التقى الرئيسان التونسي زين العابدين بن علي و الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يوم الثامن من فبراير الجاري على أرض القرية التونسية الحدودية ساقية سيدي يوسف لاحياء الذكرى الخمسين لاستشهادها تحت قصف الطيران الفرنسي الاستخرابي ( الملقب خطأ بالاستعماري) الغاشم الظالم يوم 8 فبراير 1958 . ولهذه الذكرى عبر كثيرة من واجب الجيل العربي الراهن لا فقط جيل التوانسة و الجزائريين استخلاصها و الاعتبار بها لأن معانيها ثرية و رموزها فريدة وأبعادها غنية، بمجرد المقارنة بين أمس العرب و يومهم و لمعاينة حال العرب بعد نصف قرن من الزمن جرت خلاله مياه أنهار مجردة ودجلة و الفرات و النيل و الأردن مجرى غير متوقع ودارت فيه الأحداث العربية الجسام بما لم يخطر على بال جيل الخمسينات من القرن العشرين. للتذكير بما عانته قرية الساقية الشهيدة يكفي أن نقول بأنها دفعت ثمنا غاليا للتضامن الطبيعي بين الشعبين التونسي و الجزائري. فالجزائر العزيزة كانت تقاتل ببسالة الأبطال عدوا استخرابيا تنصيريا حل بها من فرنسا منذ 1880 و استوطنها استيطانا يشبه استيطان رواد الصهيونية لأرض فلسطين و ألحقت الدولة الفرنسية أرض الجزائر العربية المسلمة بالأمبراطورية الفرنسية الحاقا اداريا و عسكريا كاملا شاملا و ارتكب الاستخرابيون مجازر رهيبة في حق الشعب الجزائري منها مذبحة الجنرال ( بيليسييه) الذي أمر باحراق قبيلة جزائرية تحصنت بالجبال ومنها مجزرة مدينة ( سطيف) المناضلة التي استشهد فيها الألاف من أبناء الجزائر و كذلك معركة مدينة الجزائر التي توجها الصليبيون الجدد باختراع فنون عجيبة من التعذيب و القتل والتنكيل اعترف بها مجرموها الجنرال سواريس و الجنرال ماسو و كتبوها في مذكراتهم فيما بعد و لم ينكروها مما سجل وصمة عار في سجل فرنسا الحديث. و في نوفمبر 1956 اشتعلت شرارة الثورة الجزائرية المباركة على أيدي زعمائها المتمسكين بحقوقهم و عروبتهم و اسلامهم. و كانت الجارة تونس حصلت على استقلالها الداخلي عام 1955 بزعامة الحزب الدستوري كما أن المملكة المغربية في عهد ملكها الصالح محمد الخامس تمكنت من فرض استقلالها و لكن ظل الجرح الجزائري نازفا و بقي الاستخراب الفرنسي جاثما على صدر شعبها يهدد المغرب الاسلامي في كل مناسبة و يمتص خيراتنا بلا حدود. و أثناء هذه الثورة فتحت تونس أبوابها لاعانة الثوار و فتحنا بيوتنا لاخوتنا الجزائريين الذين اضطروا للهجرة و النجاة من الابادة و شكلت الدولة التونسية الفتية لجان تضامن رسمي و شعبي مع كفاح الجزائر بتمرير السلاح و العتاد عبر الحدود و بعضه كان يبعث به الزعيم جمال عبد الناصر بل و التحق بالثورة الجزائرية شباب عربي من مختلف البلدان العربية استجابة لنداء الحق و العروبة و الحرية بلا أي تردد و بلا أي حسابات و أصبحت اذاعة صوت الجزائر تبث من تونس لتعرف العالم بقضية التحرير و من خلالها كنا نسمع صوت شاعر الثورة الكبير مفدي زكرياء صاحب النشيد الرسمي للثورة ثم للدولة و كان رحمه الله يعيش في تونس و نستمتع بالحديث معه في مقاهي العاصمة التونسية. و هنا نضع حدث استشهاد قرية ساقية سيدي يوسف التي يمر منها العون و السند لثوار الجزائر حيث عمد جيش فرنسا الى دكها بالقنابل و قصف مدرستها التي انهارت على عشرات من طلابها الأطفال الأبرياء و ذلك بغاية تسليط العقاب الجماعي على أحرار تونس و امتزجت الدماء التونسية مع الدماء الجزائرية في ذلك اليوم الرهيب كما امتزج الدم التونسي مع الدم الفلسطيني فيما بعد في أكتوبر 1985 بقرية حمام الشط حين قام الشعب التونسي بواجب الضيافة و الدعم لمنظمة التحرير الفلسطينية و احتضن أبطالها القادمين من جحيم الحرب في بيروت. انها ملاحم سنظل نزرع عبرها الخالدة في نفوس أبنائنا. لكن اليوم العربي الكئيب و الفاجع لا يشبه هذا الأمس القريب والرائع و لم نعد نرى هذا التضامن التلقائي بين العرب كأشقاء بل أصبحنا نتعجب حين نقص على عيالنا قصصا عشناها حين كنا أطفالا و نرى في عيونهم نوعا من الدهشة كأنهم لا يصدقوننا. فقد عايشنا جيلا تونسيا تطوع لخوض حرب فلسطين عام 1948 و استبسل تونسيون و جزائريون و مغاربة أمام المسجد الأقصى ثم عايشنا حركة تحرير تونس و حين اغتيل الشهيد الوطني فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر 1952 قامت مظاهرات عارمة في الدارالبيضاء بالمغرب و سقط فيها شهداء، في عصر لم تكن فيه لا فضائيات و لا أنترنت و لا هواتف نقالة تنقل الأخبار بسرعة ! فما الذي دهى العرب حتى يصبح نصير الشقيق المقاوم طريدا في وطنه ملاحقا بقوانين جديدة غريبة مفروضة علينا ؟ و ما الذي تغير في ظرف جيل واحد حتى ألغي الشعور العربي بالأخ المضطهد و ارتفعت الحدود بين الشعوب و انسدت المعابر و قسيت القلوب و اختفت المحبة ؟ لعل الساقية التي نحيي ذكراها بين تونس و الجزائر ستعيد للأذهان العربية معاني العروبة الحق و توقظ الضمائر على نخوة المعتصم ! اللهم بارك في هذا الجيل و عزز ارادته و رسخ ايمانه انك القدير القوي العظيم الرحيم. * رئيس الأكاديمية الأوروبية للعلاقات الدولية بباريس