"الأهم من قيام الثورات هو كيفية الانتقال من مرحلة الثورة إلى الدولة والتي لا زالت تتعثر فيها معظم الدول التي قامت فيها الثورات عدا تونس كانت سباقة في قيام الدولة." أحمد منصور - صحف عربية - الوسط التونسية: في المبنى العتيق في حي القصبة في تونس العاصمة الذي كان يطلق عليه مبنى الوزير الأول في عهد بورقيبة وابن علي ورئاسة الحكومة كما أصبح يطلق عليه الآن في تونس، التقيت مع حمادي الجبالي أول رئيس لحكومة منتخبة في تونس منذ الاستقلال بعد يومين من تسلمه مهام منصبه في السادس والعشرين من ديسمبر الفائت، كان يجلس في نفس المكتب الذي كان يجلس عليه الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي اللذين كانا يطاردانه وحركة النهضة التي كان يتولى منصب أمينها العام طوال ثلاثة عقود، لقد اختار الجبالي السجين السياسي السابق مكتب رئيس الجمهورية في المبنى ليكون مكتبه وليس مكتب الوزير الأول الذي كان يجلس فيه كل من عمل من قبله مع بورقيبة وابن علي، وقبل أن ألقاه مال علي أحد العاملين معه وقال ، نادرا ما دخل بورقيبة طوال سنوات حكمه هذا المكتب أما ابن علي فلم يدخله سوى ثلاث مرات طوال سنوات حكمه، سألت حمادي الجبالي وأنا أميل عليه قائلا : هل أنت متأكد أن مكتبك هذا خاليا من أجهزة التنصت رغم أنك رئيس الحكومة ؟ ضحك بصوت عال وقال لي : نعم هناك أجهزة تنصت لكنها مزروعة من قديم حيث كان يتم التنصت علي كل من في هذا المبنى من رئيس الحكومة حتى الوزراء والموظفين ، قلت له : لقد أصبح وزير الداخلية أشهر سجين سياسي في عهد بورقيبة وابن علي وهو علي العريض الذي سبق أن حكم عليه بالاعدام وارتدى البدلة الحمراء في عهد بورقيبة وبقي ينتظر تنفيذ الحكم كل ليلة حتى انقلب ابن علي على بورقيبة وأفرج عنه ثم اعتقله وسجنه مرة أخرى وتشاء الأقدار أن يصبح هو وزير الداخلية بعد الأطاحة بابن علي والمجيء بحكومة منتخبة، وعليه الآن أن يجيد كيفية التعامل مع أجهزة التنصت هذه ؟ وأن يخبرك ويخبر الشعب ماذا سيفعل في أجهزة التنصت المزروعة في كافة مكاتب المسؤولين في الدولة ؟ ضحكنا ثم أكملنا حوارنا لكني شردت بعد ذلك في الدولة الأمنية الاستخباراتية التي أنشأها بورقيبة وطورها من بعده ابن علي . لقد أنشأ زين العابدين ابن علي دولة أمنية مخابراتية يتجسس فيها الجميع على الجميع وفي النهاية أقام في قصر الحكم منظومة تحوي أعلى مستوى لأجهزة التنصت بخبرة إسرائيلية حيث كان يتجسس هو من خلالها حتى على من يتجسسون على الآخرين ، وكان ينفق حسب تقديرات لجنة الفساد مائتين وخمسين مليون دينار تونسي سنويا من ميزانية الرئاسة على التجسس والتنصت على موظفي الدولة و المواطنين ، وفي النهاية هرب ذليلا مذعورا خائفا ليدخل إلى مزبلة التاريخ . لقد كانت المسافة كبيرة بين دخول حمادي الجبالي في السادس والعشرين من ديسمبر الفائت 2011 إلى مكتب رئيس الجمهورية في مبنى الحكومة في حي القصبة القديم كأول رئيس حكومة منتخب في تاريخ تونس الحديث وبين سنوات النضال الطويلة التي خاضها الشعب التونسي منذ الاستقلال حتى يحصل علي الاستقلال الحقيقي وينعتق من نظام الحكم الشمولي المستبد الذي امتد إلى ما يقرب من ستة عقود ، وربما كان إقدام محمد البوعزيزي على حرق نفسه في السابع عشر من ديسمبر من العام 2010 هو الشرارة التي أشعلت الغضب الكامن في نفوس التونسيين طوال العقود الستة الفائتة، لقد قدم آلاف التوانسة أرواحهم فداء لبلادهم خلال سنوات الحماية الفرنسية حتى يحصلوا علي حريتهم واستقلال بلادهم لا أن ينتقلوا من نظام الأحتلال والحماية إلى نظام الحكم الشمولي المستبد الذي أقامه بورقيبة ومن بعده ابن علي ، لكن شاءت الأقدار أن تكون النيران التي اشتعلت في جسد البوعزيزي هي الشرارة التي أحرقت نظام الأستبداد والطغيان في تونس . مثل كل القرى والمدن التي تقع في دول يحكم فيها طغاة مستبدون شاهدت وأنا أجوب المدن الوسطى والغربية من تونس حيث اشتعلت الثورة حياة الناس المزرية المليئة بكل الآفات والأمراض والعلل الجسدية والنفسية، وكنت أتساءل دائما لماذا يصبر الناس على الطغيان حتى يصل بهم الحال إلى هذا المدى، لكني بعد ما يقرب من عام من دراسة جوانب كثيرة للثورة التونسية ومعايشتي للثورة المصرية ومتابعتي للثورة الليبية وغيرها من الثورات التي لازالت قائمة في اليمن وسوريا أدركت أن هناك عوامل كثيرة يجب أن تتوافر حتى تقوم الثورات، فقد أحرق كثيرون أنفسهم قبل البوعزيزي ولم يسمع بهم أحد لكن هناك عوامل كثيرة أدت إلى أن يكون جسد البوعزيزي هو وقود الثورة في تونس ومن بعدها الثورات العربية ، لكن الأهم من قيام الثورات هو كيفية الانتقال من مرحلة الثورة إلى الدولة والتي لا زالت تتعثر فيها معظم الدول التي قامت فيها الثورات عدا تونس فكما كانت تونس سباقة في قيام الدولة كانت سباقة كذلك في الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة وهذا ما سوف نتناوله في الأسبوع القادم . المصدر : صحيفة الشبية العمانية - 03-01-2012