بالرغم من أن الحديث عن تقييم المائة يوم الأولى من أداء رئيس الجمهورية هي تقليد فرنسي قد لا يكون ربما ممارسة منطقية دائما خاصة في ظروف استثنائية مثل التي تمر بها تونس في غياب حكومة قوية قادرة على تسيير الملفات الكبرى في البلاد، فإن النظر في أداء رئيس الجمهورية قيس سعيد من خلال جرد وتقييم لأدائه في المائة يوم الأولى يمثل محاولة للتعرف على الصورة التي رسمها الرئيس لنفسه والتي رسمت عن الرئيس في الثلاثة أشهر الأولى وعن توجهات المواقف والأداء الاتصالي والدبلوماسي. وإن كنا استعنا في هذا الملف بخبراء ومختصين في الاتصال السياسي والدبلوماسي فإنهم أكدوا أنه من المبكر تقييم الرئيس ومعرفة ما إذا كان يخطو الخطوات حثيثة نحو «التشكل» اتصاليا ودبلوماسيا في ظل غياب الحكومة كما ذكرنا. إلا أن هذا التقييم يعطينا فكرة عن أداء الرئيس ومؤسسة رئاسة الجمهورية خاصة أننا اتخذنا فيه مقاربة مختلفة تقوم على سرد الوقائع إضافة إلى قراءة المختصين بعد أن قمنا بجرد النشاط الذي قام به الرئيس منذ أدائه القسم يوم 23 أكتوبر 2019 والوارد على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على الفايسبوك. وانطلاقا من هذا الجرد والبيانات التي استخرجناها نقدم بعضا من نشاط الرئيس خلال الثلاثة أشهر الأولى عبر الرسوم البيانية المصاحبة للملف التي تبين الولايات التي زارها الرئيس في مناسبات مختلفة والبلدان التي زارها أيضا والشخصيات السياسية الأجنبية التي استقبلها وغيرها من المؤشرات المتعلقة بنشاط الرئيس من أجل أن تكتمل الصورة التي أردنا أن نرسمها حول المائة يوم الأولى لقيس سعيد على رأس الجمهورية التونسية. مختص في الاتصال: سعيد يخاطب فئة «انتخابية».. ومن الصعب تقييم سياسته الاتصالية أكد الباحث والمختص في الاتصال والأنثروبولوجيا كريم بوزويتة في تصريحه ل»الصباح الأسبوعي» أنه من الصعب تقييم السياسة التواصلية لرئيس الجمهورية لأن تقييمها يرتبط بالأهداف السياسية للقائم بالعملية الاتصالية ولكن هذه الأهداف غير واضحة ولا نعرف البرنامج السياسي المعلن فقط من خلال شعار «الشعب يريد». كما يبرز محدثنا أنه من الصعب التقييم في بداية العهدة السياسية للرئيس لأننا لم نر تنفيذا لإستراتيجية واضحة إلى الآن ولكن هنالك شغور في منصب الناطق الرسمي يمكن أن يكون الأمر عاديا في البداية ولكن لا يجب أن يتواصل. ويبرز محدثنا أنه إما أن يتحدث الرئيس أو أن يتحدث الناطق الرسمي ولكن كان هنالك غموض في مرات عديدة مما يتطلب التوضيح في أكثر من مناسبة. تواصل استراتيجية الحملة الانتخابية ويرى المختص في الاتصال أن هنالك تواصلا للإستراتيجية الاتصالية للحملة الانتخابية من سياسة القرب من الشباب واللقاءات مع الشباب ونفس الدلالات اللغوية من الشعب يريد والشباب عنده الحل. ولكن الملفت بحسب محدثنا هو أن «الدولة» أصبحت حاضرة وموجودة ضمن قاموس المصطلحات الذي يعتمده الرئيس بعد أن كان الأمر يقوم بالأساس خلال الحملة