تواصلت للأسف على امتداد كامل سنوات الانتقال الديمقراطي أزمة الخطاب السياسي شكلا ومضمونا ولم تستطع النخبة الخروج من مربع» إفلاس» بدا واضحا في الخطاب كما في الممارسة ولا أدل على ذلك من النتائج على أرض الواقع في ظل الأزمة الخانقة التي تعيش على وقعها البلاد وتلقى بظلالها على كامل مؤسسات الحكم. الغريب أنه مع بداية دخول الأحزاب والنخبة السياسية في منعرج التحضيرات للمواعيد الانتخابية القادمة لا تزال هذه النخبة في الحكم كما في المعارضة تصر على اعتماد الخطاب ذاته بأسلوبه وشعاراته وحتى غاياته. والمتأمل في نشاط الأحزاب في الآونة الأخيرة واجتماعاتها الشعبية في الجهات وفحوى خطابات زعمائها ومناضليها لا يلمس تغييرا ولا تجديدا يذكر وإنما يواصل البعض اجترار المضامين ذاتها، وحتى وإن غير البعض الآخر المواقع والتحالفات والانتماءات الحزبية بين الأمس واليوم فقد حافظ في المقابل على مستوى خطاب ضعيف في العموم شعبوي أو تحريضي في أقصى حالاته. ولعل تنامي التجاذبات السياسية في الآونة الأخيرة وارتفاع سقف الرهانات مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية ساهم بشكل لافت في احتداد وتيرة الخطاب التأجيجي على حساب الخطاب الموضوعي الرصين. ولا حظنا ذلك في أزمة النداء ومستوى الخطاب بين شقيه المتصارعين، شق يوسف الشاهد وشق حافظ قائد السبسي، ويبين تحليل فحوى خطاب قيادات الشقين وهما بصدد الإعداد، الأول لمشروعه السياسي الجديد والثاني لمؤتمره الانتخابي، أن نبرة الاتهامات وأحيانا التحريض والتشويه تبقى طاغية على التصريحات والخطابات. رجع أيضا استحضار الصراعات الإيديولوجية ليسيطر على الخطاب السياسي لبعض الإطراف لا سيما التي بنت مشروعها على مناهضة مشروع حركة النهضة وتخلت عنه باسم التوافق وهاهي تعود اليوم إلى المربع ذاته ونشير هنا إلى ما ورد يوم السبت الفارط على لسان عضو الديوان السياسي لحركة نداء تونس ناجي جلول حين أكد أن حزبه الذي «خلق كمشروع وطني سيعود وبقوة في الانتخابات القادمة وهو قادر على الفوز فيها بفضل توجهاته ومشروعه مؤكدا انه لا سبيل للحكم مع الإسلام السياسي». كشفت أيضا الأزمة المركبة بين الحكومة والمنظمة الشغيلة وإضراب 17 جانفي الفارط في الوظيفة العمومية والقطاع العام عن وجه آخر من الخطاب السياسي متلون في بعض الأحيان تحريضي ونفعي أحيانا أخرى أكثر منه خطاب متزن مسؤول منطلقاته الدراية والإلمام بحقيقة الأوضاع والبحث عن الحل والمصلحة الوطنية لا عن التموقع وصب الزيت على النار. لا عقلانية سياسية يصف أستاذ التاريخ والمحلل السياسي عبد اللطيف الحناشي خطاب النخبة السياسية بالكلاسيكي والتقليدي الذي يغيب فيه التجديد والخيال ولا يقدم تصورات في كيفية تجاوز الواقع. ويضيف ردا على سؤال «الصباح» عن أسباب أزمة الخطاب السياسي اليوم أن النخبة الطارئة بعد 14 جانفي أحد أسباب الأزمة وذلك بسبب غياب التجربة العميقة في الممارسة السياسية وفي الحياة الجمعياتية ويستدل الحناشي ببعض الأسماء على غرار محمد الطرابلسي وزير الشؤون الاجتماعية وحسونة الناصفي رئيس كتلة مشروع تونس ممن يعتبر خطابهم نسبيا متميزا لا يخلو من التفاصيل والبدائل والتفاعل مع الواقع اكتسبوها من تجربتهم السياسية والنقابية . في المقابل يعتبر محدثنا أن الأغلبية ولا سيما من المنتمين إلى المدرسة القديمة ينتهجون منوال اللاعقلانية في السياسة والطرح السياسي كما يلجؤون إلى الوعود الفضفاضة التي يصعب تحقيقها على أرض الواقع ويصرون على تسويق خطاب مخادع مما يكرس أكثر فأكر عدم مصداقية النخبة ويدفع إلى العزوف عن الممارسة السياسية. لا يختلف كثيرا تقييم الجامعي والمؤرخ عميرة عليا الصغير لمستوى الخطاب السياسي السائد على امتداد سنوات الانتقال الديمقراطي والذي يعتبره أجوفا دون قيم ودون مرجعية فكرية عميقة ولا نظرة مستقبلية. ويضيف في تصريح ل»الصباح» أن الخطاب السياسي الحالي هو انعكاس لأزمة النخبة السياسية في تونس في الحكم والمعارضة على المدى الطويل منذ فترة حكم بورقيبة بسبب النقص في التكوين والممارسة السياسية والديمقراطية والانخراط في الجمعيات والأحزاب والمنظمات والمشاركة في الشأن العام.وما نعيشه اليوم نتاج طبيعي لسنوات من نظام الحزب الواحد وضرب الإعلام والسيطرة على المنظمات والجمعيات والتصحر العرفي والمجتمعي كان قد عبر عنه سابقا رئيس حزب البناء الوطني رياض الشعيبي في تدوينه على مواقع التواصل الاجتماعي ذكر فيها أن أزمة الخطاب السياسي التونسي» ليست أزمة أخلاقية بالمعنى القيمي للكلمة، إنما هي أزمة معرفية بالأساس. فإذا كان لا يحق لأي احد أن يتهم نوايا الآخرين ومصداقيتهم، فان الضعف المعرفي الفاضح في خطاب الساسة التونسيين لا يحتاج لأكثر من تقليب الفكر السياسي المعاصر من جهة ورصد العجز الذي خيم على عقول الساسة من جهة أخرى لاكتشاف عمق هذه الأزمة». في المقابل يضيف عميرة عليا الصغير أنه زيادة على انعكاسات ما قبل الثورة على مستوى الخطاب السياسي فإن الجديد ما بعد 2011 هو»زحف موجة من الجهل السياسي» متمثلة أساسا في تقديره في الأحزاب التي تمارس السياسة بمرجعية دينية وتعمدت إعادة قيم ومفاهيم بالية وأخلاقوية عمقت أزمة الخطاب السياسي في البلاد. ما عرف على الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة براعته الخطابية شكلا ومضمونا شاركه فيها الكثير من أبناء جيله في تلك الحقبة أمثال صالح بن يوسف وفرحات حشاد وعلى بلهوان.. فهل تعود أيضا أزمة الخطاب السياسي اليوم إلى غياب زعماء من طينة الكبار وافتقاد الكثير من الفاعلين السياسيين وقادة الأحزاب إلى المعرفة والكاريزما والحضور والقدرة على التجديد والإقناع أم أن السياقات التي تمر بها تونس منذ ما قبل وما بعد 14 جانفي تفرض هذا الواقع ومرحلة التأسيس والانتقال التي نمر بها تشكل مخاضا لولادة خطاب سياسي جديد بناء ومثمر وقادة رأي وزعماء وقيادات حزبية ورجال دولة وسلطة هم بصدد الدربة؟