطة سباح منقذ    إيراني يقتل 6 من أفراد أسرته وينتحر    في سابقة خطيرة/ ينتحلون صفة أمنيين ويقومون بعملية سرقة..وهذه التفاصيل..    لي جو هو يتولى منصب الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    ريال بيتيس يتغلب على فيورنتينا 2-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    جيش الاحتلال يعلن اعتراض صاروخ حوثي    أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    "نحن نغرق".. نداء استغاثة من سفينة "أسطول الحرية" المتجهة لغزة بعد تعرضها لهجوم بمسيرة    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تونس: انقسام الإسلاميين حول مسألتي "العودة" و"المصالحة"

"العودة" و"المصالحة"، مفردتان تتردّدان منذ أشهر داخل أوساط اللاجئين السياسيين والمغتربين من أعضاء وأنصار حركة النهضة بالخصوص، الذين يقيمون خارج تونس منذ ما يزيد عن 20 عاما للبعض منهم.
هذا الموضوع أصبح يشكِّل مصدر صُداع شديد لقيادة هذه الحركة، بعد أن قرّر العشرات من الكوادر بصفة فردية تسوية أوضاعهم الشخصية والعائلية، وذلك بشدّ الرّحال إلى مطار قرطاج تونس الدولي، حيث وجدوا الأبواب مفتوحة في وجوهم، ولم يتعرضوا لا للاعتقال أو حتى للإهانة، فعلوا ذلك خلافا لتوجيهات قيادتهم التي لا تزال تشدّد على ضرورة أن تُعطى الأولوية للتسوية السياسية الشاملة والجماعية.
عندما حصلت المواجهة الشاملة بين السلطة وحركة النهضة في بداية التسعينات من القرن الماضي، تمكّن الكثير من الملاحقين أن يتسلّلوا سِرّا إلى الجزائر أو ليبيا، ومنها توزّعوا على مختلف العواصم الأوروبية بالخصوص، وبعد أن تمكّنوا من تسوية أوضاعهم بالحصول على اللجوء السياسي، وعلى جنسيات الدول التي يقيمون فيها بدأت رِحلتهم مع انتظار العودة إلى تونس.
لم يتوقع أي واحد منهم بأن انتظارهم سيطُول كل هذه الفترة دون أفُق واضح، حتى الشيخ راشد الغنوشي، الذي سبق الأحداث وقرّر المغادرة مبكّرا، وذلك بعد شهر ونصف من الانتخابات التشريعية التي أجريت يوم 2 أبريل 1989، وشاركت فيها حركة النهضة بكل ثِقلها، كان يتصوّر يومها أن غيابه عن تونس قد لا يستغرِق بضعة أشهر.
كانت تلك المرحلة بمثابة مرحلة الحِسابات الخاطئة بالجملة، إذ لم تُضيِّع الحركة فقط فُرصة الاستفادة من الانتخابات، وإنما ضاعت كل رِهاناتها الداخلية والخارجية وتحوّلت في فترة وجيزة إلى بقايا تنظيم مهاجر موزع على عشرات البلدان في العالم.
وتحملت القيادة يومها مسؤوليتها ووعدت قواعدها بالعمل على تغيير موازين القوى من جديد، لكن استمرت السنوات تِباعا دُون أن يتحقّق الوعد أو يقترب موعد العودة.
هنا بدأ التململ وأخذت تتوالى التساؤلات، ثم الانتقادات الداخلية غير العلنية ثم أخذت الخلافات تتجذر شيئا فشيئا ويتّسع نِطاقها وتخرج شيئا فشيئا للعلن.
وفي الأثناء، بدأ البعض ينسحِب بصمت أو يختار الابتعاد، دون القَطع نهائيا مع قيادة المهجر. في هذه الأجواء الداخلية الصعبة ورغم محاولات الإنعاش الفاشلة، بدأ البعض يفكِّر في فصل مساره الشخصي والأسَري عن مسار الحركة والقيادة الحالية.
وبما أن السلطة كانت ولا تزال تُراقب بدقّة حالة العجْز التي آلت إليه أكبر حركة معارضة شهدتها تونس خلال السبعينات والثمانينات، فقد شجّعت هذا التوجه لدى هؤلاء العناصر، وذلك بتسهيل عودتهم ضِمن مبدإ الفصل التام بين الملف الإنساني والملف السياسي.