الانتخابية على مصطلح «الشعب» وهذا يؤشر على تطور الخطاب، وأننا انتقلنا الآن إلى ذلك التوازن بين الشعب والدولة وفي ذلك تطور لأن هنالك اختلافا واسعا بين مرشح للرئاسيات ورئيس جمهورية. ولكن في نفس الوقت من خلال خطابه يوم 17 ديسمبر وصمته يوم 14 جانفي نلاحظ أن الرئيس قيس سعيد يواصل مخاطبة فئة انتخابية معينة ولا يتواصل مع كل فئات المجتمع في حين أن الرئيس يجب أن يتوجه إلى كل التونسيين على اختلافاتهم ويكون رئيس الجميع. ويبرز محدثنا أن سعيد يتمتع بخطاب مختلف ومغاير عندما يستخدم عبارات مثل «المؤامرة» و«الغرف المظلمة» فإنه خطاب غير اعتيادي وليس شبيها بخطاب الرؤساء. الرئيس في حواره الأول: لما يريد سعيد أن يكون مختلفا لم يحظ الحوار التلفزي الذي أجري مع رئيس الجمهورية بعد 99 يوما من أدائه القسم بإجماع المحللين والمتابعين. فهنالك من رأى أن الحوار كان فارغا غير ذي جدوى على اعتبار أن الرئيس لم يخرج ليقدم رسائل واضحة في مقابل ضعف في إدارة الحوار وطرح الأسئلة بشكل قائم على محاور وتسلسل منطقي. ومقابل هذه الآراء هنالك من رأى أن الرئيس قد نجح فعليا في تمرير بعض الرسائل المتعلقة بحكومة الياس فخفاخ وإمكانية الانتقال إلى السيناريو الثالث وهو حل البرلمان أو الموقف العملي من التطبيع وغيرها من الرسائل الأخرى. وفي حقيقة الأمر هنالك ما يبرر هذه الاختلافات والقراءات المتناقضة انطلاقا من نقطة أولى يتفق حولها الجميع وهي أن الحوار لم يكن ناجحا على مستوى الشكل لأسباب مختلفة ليس هذا مجالها فما يهمنا هنا هو ما قاله الرئيس وليس كيفية إدارة الحوار والأسئلة المطروحة وطريقة طرحها. في موقع أقوى الملاحظة الأولى التي ننطلق بها هي أن الرئيس كان مرتبكا قليلا على عكس عادته وعلى عكس الصورة التي قدمها في الحملة الانتخابية وهو المتمكن من اللغة العربية والمشبه ب»الروبوكوب». صحيح أنه حافظ إلى درجة كبيرة على أسلوبه إلا أنه لم يتجاوز الارتباك إلا بعد برهة. كما أنه خفف من حدة صورة الرجل الآلي. وبالرغم من ذلك فإن الرئيس بدا في موقع أقوى من محاوريه بالرغم من إصرارهم على بعض الأسئلة أحيانا إلا أنه كان قادرا على قول ما خطط هو لقوله دون أن ينجح الطرف المقابل في الحصول على أجوبة غير مجهزة. فهو أوضح أن حكومة يوسف الشاهد لا يمكن أن تصرف إلا في الماضي والحاضر ولا علاقة لها بالمستقبل وهو الذي أكد حق رئيس الجمهورية في حل البرلمان. «الرئيس الإنسان» في مستوى ثان نجح الرئيس في إيصال صورة إيجابية عن شخصه. وقد كان خطابه قائما على الشخصنة فهو قيس سعيد رئيس الجمهورية وليس رئيس الجمهورية قيس سعيد وهو يتصرف انطلاقا من قناعاته وشخصيته بالأساس وليس انطلاق مما يفرضه المنصب «فهو يتشاور بينه وبين ربه» قبل أن يختار اسم الشخصية المكلفة بتشكيل الحكومة وفي ذلك رسالة بصدقه وأمانته وصفاء نيته تجاه الوطن وهو الذي كرّر أكثر من مرة أنه يعمل في صمت دون صخب فيعدنا بمدينة صحية في القيروان قبل أن يستوفي كل