تونس الصباح: تشهد هذه الأسابيع التي تسبق افتتاح السنة الدراسية بقليل حركية كبرى داخل كافة الاوساط المسؤولة عن الحقل التربوي. ففي وزارتي التربية والتكوين والتعليم العالي والبحث العلمي تكاد لا تنقطع الحركة طوال ساعات النهار، وفي المركز البيداغوجي يتواصل النشاط لاعداد كافة الكتب المدرسية قبل بداية السنة الدراسية. والكتاب المدرسي مثل الى غاية سنوات غير بعيدة المرجع الاساسي الذي يعتمده التلميذ، وذلك لما يحتويه من نصوص محورية في البرنامج الخاص بكل مادة، وايضا لما فيه من نصوص اخرى للمطالعة وتعميق تكوين التلميذ واثراء معلوماته. كما كان الكتاب المدرسي في كل مستوياته الموجهة للتلاميذ محتوى راقيا يلم بالبعد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ويتصل ايضا بالبعد المدني والسياسي حيث تتناول نصوصه مفاهيم عامة تضع التلميذ في اتجاه يفهم معه معاني الحرية والفردية والجماعية والحقوق والواجبات وغيرها من المواضيع والاثار الادبية والفكرية ذات الصلة بالقيم من ناحية وبالتطور الذي يشهده المجتمع في علاقة بديناميكيته الداخلية والاطار العالمي كمحيط عام يسير ضمنه. لكن يبدو ان الكتاب المدرسي قد فقد الكثير من هذه الجوانب، حيث غاب عنه هذا المحتوى، فتحول الى مجرد أداة باهتة من جملة أدوات اخرى من حيث محتواه واسلوب وضعه المنهجي، ففقد موقعه الذي كان يتميز به، كما زحف عليه البعد التجاري إذ اصبح يجمع في مكوناته بين صفحات للدروس واخرى للتمارين. وبهذا تحول الى سلعة تستعمل مرة واحدة في السنة "جوتابل"، ولا شك ان في ذلك خسائر سنوية فادحة تتكبدها الدولة عبر التعويض عن الورق والطبع، وكذلك العائلة التي تبقى مجبرة على اعتماد الكتاب لاحد ابنائها فقط بدل تداوله لسنوات. فكيف يمكن ان يكون الكتاب بهذا الشكل، وهذا المحتوى وبهذه المصاريف الطائلة من اجل تجديده في كل سنة؟ وماذا عن جملة الكتب الموازية التي تحيط به لتنقص من دوره وفي الحقيقة ذات اغراض تجارية صرفة؟ الكتاب المدرسي بين المحتوى والمنهجية ضمن هذه الابعاد يمكن القول ان الكتاب المدرسي في تونس لابد ان يتجدد على الدوام، وان يمثل المرآة العاكسة للتطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في كل مجالاتها، ولعل جملة المظاهر التي يفرزها التطور لا بد ان تكون بارزة فيه. وفي هذا السياق لا بد من مواكبة مظاهر الحياة اليومية في كل تجلياتها برصد العلاقات والمشاغل في ابعادها العلمية والاقتصادية وابراز جملة القيم التي تسير المجتمع. كما ان الكتاب لابد ان يطرح في نصوصه المبادئ العامة التي يسير عليها المجتمع والتي تسعى الدولة الى ترسيخها وتعميق الحس بها لكل الفئات الاجتماعية ومن بينها الناشئة، وفي هذا نشير الى المبادئ العامة حول الحريات وحقوق الانسان وكذلك الحقوق والواجبات وغيرها من الجوانب المتصلة بالبعد الثقافي والحضاري. كما يجب ان يركز الكتاب في منهجية واضحة ومبسطة على هذه المحاور الاساسية، دون نسيان بعض الظواهر بجوانبها السلبية والايجابية التي تحيط بالتلميذ داخل المؤسسة التربوية وفي الشارع والمنزل، وكذلك في علاقة بالوسائل الاتصالية الحديثة التي اصبحت تمثل جزءا بارزا من مجالات الثقافة واستيقاء المعلومة. حتى يبقى الكتاب قيمة علمية ثابتة على الدوام الجانب الاخر الذي يفتح اليوم حوارا كاملا بين الولي والمربي ووزارة التربية والتكوين، وتطرح حوله جملة من التساؤلات العميقة