ولم يصدّق الذين بادروا بهذه الخطوة من الكوادر النهضوية أعيُنهم عندما وطئت أقدامهم أرض تونس، فتمّ الترحيب بهم من قِبل رجال الأمن وسُئِلوا في مقر وزارة الداخلية بكل لُطف عن مسائل قديمة، ثم سلّمت لهم جوازاتهم وأشعروا بأن ملفهم قد أغلِق نهائيا.
هذا المُنعرج الذي حدث في تاريخ العلاقة بين السلطة وحركة النهضة أزعج قيادتها وجعلها تشعر بأنها مهدّدة في رصيدها السياسي والنِّضالي والأدبي، وبناءً عليه، حاولت أن تضع له حدّا بمختلف الوسائل، لكنها - فيما يبدو - قد فشِلت مع الكثيرين.
فعدد الذين أعدّوا حقائبهم هم في ازدياد، حسبما تؤكد بعض المصادر وطبقا لما تثبته قائمة الذين دخلوا تباعا إلى تونس. والكثير منهم ليسوا شخصيات نكِرة في الحركة، وإنما لهم رصيدهم ومكانتهم ويصعب الطعن بسهولة في نزاهتهم.
دعوة لمراجعة جوهرية
إن القيادة الحالية لحركة النهضة بالخارج مُحقّة عندما تعتبِر بأن العملية تسحب منها ورقة هامة في مواصلة إدارة المعركة مع السلطة.
فخطّتها مرتكزة على الاستمرار في الضغط السياسي واستغلال ما يصلها من معلومات عن سوء الأوضاع في البلاد، لكي تُجبر النظام على مفاوضتها، وبذلك تتمكّن من تحقيق بعض المطالب السياسية، وفي مقدِّمتها إطلاق سَراح من تبقّى من المساجين وعودة المُغتربين، فتؤكِّد بذلك شرعيتها القيادية.
لكن المشكلة، أن هذه الإستراتيجية التي تبنّتها القيادة الحالية منذ بداية المواجهة لم تؤدِّ إلى أي نتيجة. فأوراق الضّغط التي لديها ضعيفة وغير مؤثِّرة، كما أن النظام لم يبلغ حالة الضّعف التي تصوّرتها بعض المقالات والبيانات أو الأخبار غير الدّقيقة، وأن شروط التّغيير السِّلمي أو العنيف مفقودة، وبالتالي، لا يشعر النظام بأي حاجة لفتح قنوات حِوار مع هذه القيادة أو مع غيرها، ولهذا تعالت أصوات نوعية من داخل الحركة وعلى هامشها، تتّهم القيادة بالعجز وتدعوها إلى الاعتراف بفشل إستراتيجيتها التي اتّبعتها منذ قُرابة العشرين عاما.
في هذا السياق، يجري الحديث حاليا داخل أوساط النهضويين عن نصّ جماعي، هو بصدد الإنجاز فيما يبدو، وستوقّع عليه شخصيات وازِنة داخل مُحيطها التنظيمي، يتحدّث أصحابه بلُغة غير مسبوقة ويطالبون بوقفة تأمُّل والقيام بمراجعة جوهرية لخارطة الطريق، التي اعتمدتها الحركة منذ اندلاع المواجهة مع النظام قبل 17 عاما ونيف.
إن النص فيما يبدو مُحاولة لرفع السِّتار عن طريقٍ يبدو للكثيرين مسدودا ودعوة أساسية إلى تغيير طبيعة العلاقة مع السلطة في اتِّجاه إنهاء حالة المواجهة معها.
بحثا عن "مصالحة ممكنة"
حتى بعض الذين غادروا الأروقة الداخلية للحركة منذ فترة طويلة، يُريدون أن يساهموا من خلال مواقعهم الرّاهنة وتجاربهم السابقة، في تعميق هذا النقاش عسى أن يؤدّي ذلك إلى فتح باب أو حتى كوة صغيرة نحو ما يسميه هؤلاء ب "المصالحة"، وهي بالمناسبة كلمة لا ترفضها القيادة الحالية للحركة، ولكن المخالفين لها يتّهمونها بأنها لا تعمل جدِّيا على تحقيق ذلك.
القيادة تتحدّث عن مصالحة مشروطة في مرحلة لم تقدر فيها على فرض أي مطلب من مطالبها أو حتى أن تقنع النظام بأن من مصلحته أن يتحاور معها.
