ككل سنة تحتفل تونس في 20 مارس بذكرى عيد الاستقلال للوقوف على تضحيات رجالات من زمن الكفاح واستحضار محطات هامة في تاريخ البلاد قصد مزيد زرع روح المواطنة اليوم والتوق الى آفاق أرحب. بعد أن هاجمت فرنسا المملكة التونسية وأرغمت الباي على توقيع معاهدة باردو في 12/05/1881 تضاءلت على اثرها مباشرة محمد الصادق باي للسيادة التونسية، وعظمت سلطة المقيم العام، ونوابه ونفوذ الموظفين الفرنسين خصوصاً المشرفين منهم على الماليّة والأمن اضطر الباي على توقيع اتفاقية المرسى لاحقاً في 8/06/1883 حيث أمكن لفرنسا حينها تدارك ما نسيته في معاهدة الحماية وتمكنت من الاحتفاظ لنفسها بحق اجراء الإصلاحات التي تراها مفيدة دون أي تدخل من الباي، فكانت تدير فعليا شؤون البلاد الداخليّة فكان بالفعل عهد الحماية حادثة غيرت نظام البلاد، وحياة أهلها، وحقبة مغايرة للعهود السابقة حيث تحولت الحماية الفرنسية بشكل تدريجي الى استعمار مباشر نهب خيرات البلاد. نتيجة ما تقدم لم يرض شعبنا بحالة الهوان، الذي أضحى عليها خصوصاً بعد أن تمكن المستعمر من رمي أطرافه كالأخطبوط على كامل البلاد، حيث بدأت خيوط المقاومة الوطنية تنسج شيئاً فشيئاً، فبرزت أولى نواة المقاومة في شكل كتل تجمعت جول جرائد تكافح لفائدة البلادة مبرزة ظلم المستعمر الغاشم نجد من بينها جريدة «الحاضرة « للسيد علي بو شوشة، وجريدتا «المنتظر» و «المبشر» للسيد عبد العزيز الثعالبي و «جريدة التونسي» للسيد علي باش حامبة.. حيث لعبت مجملها دوراً مهماً في تجذير الوعي الوطني لشعبنا ضد فرنسا بايمانه بعدالة قضيتنا الوطنية. إضافة لما تقدم تكتل أفراد شعبنا آنذاك وراء قادته الوطنين بدءاً بالحزب الحر الدستوري القديم برئاسة عبد العزيز الثعالبي سنة 1920 الذي غادر البلاد إلى إيطاليا بإيعاز من فرنسا، وعلى اثر الانقسام الحاصل بين صفوف أعضاء الحزب القديم واستقالة بورقيبة وبعض أصحابه منه في سبتمبر 1933 دعا حينها بورقيبة إلى عقد مؤتمر دستوري بقصر هلال في 2 مارس 1934 وأسفر عن تأسيس الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري الجديد وعن انتخاب هيئة الديوان السياسي المتكونة من الدكتور الماطري – الحبيب بورقيبة – الطاهر صفر –محمد بورقيبة – البحري قيقة، تمخض على اثر ما تقدم بداية مرحلة جديدة من الكفاح الوطني، فقد ضاعف قادته نشاطهم السياسي بواسطة مقالاتهم اللاذعة لسياسة المستعمر بجريد «العمل» الناطقة باسم الحزب الحر الدستوري الجديد، وتأسيسهم للشعب الدستورية، وانخراط غالب الوطنين في سلك حزبهم الشيء الذي أقلق سلطات حماية البلاد، خصوصاً مع اندلاع حوادث 9 أفريل 1938 حيث تم تنظيم مظاهرة حاشدة بذلك التاريخ أمام قصر العدالة احتجاجاً على دعوة المناضل الوطني علي البلهوان للمثول أمام قاضى التحقيق، فبمجرد وصول الجماهير إلى مكان المحاكمة وقع اطلاق النار على المتظاهرين التونسيين من طرف قوات الاستعمار فسقط العديد من الجرحى والشهداء التونسيين، فقررت سلطات الحماية حل الحزب الحر الدستوري الجديد وتعطيل جريدة العمل وإغلاق نواديه وإلقاء القبض على أبرز زعمائه ونفيهم إلى برج البوف منهم الحبيب بورقيبة، ومحمود الماطري. واصل بقية القادة الوطنيون اثرها مسيرة النضال والكفاح ضد المستعمر وبمساهمة فاعلة أمثال فرحات حشاد الذي تم اغتياله في ديسمبر 1952، والهادي شاكر، وصالح بن يوسف... وبمرور السنين تضاعف جهاد أبناء تونسنا البررة ضد المستعمر وبمساهمة فاعلة من المرأة التونسيّة فكان العدو يتفنن في وسائل القمع والترهيب، وما إن أعلن بورقيبة بمدينة بنزرت عن انطلاق المعركة المسلحة ضده في اجتماعه بها في 13/01/1952 حتى تجاوب معه الوطن من الأعماق وبتاريخ 18/01/1952 اندلعت المعركة الفاصلة لتحرير كل شبر من أرضنا ملتفاً حول قادته، وتكون للقضية التونسية حينها صدى كبيراً من الخارج حيث نادى الأمين العام للأمم المتحدة بضرورة الاعتراف بحقوق التونسين. لقد كانت ثورة جبارة رجحت كفة النضال الوطني على الطغيان والجبروت الفرنسي وانتهت بمجيء «منداس فرانس» رئيس الوزراء الفرنسي إلى تونس يوم 31/07/1954 وأعلن في خطاب رسمي أمام الباي بقرطاج استقلال تونس الداخلي مع الإبقاء على عديد النقاط تحت تصرف فرنسا مثل مدينة بنزرت..