الدراسات وهو أيضا لشخصه ونزاهته محل ثقة وهذا ما تقوله من يريدون تقديم منح وهبات لمشروع المدينة الصحية. وهو الذي نادته جميلة بوحيرد ب«وليدي» وليس رئيس الجمهورية. نجح الرئيس أيضا في أن يمسك بزمام الأمور على حساب محاوريه في الملف القانوني بتصحيح مصطلحات وتقديم بعض الإشارات التي يراد منها تأكيد التمكن من كل ما هو دستوري وقانوني وهو أمر استثمره أيضا في حواره من أجل إيصال رسالة مفادها أنه يعي ما يفعل وأن كل خطوة يقوم بها ستكون مبررة قانونيا عدا المبادرات القوانين العديدة التي تنتظر أن تعرض على السلطة التشريعية. وفي المجمل وبالرغم من كل الانتقادات التي وجهت للحوار، بدا واضحا أن الرئيس نجح في تمرير رسائل على مستويات عدة ونجح أيضا في رسم صورة إيجابية عن شخصه قبل مؤسسة الرئاسة وأن رئيس مختلف بكل المقاييس لا يخضع للتصنيفات التقليدية ولا يرضى ببيانات وزراء الخارجية المعبرين عن انشغالهم والمستعد دائما للتوضيحوالتصحيح ترسيخا لصورة المتفرد المختلف. الأداء الدبلوماسي.. لا سياسة خارجية حقيقية دون حكومة فاعلة ◄ رئيس الجمهورية حافظ على «خط» الباجي في ليبيا قيل الكثير حول أداء مؤسسة الرئاسة التونسية دبلوماسيا، ووجهت عديد الانتقادات إلى أدائها في مناسبات عدة مثل زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وما أثارته من انتقادات استوجبت توضيح الرئاسة والرئيس في مناسبات عدة وورود تصريحات غامضة أحيانا أخرى وتعدد البيانات الصحفية لإيضاح الصورة. كل ذلك قد يؤشر على ضعف بالنسبة إلى البعض أوتخبط تعيشه السياسة الخارجية التونسية أو قد يسميه البعض الآخر غيابا لدبلوماسية قوية وفاعلية. وفي حقيقة الأمر يؤكد المختصون الذين اتصلت بهم «الصباح الأسبوعي» أن الأمر لا يتعلق فقط بالرئيس ومؤسسة الرئاسة ولكن بغياب الذراع الأقوى للسلطة التنفيذية في ظل الفشل في تشكيل حكومة جديدة منذ انتخابات 2019. الدبلوماسي ووزير الخارجية الأسبق أحمد ونيس أكد ل «الصباح الأسبوعي» أن تقييم أداء رئيس الجمهورية دبلوماسيا مازال سابقا لأوانه ولا يمكن أن نحكم من الآن على سياسة خارجية للرئيس قيس سعيد والبلاد دون حكومة كما أنه مازالت النيابة الدائمة لوزير الخارجية السابق خميس الجهيناوي شاغرة ونحن اليوم «نسد الفراغ دون أن نحدد سياسة خارجية،» على حد تعبيره. وأبرز ونيس أنه قد كان هنالك تخل وصفه ب»المفزع»-بمجرد تولي رئيس الجمهوري مهامه- على وزيري الدفاع والخارجية اللذين تم الإعلان عن أنهما قدما استقالتهما ولكن في نفس اليوم وقع عزلهم وذلك في الأيام الأولى لتولي سعيد رئاسة الجمهورية. و»في ذلك دليل في الجوهر على أن الأمر لا يتعلق بالتخلي عن أشخاص بل على سياسة الرئيس الباجي قايد السبسي ويدلل على أن الرئيس قيس سعيد سيسن خطة مخالفة للسبسي،» كما يوضح ونيس.