الذي حدث في باريس يوم الجمعة الماضي بتشكيل الحكومة الجديدة يعتبر ثورة بكل المقاييس، و عبارة ثورة استعملتها صحيفة الأندبندنت اللندنية و أطلقها كاتب افتتاحية اليومية الباريسية لو فيجارو لوصف تعيين الدكتور برنار كوشنار وزيرا للخارجية. وهي ثورة بحق تؤكد ذكاء أو دهاء الرئيس الفرنسي المنتخب نيكولا ساركوزي وثقته بنفسه و تؤشر أيضا على التغيير المذهل الذي بدأ يهز أركان السياسة الفرنسية بدخول الجيل الجديد الى قصر الايليزيه. و المقال الراهن أخصصه لوزير الخارجية القادم من العمل الانساني و المجتمع المدني والذي رمى به الرئيس ساركوزي في قصر الكيه دورسيه ( مقر وزارة الخارجية ) كما تلقى القنابل المدوية، ليحرك المياه الراكدة في العمل الدبلوماسي و يضخ الدم الجديد النقي في هذا السلك. وفي الحقيقة أشعر بأن هذا التعيين يعنيني مباشرة لسبب شخصي ولسبب كوني عربيا و أعيش في باريس : السبب الشخصي هو أن برنار كوشنار راسلني برسالة كتبها بخط يده حينما أهديته نسخة من كتابي الصادر بباريس عن مؤسسة الفكر العالمي بعنوان ( الاسلام و الغرب، صراع الألف سنة من الحروب الصليبية الى حرب الخليج ) و كان مع وزير التربية و التعليم الفيلسوف لوك فيري هما الوزيرين الوحيدين اللذين طالعا كتابي المتواضع بدقة و صبر و اهتما بمحاوره التي تمس أحداث الساعة و تنير العلاقات التاريخية بين الاسلام و الغرب، و وصلتني من هذين الوزيرين رسالتان كريمتان بخط اليد لمناقشة محتوى الكتاب و الحرص على متابعة الحوار معي. وكنت أتوقع أن تصلني من مكتب برنار كوشنار وزير الصحة في ذلك الوقت رسالة بروتوكولية باردة كعادة الوزراء و الرؤساء للشكر على اهداء الكتاب مرقونة من يد سكرتيرة عادية تضع الكتاب بعد ذلك على رف أو تحيله للأرشيف في عمل روتيني. لكن الأمر اختلف مع برنار كوشنار فتلقيت التحية مخطوطة مع ملاحظات قيمة وثرية و بالغة المعاني كتبها مثقف لا وزير و قرأ الكتاب بأناة وهو ما شرفني وشجعني على التواصل مع برنار كوشنار، لأن أحد همومه الكبرى كان في ذلك التاريخ ادراج مبدأ حق التدخل في شؤون الدول لأسباب انسانية ضمن ميثاق منظمة الأممالمتحدة و قد شرح لي تلك النظرية و طلب مني كأحد المساهمين العرب في انارة الرأي العام أن أناضل من أجلها في عالم يهيمن القوي فيه على الضعيف وترزح فيه شعوب تحت وطأة الجوع و العراء و التهجير من جراء الحروب الأهلية و الأزمات الاقليمية. و بالفعل تحقق هذا الحلم لكوشنار بفضل ارادة حديدية صامدة وبفضل انخراطه الشخصي منذ 1968 في العمل الانساني الميداني الذي نطلق عليه نحن وصف العمل الخيري. فالدكتور برنار كوشنار طبيب استشاري في أمراض الجهاز الهضمي، لكنه بدأ منذ ثورة مايو 1968 في باريس بتوظيف الطب لخدمة أحوج الناس اليه، فرحل الى بيافرا بافريقيا، و شارك في انقاذ ضحايا الحرب الأهلية التي عصفت بذلك الأقليم. ثم أسس منظمة أطباء بلا حدود عام 1971 وهي التي اشتهرت في مناطق العالم الأكثر فقرا و الأقل أمنا، و ساهمت بقيادة كوشنار في نجدة الهاربين من فيتنام في قوارب الموت. و واصل الدكتور المناضل تلك المسيرة بامكانات متواضعة و قوة معنوية، و أصبح اسم ( الفرانش دكتور) مقترنا بهمة ذلك الرجل وكفاحه. و منذ عام 1993 دخل المعترك السياسي و انخرط في أحزاب اليسار والوسط، لكنه احتفظ باستقلالية مواقفه، و ناضل من أجل فرض حق التدخل بالقوة في البلقان لانقاذ مسلمي كوسوفو، و اختاره الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في يوليو 1999 ليكون هو الحاكم الأممي لكوسوفو في مهمة عسيرة تحت قنابل الصرب و هجومات الكروات. و أثبت الدكتور كوشنار بأنه رجل الموقف حيث أعطى المثل للعاملين حوله بالنزول الى الميدان و مواجهة التحديات الى أن استقامت شؤون كوسوفو في يناير 2001. و مع الأسف لم ينجح بعد ذلك كوشنار في الحصول على منصب المندوب السامي للاجئين و لا منصب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، وهما فرعان من فروع الأممالمتحدة. فالرجل لا يجيد نسج شبكات العلاقات ولوبيات التأثير، و قد ظل يجمع بين الجرأة في الرأي و التلقائية في التعبير، وهما طبعان لا يجلبان الأصوات. و في ينايرعام 2003 أعلن موقفه من الحرب على العراق فقال كلمته الشهيرة: لا صدام و لا الحرب. وعلى الصعيد الداخلي الفرنسي، أعلن بأنه لا يتردد في العمل في أية حكومة وفاق وطني بلا حدود ايديولوجية بين يمين و يسار. اليوم يحمله الرئيس ساركوزي أمانة وزارة الخارجية في حكومة وفاق وانفتاح، وهو وزير الخارجية الذي لا يوافق رئيس الجمهورية على عدة مسائل جوهرية منها انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي الذي يرفضه ساركوزي و يسانده كوشنار. و أعتقد أن ما يجمع بين الرجلين هو موقفهما المشترك لوضع مبدأ حقوق الانسان في قلب العمل الدبلوماسي، حسب تعبير ساركوزي في خطاب تتويجه وحسب تعبير كوشنار في حفل استلام مهامه، وهو اللقاء الأكبر مع وزيره الجديد للخارجية. ولا بد أن يكون الرأي العام اطلع على التحفظات غير الرسمية للأوساط الاسرائيلية من تعيين كوشنار على رأس الدبلوماسية الفرنسية، حين بدأت تتنفس الصعداء من الغاء السياسة العربية لباريس، و هذه التحفظات حفلت بها مواقع الكترونية اسرائيلية متطرفة، كانت لأصحابها توقعات مختلفة. و نحن العرب من حقنا التفاؤل بقدوم رجل مبادىء و قيم لوزارة لها تأثير مباشر على ترجيح كفة العدل و التوازن و الحق في الشرق الأوسط و شمال افريقيا، ضد الانفراد الأطلسي بالقرار الذي وصل الى طريق مسدودة.