، إلا أن قرار الاستقلال الداخلي لتونس لم تتقبله القيادات الوطنية بنفس الدرجة ليخلق انشقاقاً كبيراً كاد يعصف بأشواط من الكفاح على مر عقود من الزمان، فاتجه بورقيبة إلى اعتبار الاستقلال الداخلي خطوة هامة يجب كسبها والبناء عليها لنيل الاستقلال التام مشدداً على ضرورة توخي سياسة المراحل لنيل المبتغى، وفي المقابل عارض صالح بن يوسف الاستقلال الداخلي واعتبره خطوة للوراء ونادى بضرورة الكفاح لا من أجل تحرير تونس فقط بل كامل دول العالم المغاربي والعربي مستنداً لمفهوم القومية آنذاك، إلا أن هذا التعارض حسب عديد المؤرخين كانت له خفايا تبلورت في صراع زعامة علما أن مؤتمر صفاقس للحزب حينها أقر بأن الاتفاقيات الفرنسية التونسية التي تقر الحكم الذاتي تمثل مرحلة هامة عن طريق الاستقلال الذي يمثل أسمى غاية لكفاح الحزب، ودعا إلى إنجاز هذا المطلب بروح التعاون الحر وفي اتجاه التطور التاريخي. تهيأت الظروف اثرها للمطالبة بالاعتراف باستقلال تونس التام، حيث سافر بورقيبة إلى فرنسا يوم 03/02/1956 والتقى مع رئيس الحكومة «GUY MOLLET « وافتتحت المفاوضات يوم 29/02/1956 وتعثرت طيلة 18 يوماً من السلطة الفرنسية، ثم تم الاتفاق يوم 20/03/1956 بباريس على توقيع اتفاق تعترف فيه فرنسا باستقلال تونس التام بما يقتضيه من ممارسة لمسؤولياتها في ميادين الشؤون الخارجية، والأمن، والدفاع وتشكيل جيش وطني . فمنذ 20 مارس 1956 أصبحت تونس في عداد الدول المستقلة الحرة ذات سيادة على ترابها وعلى شعبها وهو ما جسدته فيما بعد أول سلطة قادها بورقيبة حيث تمكن التونسيون من إقامة كل مقومات الاستقلال والمحافظة عليه، واليوم وبعد ثورة 14 جانفي2011 وتقرير التونسيين لمصيرهم باختيارهم حياة سياسية قوامها حرية التعبير، والديمقراطية والتعددية والتداول السلمي على السلطة الا أنه بدأت تظهر في السنوات الأخيرة بعض المخاوف بسبب شبهات ارتباط أطراف سياسية اليوم بأجندات أجنبية من خلال زيارتهم لعديد الدول، خوفاً من إمكانية تأثير ذلك على القرار الوطني، أما على الصعيد الاقتصادي فلوحظ في السنوات الأخيرة كثرة التجاذبات حول الاستقلالية الاقتصادية والمالية للبلاد، من ذلك ما أثير حول املاءات صندوق النقد الدولي أو غيره من الأطراف المانحة لبلادنا مساعدات مالية أو هبات رغم تقصير الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال إلى اليوم في إرساء مقومات استقلال اقتصادي كامل وشامل، من خلال وضع استراتيجيّة واضحة المعالم إلى جانب الاستقلالية الاجتماعية والثقافية والفكريّة حيث أصبحت حسب المختصين عديد الثوابت والقيم الاجتماعية والثقافية مهددة في تونس على قيم أخرى أجنبية لا تمت إلى الواقع التونسي بصلة بحجة أن العولمة جعلت عديد مظاهر الاختلاف الحضاري والثقافي وثوابت الهويّة تتضاءل، لكن ذلك يجب أن لا يكون بشكل تام فالتونسيون مطالبون بالمحافظة على هذه الجوانب ومزيد دعمها خاصة بالنسبة للفئات الشابة منها. فاليوم ما تحتاجه تونس للنجاح هو مزيد تكريس الوحدة الوطنية والرجوع إلى العمل الفعلي والإيجابي لمواجهة كافة التحديات منها الأمني بمواصلة مواجهة الإرهاب الذي لا يزال يتغلغل في البلاد رغم النجاحات الحاصلة، إلى جانب التحدي الاقتصادي الذي يبقى الأساس لدفع عجلة نموه في مجمل القطاعات وتحقيق التنمية المطلوبة لكافة الجهات بعد تشخيص للوضع وتقديم المقتراحات للخروج من الأزمة وخصوصا المالية العموميةالتي تبقى التحدي الأكبر للاقتصاد الوطني الى جانب التحدي الاجتماعي الذي ازداد بتفاقم البطالة والتهميش ولا يتسنى ذلك إلا باتباع نهج أبطال تونس الذين بنوا الدولة العصرية بعد الاستقلال بعد توفير كل مقوماته والحفاظ عليه بفضل وحدتهم الوطنية وروح التضامن والتآزر بين مختلف مكونات الشعب والتغلب على العراقيل لأنه لا نجاح لأي مرجعية دون وحدة وطنية صمّاء لتبقى مصلحة تونس العليا فوق الجميع . *باحث وناشط في الحقل الجمعياتي بمدينة بنزرت