يعتبر فاضل البلدي (رئيس مجلس الشورى السابق لحركة النهضة) في تصريح خاص لسويس إنفو أن المعركة بين النظام والحركة "قد استنفدت أغراضها"، مشيرا إلى أن البلاد تتهيَّأ إلى انتخابات رئاسية وتشريعية قادمة، ويعتقد بأن المطلوب حاليا هو "تهيئة الظروف الموضوعية المُلائِمة لهذه المناسبة"، وهو يفترض بأن الفترة المتبقِية التي تُقدَّر بسَنة، تُعتبر كافية لعقد "مصالحة ممكنة".
وعند تذكيره بأن الحركة عبّرت عن رغبتها في المصالحة ولكن دون جدوى، أجاب "نعم، يقولون بأنهم سَعوا إلى ذلك وعبَّروا عن رغبتهم، لكن هذه الرّغبة لا تنسجِم تماما مع ما يُعلنه زعيم الحركة"، في إشارة إلى الشيخ راشد الغنوشي اللاجئ منذ عام 1991 في لندن، ويؤكد على أن هناك من الإسلاميين مَن لا يريدون تحقيق المصالحة، عندما يفترضون الرّبط بين ذلك وبين الاعتراف بحركة النهضة.
البلدي كتب مؤخَّرا عددا من النُّصوص، دافع فيها عن وجهة نظره، لكن بقدر ما لقِيت مقالاته ارتياحا وتجاوُبا من قِبل بعض النهضويين، فإنها أثارت في المقابل غضب الغنوشي، الذي ردّ عليه في بداية شهر يونيو الماضي في سياق هُجوم عنيف على السلطة، قاطعا بذلك أي احتمال للتقارب معها.
لقد طلب منه ومِن غيره بوضوح، عدَم التدخل في شؤون الحركة، قائلا "ليس لمَن لم يصلاه في تلك المسالخ جحيم الهولوكوست "النوفمبري"، إذ احتمى منه بهِجرة أو انسحاب... ليس له أن يقوم في ضحايا الهولوكوست واعِظا، يعظهم في المصالحة والصفح ونسيان جراحاتهم العميقة"، وأضاف "ليس من العدل أن يُفتي معافى في موطنه أو في مهجره لمُبتلى".
تعديل هنا.. وتصلب هناك
في هذه الأجواء، يجِب أن يتساءل المرء عن موقف السلطة ومدى استعدادها لتسهيل عودة المئات من المغتربين إلى تونس أو إطلاق سراح المعتقلين منذ أزيد من 17 عاما وقبول فكرة "المصالحة"؟
فالمعترضون على فِكرة المصالحة من داخل النهضة ومن خارجها - بمن في ذلك من ينشطون في صفوف بعض أحزاب المعارضة – يعتبرون أن فِكرة "المصالحة" غير واردة في السياق السياسي الرّاهن، ويركِّزون انتقاداتهم على السلطة ويستعرضون عشرات الأمثلة للتّدليل على تصلّب النظام واعتماده أسلوب العصا الغليظة ضدّ الجميع، وبالخصوص ضدّ الإسلاميين.
يتّفق الجميع، بمَن في ذلك مَن يدافعون على المصالحة، حول القول بأن السلطة لا تزال تُبدي الوجه المتصلّب، الذي يبدو رافضا لتغيير أسلوبها في التعامل مع مُجمل معارضيها، لكن ذلك يجب أن لا يُخفي القول بأن هذه السلطة عدلت في سياستها تُجاه الإسلاميين، مقارنة بما كان يحدُث في التسعينات من القرن الماضي، إذ لم يبق من معتقلي حركة النهضة سوى عدد قليل (أقل من 30 حسب أغلب المصادر)، كما أن العشرات من المغتربين عادوا إلى تونس وسُوِّيت أوضاعهم بشكل لافِت للنظر، رغم الأحكام الثقيلة التي كانوا يجرُّونها وراءهم، كما أنه سمح للكثيرين باستئناف حياتهم العائلية والمِهنية بشكل شِبه عادي.
يُضاف إلى ذلك أن مَن يُلقي نظرة موضوعية على المجتمع التونسي حاليا، يرى بكل وضوح اختلاف المشهد الدّيني بدرجة واسعة جدا عمّا كان عليه الأمر قبل سنة 2000.
في مقابل ذلك، لا تزال المُضايقات مسلّطة على العديد من كوادِر الحركة ممّن أطلِق سراحهم، مثل السيدين علي العريض وعبد الكريم الهاروني، اللذان يواجهان حِصارا شديدا في الأيام الأخيرة، كما أن المساجين لا يزالون يُواجهون ظروفا صعبة، ممّا دفع بالبعض منهم إلى شنّ إضرابات عن الطعام للمطالبة بإطلاق سراحهم.
