من شأن المشاهد القادمة من مجلس نواب الشعب أن تدفع الى تدمير بقية من أمل في النفوس بشأن خروج البلاد من النفق المظلم الذي طال أمده.. لن نتوقف عند الحروب الكلامية التي تحول معها مجلس نواب الشعب الموقر الى حلبة للمصارعة غيرالشريفة فقد يعتبرالبعض أن في تلك المشاهد التي تابعها التونسيون على المباشر تتكرر في مختلف برلمانات العالم وهي دليل على أن ديموقراطيتنا الناشئة بخير وأن التجربة التونسية على الطريق الصحيح, وفي ذلك- في الحقيقة مجانبة للصواب بل هي كلمة حق يراد بها باطل لان الحقيقة غير ذلك وقد وجب الاعتراف أن ديمقراطيتنا عليلة وأنها باتت مستعصية على كل الحلول. كما أن الترويج لغير ذلك هو هروب الى الامام واصرارعلى المضي قدما نحو المجهول.. ولاشك أن في التوجه لسحب الثقة من رئيس مجلس نواب الشعب ما يعزز هذه القناعة ويؤكد أن الامر لا يتعلق بالمعركة من أجل الديموقراطية ولكن المعركة من أجل المواقع وهي المعركة التي لم تغب يوما عن الاحزاب الممثلة في مجلس نواب الشعب سواء منها الاحزاب الائتلافية الحاكمة أو الاحزاب المعارضة والتي تشترك في عقلية الغنيمة التي تسيرها بقطع النظرعن حجمها ووزنها في المجلس.. لسنا نريد العودة الى ما سجلته قاعة المجلس من افلاس للقيم والمبادئ. وقناعتنا رغم كل الماسي أن السياسة اخلاق ايضا. وسياسة بلا أخلاق تبقى عنوانا للتدميرالممنهج والفوضى, والاخلاق السياسية تعني الانتصارللقانون الذي بدونه يستوي الانسان بالحيوان ويسود قانون الغاب.. ما يحدث في المشهد السياسي في بلادنا اليوم لا يمكن ان يدفع الى الحياد الغبي ازاء ما يحدث في المؤسسة التي يفترض أنها القلب النابض للديمقراطية الفتية.. وعندما تتواترالخيبات ويصبح العبث والخذلان عنوانا مالوفا في المشهد السياسي فان النتيجة ستكون حتما النفور والعزوف والاشمئزاز.. الحقيقة أنه وجب الاعتراف اليوم بأن من خططوا للمهزلة التي سجلها مجلس نواب الشعب نهاية الاسبوع نجحوا بامتياز وتفوقوا على كل عباقرة المسرح لينتجوا أسوا ما يمكن تقديمه للمشاهد.. تونس اليوم عليلة بسبب نخبها وسياسييها واحزابها وتوافقاتهم غيرالبريئة التي تتضح اليوم للعيان قبيحة شكلا ومضمونا وأهدافا.. الواقع أيضا أننا اليوم نجد أنفسنا مدفوعين للمقارنة بين ذلك الجيل الذي ولد رغم قبضة الاستعمار ونجح في جمع التونسيين حوله من اجل برلمان تونسي أوهذا الاقل ما قرأناه في كتب التاريخ وتعلمناه على مقاعد الدراسة في المدرسة العمومية التونسية وسمعناه من اجدادنا وابائنا ومن كان لهم شرف المشاركة في معركة التحرير من أجل الاستقلال, وبين جيل الديمقراطية الناشئة الذي لم يكتب له الخلاص من حالة المراهقة السياسية التي استبدت به.. ولا ندري ما الذي سيتم ادراجه في كتب تاريخ تونس المعاصرعندما يتم وضع برنامج الاصلاح التربوي للاجيال القادمة وهل سنشهد الغاء كل ما تم تدوينه عن نضالات الجيل الذي عاصرعلي البلهوان والمنجي سليم وكل التحركات التي مهدت لاحداث 9 أفريل وانطلاق الاصوات المطالبة ببرلمان تونسي وما تلاه من سقوط للشهداء والجرحى.. بعد أيام ستمر 80عاما على ذكرى افريل 1938 التي تعود في ظل استمرار