ويضيف محدثنا أنه من حق رئيس الجمهورية ذلك ولكن على مستوى الشكل كان هنالك تعسف في عزل الوزيرين فلم يكن هنالك شكر لهما على تفانيهما في خدمة الوطن ولم يكن هنالك احترام على مستوى الشكل للمعاملات والمقاييس المعروفة في الدولة، كما يتابع ونيس. «الوزارات تصنع السياسة الخارجية» بالنسبة إلى المحلل السياسي والدبلوماسي السابق عبد الله العبيدي لا يمكن لرئيس الجمهورية أن ينجح على مستوى السياسة الخارجية دون حكومة. لأن أجهزة الحكومة هي التي تصنع السياسة الخارجية في مختلف الوزارات مثل التجهيز والدفاع وغيرها، في حين أننا حاليا نعيش دون حكومة فاعلة فلا وزير على رأس الخارجية. ويتولى العديد وزراء مهمة حقيبتين كما أن هنالك تعطلا على مستوى الإدارة نظرا إلى التخوف من اتخاذ القرارات في هذه المرحلة، فالبعض يتخوف بخصوص مستقبله السياسي والبعض الآخر لا يريد أن يتحمل مسؤولية اتخاذ قرارات حاليا. ويبرز محدثنا أن دور رئيس الدولة هو دور المشرف على الأجهزة، ولذلك لا يمكنه أن يعمل دون هذه الأجهزة، فرسم السياسة الخارجية وحتى تحديد عناصر الخطاب السياسي الدبلوماسي، فإنها تستند إلى ثوابت واضحة وإلى عمل أجهزة الدولة من خلال التنسيق بين الوزارات. وكل وزارة ترسل مساهماتها حسب مصلحة تونس وإنتاج المذكرات والتقارير التي تتجمع من خلالها عناصر الخطاب.وهو خطاب تأليفي يأخذ بعين الاعتبار الظرفية الحالية فهذه الماكينة هي التي تنتج المواقف السياسية الخارجية في أي مجال، كما يوضح العبيدي. زيارة أردوغان ومؤتمر برلين على مستوى النقد الذي وجه لرئيس الجمهورية في علاقة بزيارة أردوغان ،فإن الدبلوماسي ووزير الخارجية الأسبق أحمد ونيس يعتبر في تصريحه ل»الصباح الأسبوعي» أن رئيس الجمهورية استقبله كما ينبغي إلا أن الرئيس الزائر كان يصطحب معه وزيري الخارجية والدفاع وكان من المفترض أن يحضر الوزراء بالنيابة وأن يشاركا في الحوار لاكتساب الخبرة والتجربة. أما فيما يتعلق بالملف الليبي، فيعتبر ونيس أنه «من حسن حظنا أن الرئيس حافظ على الخط السياسي الذي رسمه الباجي قايد السبسي وهو سياسة الحياد والوقوف على نفس المسافة من جميع الفرقاء الليبيين على خلاف دول الجوار الأخرى مثل مصر والجزائر الذين يدعمون أحد الأطراف في الساحة الليبية.» ويتابع أننا حافظنا في تونس على الحياد والتأكيد أن السبيل للخروج من الأزمة الليبية ليس إلا بالتفاوض بين جميع الفرقاء دون إقصاء. وفي خصوص مؤتمر برلين يشير ونيس إلى أن وزير الخارجية الألماني تأكدت عندما زارت تونس في نوفمبر الماضي من أن السياسية التونسية مطابقة للسياسة الألمانية. ومن خلال مكالمة ميركيل للرئيس قيس سعيد تأكدت من نفس السياسة الخارجية مطابقة للألمانية واعتبر ونيس أن مشاركتنا في مؤتمر برلين ليست ضرورية لأن الدولة المضيفة مؤمنة أيضا بنفس السياسة التي نؤمن بها. وأضاف أن الهدف من مؤتمر برلين هو «توحيد موقف الدول الكبرى المتناقضة بين بعضها البعض وستجد الدول المؤيدة للحل العسكري نفسها أمام ضرورة التخلي عنه ويهتدوا إلى الحل التفاوضي وهي سياسة الأممالمتحدة وألمانيا المناقضة للدول الأخرى.» اروى الكعلي