وفي سياق متصل، هناك من تسلّم جوازات سفر أبنائه من السفارة التونسية في العاصمة السويسرية ليكتشف بأن الموافقة عليها تمّت منذ أكثر من عشرة أشهر، في حين أن الموظفين بالقنصلية كانوا يسوّفون الأسرة طيلة الفترة الماضية؟ وهناك من دافع باستِماتة عن مبدإ المصالحة وتحدّث عن إيجابيات كثيرة، لكنه اصطدم بنوع من الشروط التي بدت له تعجيزية، مثل الإعلامي مرسل الكسيبي، المقيم كلاجئ سياسي في ألمانيا منذ فترة طويلة.
كما أن الأجهزة الأمنية والسياسية تعلَم بأن الدكتور عبد المجيد النجّار، الذي يحظى بقيمة معنوية عالية في الأوساط القريبة من حركة النهضة، ينتظر الضوء الأخضر ليحصُل على جواز سفر ويعود إلى تونس دون مشاكل، وقد تقدم في هذا السياق بطلب إلى سفارة تونس بباريس ولم يتحصل على أي ردّ.
وجهتا نظر تتدافعان
كيف يمكِن تفسير هذه السياسة التي تبدو مزدوجة؟ يؤكِّد السيد برهان بسيس من جهته، أنه لا يعتقد بأن مسألة العودة "تشكِّل مِحورا للنقاش يمَس جوهر المسألة السياسية في تونس"، وأنه "لا يختلف اثنان في أن مِن حقّ التونسيين المقيمين خارج البلاد لأسباب شتى من العودة إلى بلادهم متى شاءوا"، والمشكلة من وجهة نظره تكمُن في أن "من يمسكون بالجهاز التنظيمي في الخارج لحركة النهضة، غير المُعترف بها، يعملون على تحويل هذه القضية إلى مِلف سياسي وجزء من مقايضة، ولو على حساب مصالح الأشخاص وحقوقهم الطبيعية"، وأضاف بسيس لسويس إنفو بأنه "قد تمّ في أعلى مستوى التّأكيد على أن باب العودة سيبقى مفتوحا أمام كل التونسيين بمُختلف انتماءاتهم".
ويذكّر الإعلامي القريب من الدوائر الرسمية بأنه "قد تمّت تسوية عديد الملفات وتمكّن أصحابها من العودة، بعيدا عن منطق المقايضة أو الابتزاز، خلافا لما تدّعيه الأطراف المزايدة، والتي تحرِص على تحويل القضية من بُعدها الإنساني كحق لا نقاش فيه، إلى قضية سياسية تذوب في خضمِّها شعارات المزايدة، التي أكّدت فشلها محطة تِلو الأخرى"، على حد قوله.
هناك من يعتقِد بأنه، توجد داخل الأجهزة الأمنية والسياسية وجهتا نظر حول معالجة هذا الموضوع، جهة تدفع إلى تفكيك ألغامِه تدريجيا ويكون البدء بفصل الإنساني عن السياسي، في حين، يعتقد أصحاب وجهة النظر الثانية بأن استمرار تشديد القبضة هو الطريق الأنجع لجعل الجِسم العام للإسلاميين مجمَّدا وعاجزا.
ويبدو أن الطّرف الأول قد حقّق بعض الخطوات وأن ما يجري من تعسّف، فإنه مسلَّط بدرجة أساسية على كل من ينوي إعادة إحياء التنظيم ويدافع عن الجسم السياسي لحركة النهضة المحظورة وعن حقِّها في الوجود والنشاط.
لكن المؤكّد، أن تفكيرا جديدا بدأ يطرأ على مواقف الكثيرين من كوادِر هذه الحركة ورُموزها الفكرية أو السياسية، ويكفي التوقف في الختام عند رأي عبد المجيد النجار، الذي عبّر عنه في نصّ نشره قبل أشهر قليلة، دون أن يلقى الصّدى الذي توقعه صاحبه، بل ربما مثَّل هذا النص نقطة تحوُّل في رأي الكثيرين، وذلك عندما تساءل "هل تكون الفرصة اليوم مُواتية لأن نجاهد جميعا من أجل الوئام (كأنه يشير إلى صيغة الوئام المدني الذي أقدم عليه الرئيس بوتفليقة في الجزائر)، ونتحمّل المشاقّ من أجل الحوار في مسيرته الطويلة التي يتحقّق فيها شيئا فشيئا رفع الظُّلم والتّهميش والإقصاء واللّون الواحد والفكر الواحد"؟.