حملات التشكيك والطعن في تضحيات ونضالات التونسين.. وهل سيبقى لهذا الحدث من معنى في ظل ما نعيش على وقعه من استهانة بالتاريخ ومن محاولات لالغاء الذاكرة الوطنية وتشكيك في استقلال البلاد بما يمكن أن يقود لاحقا الى التشكيك في تضحيات الشهداء الذين قادهم الى الموت انتصارهم لحقهم المشروع في السيادة وتقريرالمصير.. لا يختلف اثنان أن الخطر الحقيقي الذي يمكن أن تواجهه أي ثورة شعبية مرتبط دوما بما ستؤول اليه عملية المصالحة الوطنية, فاما ان تحمل معها الخلاص وتمهد الطريق الى ارساء الاستقرارالاجتماعي وتحقيق العدالة أو أن تؤدي بدلا من ذلك الى الوقوع في فخ الانتقام وتدفع الى الفتنة ومنها الى الحرب الاهلية... ونحن في تونس، وحتى وقت قريب كنا ومازلنا نعتقد أن ما جنب البلاد بعد 14 جانفي الانهيار والسقوط في فخ الصراعات الدموية التي الت اليه غيرها من دول الربيع العربي التي غرقت في صراعاتها الدموية وحروب الاستنزاف, أن تونس محصنة بارث معرفي وعقلية متوثبة ومتحررة لا تحكمها تلك العقلية الطائفية البغيضة والانقسامات المجتمعية الخطيرة بين سنة وشيعة واكراد أوغيرهم, وهي حقيقة لا يمكن التقليل من أهميتها. قبل أن نستفيق اليوم على حقيقة تتأكد يوما بعد يوم أن تونس لم تنج من مخاطر الطائفية الا لتقع في مخاطر طائفية أخرى وهي»الطائفية «الحزبية والطائفية الايديولوجية التي توشك أن تعصف بالبلاد.. لا خلاف أن تحقيق المصالحة الوطنية لم يكن بالامر الهين في مختلف التجارب الانتقالية التي مر بها العالم في القرن العشرين من اوروبا الشرقية الى امريكا اللاتينية وجنوب افريقيا الى الجزائر بعد العشرية السوداء والمغرب مع محمد السادس.. ولا مجال اليوم للحديث عن عدالة مثالية مهما كان حجم الاعتراف بالاخطاء الحاصلة ومهما كان حجم التنازلات والتعويضات ذلك ان الجروح النفسية للضحايا تبقى الاعمق وهي جروح قد تستعصي على كل انواع العلاج. وعلى سبيل الذكر لا الحصر تم في جنوب افريقيا عرض 20الف شهادة للضحايا وطلب 7 الاف فقط العفو ولم يكن المشهد في الارجنتين أقل مما هو عليه في بلد مثل جنوب افريقيا ولكن الحكمة اقتضت الدفع الى تجاوز الكثير من قيود الماضي وانتهاكاته البغيضة حتى لا تتحول العدالة الانتقالية كالية لارساء المصالحة الوطنية الى عدالة انتقامية لا تنتهي... ذلك أن الاصعب في كل عملية انتقالية الجروح النفسية التي يصعب تجاوزها.. بل انه ربما يكون تحقيق المصالحة مع المستعمر ومن تعرض للاستعمار أحيانا أقل تعقيدا من تحقيق المصالحة بين ابناء الوطن الواحد.. بقدر ما نحتاج الى مصالحة وطنية تجمع التونسيين وتدفع الى تحقيق العدالة المغيبة بقدرما نعتقد أنه لا خير في مصالحة مزيفة تؤجج الفتن وتقسم الشعوب وترهن الحاضر وتدمرالمستقبل.. وقد كنا نأمل عندما تأسست هيئة الحقيقة والكرامة أن تكون تونس عنوانا لعدالة انتقالية تنتصر للضحايا ولا تميز بينهم وتلتزم بالقانون ولا تستهين به.. تماما كما كنا نتمنى لو أن الرائعة نورة البورصالي كشفت ما لديها من حقائق دفعتها للانسحاب من الهيئة قبل رحيلها المفاجئ ولو أن الحقوقي خميس الشماري نطق بما كان عليه شاهدا حتى تكتمل الصورة..