والمحيرة هو القيمة التي اصبح عليها الكتاب المدرسي، فهو قد تراجع بشكل كبير وفقد الكثير من قيمته، وبات بمثابة الكراس البسيط التي يمكن التخلي عنها كلما انتهت صفحاته. ولعلنا نذكر جيدا كيف ان الكتاب في سنوات خلت من مسار التربية والتعليم كان يحفظ في المكتبات الخاصة، على اساس انه يمثل مرجعا للجميع بما يحتويه من محتوى جيد، ويمكن العودة اليه على الدوام لما يحتويه من نصوص هامة وآثار فكرية وادبية قيمة. لكن هذه القيمة العلمية قد تراجعت داخل الكتاب فغاب عنه البعد المرجعي وكذلك الاعتبار في جانب انه مصدر هام مما جعله فاقد لهذه القيمة الاساسية التي يقوم عليها في هدفه الاول الذي جعل من أجله. وفوق كل هذا، فان الكتاب المدرسي قد داهمه البعد التجاري والنظرة الاستهلاكية البحته، شأنه في ذلك شأن بعض السلع والمواد التي تستعمل مرة واحدة ثم يستغنى عنها مثل ادوات الحلاقة وغيرها من المواد الاستهلاكية. وهذا البعد الذي اصبح عليه الكتاب المدرسي يبدو مقصودا وتحركه اياد تجارية ليست لها أية علاقة بالتربية والتعليم والقيم التي تقوم عليها. كما ان لاصحابه نظرة تقوم على الربح الشخصي المقيت الذي لا يراعي البعد التربوي والاجتماعي في مجال التربية والتعليم، ولا يقيم لهذه الجوانب امام المشهد التجاري الذي يحركه أي وزن، والا فكيف يصبح الكتاب المدرسي كتابا وكراسا للتمارين في آن واحد وبالتالي يقع التخلي عنه بانتهاء السنة الدراسية وطبع الجديد منه على اعتبار انه مستهلك في جانب منه وغير صالح لاستعماله من طرف تلميذ آخر في السنوات لاحقة. فهل فكر اصحاب هذا التوجه في الاموال الطائلة التي تتكبدها الدولة في كل سنة جراء التعويض الذي تنفقه الدولة من اجل ملايين الكتب وقيمة الورق الذي يورد بالعملة الصعبة؟ وهل اقام هؤلاء الذين انتهجوا هذا النهج مع الكتاب ما تتكبده العائلات سنويا من مصاريف من أجل الكتاب المدرسي الذي اصبح صالحا لسنة واحدة دون امكانية اعتماده في السنة الموالية؟ ان هذه الصورة والتوجه الذي فرض في التعامل مع الكتاب المدرسي اليوم فريد من نوعه في العالم، ومظهر آخر من مظاهر خلط الأغراض التجارية بالمقاصد التربوية ومن هنا وجب اعادة النظر في تصميم الكتاب المدرسي وفي تعميق محتواه وفي المحافظة عليه لتداوله بين اجيال التلاميذ لسنوات، وفي بقائه بعيدا على المضاربات وعن الجانب التجاري البحت. بين الكتاب المدرسي والكتب الموازية مشهد آخر ما انفك يختلط فيه الحابل بالنابل و باتت صورته لا تقل قيمة عن الفوضى في الحقل التربوي، وهو ما يحصل بين واقع الكتاب المدرسي، واعتماده ودوره، وما يسمى بالكتب الموازية، وفرضها على التلاميذ. ففي هذا المجال طوق الكتاب المدرسي بجملة من الكتب الموازية حد الاختناق، وبات التلميذ مذبذبا بينها وبين كتابه المدرسي الى حد بات فيه العديد من المربين يعتمدون ويطالبون بهذه الكتب قبل الكتاب المدرسي. ونحن نقول هذا دون الحديث عن محتواها الذي يعلم الله بقيمته وبطرق اعتماده وبمجالات الموافقة على وجوده اصلا في الساحة التربوية. أليس هذا ضرب من التطاول على البرامج التربوية وادخال الانوف فيها، وربحا تجاريا يعتمده البعض ممن يحسبون اليوم على المجال التربوي في حين ان الذي يقودهم هو ربحهم المادي وما يضعونه في جيوبهم من أموال. فهل بعد هذا يمكن الحديث عن كتاب مدرسي قيم؟ والى متى تبقى السلط المعنية صامتة امام هذا التقهقر الذي لحق بالكتاب المدرسي ؟