وكان جوابه "يقيني أنّ الفرصة مواتية لكلّ ذلك، وعلى الأطراف أن تتحمّل المسؤولية في هذا المسار، كلٌّ على قَدْر ما بِيده من أوراق تكون بها البداية"، وأضاف "أما استصحاب مسلك الماضي الذي كان في عمومه قائما على المغالبة المتبادلة، فما أحسب أنه سينتهي إلى نتيجة، سوى البوار وذهاب الريح وضياع الأوقات سدى، وفوات المصلحة الوطنية في جميع المجالات"..
صلاح الدين الجورشي - تونس
المصدر : سويس انفو-9تموز/يوليو2008
نصوص متعلقة :
من "الاتجاه الإسلامي".. إلى "النهضة".. إلى "السجون والمنافي"..
في عام 1969، حصل اللقاء بين المجموعة الأولى من الإسلاميين التونسيين، التي أسست فيما بعد "الجماعة الإسلامية"، التي ظلت في كنف السرية، ثم أعلنت عن نفسها يوم 6 يونيو 1981 تحت لافتة "حركة الاتجاه الإسلامي".
السلطات التونسية رفضت قبول الملف الذي تقدّمت به الحركة للحصول على الاعتراف القانوني واعتقلت في يوليو 1981 العشرات من القياديين والأعضاء، وأصدر القضاء بحقهم أحكاما بالسجن، تراوحت ما بين بضعة أشهر وعشر سنوات.
في الأشهر التي سبقت إزاحة الرئيس السابق الحبيب بورقيبة في خريف 1987، شهدت تونس مواجهات في الشوارع بين أنصار حركة الاتجاه الإسلامي وقوات الأمن، بالتزامن مع حملة اعتقالات واسعة، شملت الآلاف من أنصار الحركة وأعضائها في مختلف مناطق البلاد.
في 7 نوفمبر 1987، استلم الوزير الأول ووزير الداخلية آنذاك زين العابدين بن علي السلطة واتّخذ في الأشهر الأولى من عهده العديد من القرارات الرامية إلى نزع فتيل التوتر في البلاد وإعادة الهدوء والاستقرار.
شهدت الفترة الممتدة من نوفمبر 1987 إلى أبريل 1989، سلسلة من الإجراءات الانفراجية، شملت إطلاق سراح جميع مساجين الحركة والاعتراف باتحاد طلابي قريب منها والترخيص لها بإصدار جريدة أسبوعية. في الوقت نفسه، غيّرت الحركة تسميتها من الاتجاه الإسلامي إلى حركة النهضة وتقدّمت بطلب جديد للسماح لها بالنشاط القانوني، ثم شاركت عبر قوائم مستقلة في الانتخابات البرلمانية يوم 2 أبريل 1989.
أظهرت النتائج الرسمية للانتخابات حصول القوائم المستقلة على أكثر من 17% من الأصوات، وهو ما مثل منعرجا في العلاقة مع السلطة، التي غيّرت منذ ذلك الحين أسلوب تعاملها ما أدّى إلى دخول الطرفين فيما يُشبه الحرب المفتوحة، أسفرت ابتداء من نوفمبر 1990 عن اعتقال الآلاف من الأشخاص وصدور أحكام ثقيلة على عدد كبير من القياديين والأعضاء والمتعاطفين مع حركة النهضة.
بعد محاكمات صيف 1992، طغت الجوانب الحقوقية والإعلامية والإنسانية على ملف الإسلاميين في تونس، وخاصة من جانب الذين تمكّنوا من مغادرة البلاد والحصول على حق اللجوء السياسي في العديد من البلدان الأوروبية والغربية.
في موفى التسعينات، بدأت السلطات في انتهاج سياسة تعمل على تفكيك هذا الملف بطريقة تدريجية، حيث تم إطلاق العشرات من المساجين وفتح الباب شيئا فشيئا بوجه عودة عدد من اللاجئين وأفراد عائلاتهم.
في الوقت الحاضر، لا يزيد عدد مساجين حركة النهضة عن 25 شخصا، أما عدد اللاجئين فيُقدّر ببضع مئات، يوجد معظمهم في القارة الأوروبية وتشير العديد من تقارير المنظمات الحقوقية التونسية والدولية إلى استمرار معاناة المساجين السابقين بسبب العقبات الإدارية والتضييقات الأمنية التي يُواجهونها في مناطق إقامتهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.