تونس الصباح: تجاوزت الساعة التاسعة ليلة أوّل أمس بالمسرح الاثري بقرطاج ولم يكن هناك ما يشير إلى أن العرض الموسيقي "حنبعل بركة" سيحظى باقبال جماهيري كثير العدد. بضعة أشخاص متوزعين هنا وهناك بمدارج المسرح واسع الارجاء والمقاعد شبه خالية حتى باتت الاسئلة تساورنا حول حظ الموسيقى الكلاسيكية بهذا المهرجان وبهذا البلد عموما. لكن مع مرور الدقائق بدأت الافواج تأتي من مختلف المعابر المؤدية إلى المدارج والمقاعد وبدأت ملامح الجمهور تتشكل حتى صرنا نقترب من ذلك المشهد الذي عادة ما يتكرر خلال السهرات الجماهيرية. مسرح مليء بالجمهور أو يكاد وأجواء واعدة لاننا وسواء كنا متفقين أم لا حول دور الجمهور وما إن كان حاسما في تحديد قيمة العرض فإن العرض خاصة في مسرح الهواء الطلق، لاسيما إذا كان في حجم المسرح الاثري بقرطاج يفقد نكهته في غياب الجمهور أو عندما يكون عدده قليلا. اكتملت إذن بحضور الجمهور العناصر التي تعد عادة بعرض ناجح. المشهد على الركح كان ملفتا للانتباه حتى قبل انطلاق العرض. هناك شبه اكتساح للركح. عدد الكراسي الكبير الموزعة على الرّكح كانت توحي بكثافة عدد الموسيقيين أضف إلى ذلك أن مؤسستين موسيقيتين في حجم الاوركستر السمفوني التونسي والاوركستر الفيلارموني المغربي تؤمنان السهرة دون أن ننسى التأليف الموسيقي الذي كان بامضاء جلول عياد رجل أعمال وهاو للموسيقى والهواية في هذا المجال تحمل معنى مختلفا. الهواية تعني ربما هنا هامشا أكثر من الحرية في الخلق. رقصة «الموغادور» استغرق دخول العازفين - نظرا لعددهم الكبير واتخاذ أماكنهم- بعض الوقت. وضعت آلة البيانو الضخمة في الواجهة وتوسطت المسرح وانطلق العرض على إيقاع هذه الالة بلمسات من العازف الروسي "قلبيّوز" اهتز لها الجمهور وصفق بحرارة. وكانت آلة البيانو ضمن بقية الالات التي شاركت في عزف القطعة الاولى التي تواصلت كامل الجزء الاول من العرض تحت عنوان "رقصة الموغادور" قبل أن تسحب الالة نهائيا باقي فقرات العرض. وكان الجزء الاول تحية من المؤلف للبلد الذي يحتضنه المغرب الاقصى. كانت محاولة لانصهار لونين من الموسيقى، الموسيقى السمفونية بالموسيقى التقليدية المغربية وكانت الروح المغربية واضحة في هذا العرض خاصة من خلال إيقاعات الطبلة. رقصة "الموغادور" عبارة عن قطعة حالمة مليئة بالانغام وهي عبارة عن نشيد للفرح تنتشي فيها الآذان وترقص القلوب على ألحانها. استقبل "المايسترو " أحمد عاشور الذي قاد مجموعة العازفين المتكونة من عناصر الاوركستر السمفوني التونسي وعناصر الاوركستر الفيلارموني المغربي استقبالا يليق بقادة الفرق العالمية. وإن كان أحمد عاشور سواء من خلال هيئته أو من خلال خبرته في مثل هذه الموسيقى وهو الذي يقود الاوركستر السمفوني التونسي منذ سنين وفي مثل هذه المواعيد لا يقل عنهم في شيء فإن قبول الجمهور الحسن بقرطاج وتصفيقه المطول لا يمكن إلا أن يكون محل ترحاب... "المايسترو" أحمد عاشور الجزء الثاني من السهرة تمثل في سمفونية خاصة بالقائد القرطاجني حنبعل تحمل السمفونية التي تكونت من ثلاث حركات عنوان "حنبعل بركة". وقيل "بركة" تعني في القديم الصاعقة. تمت تهيئة الاجواء لهذه السمفونية بقصيدة عربية مطولة تتغزل بتونس الخضراء وبمآثر بطلها القائد التاريخي حنبعل وتم استخدام صوت جهوري لالقائها. انبعث الصوت من الشريط المسجل قويا وهادرا بين أرجاء المسرح يصحبه الصدى فنخال المسرح الروماني وكأنه عاد إلى ذلك التاريخ الذي ولّى. تجندت الآلات من مختلف العائلات، بين آلات نفخ وآلات إيقاع وآلات وترية لتعلن القائد حنبعل وكما قالت القصيدة "على مشارف النوتة". فتحت السمفونية دفاتر التاريخ وأعلنت الحركة الاولى منها عن فخر قرطاج بقائدها. كانت الحركات الثلاث المكونة للسمفونية - وعادة ما تكون السمفونيات التي تتخذ بعدا كبيرا تتكون من ثلاث حركات أو أربع- وهي على التوالي "فخر قرطاج" و"الرحلة الطويلة" و"المسيرة الغانمة" متقاربة من حيث المساحة الزمنية ومتوازنة تقريبا من حيث الصياغة الموسيقية. كان المؤلف وكأنه يريد بذلك أن يؤكد أن كامل مسيرة القائد كانت على مستوى كبير وجدير بالاحتفاء. الاسطورة التي تفوقت على امبراطورية روما تهيمن إيقاعات الحرب خاصة عندما تختلط أصوات عشرات آلات الكمان مع صوت آلات الايقاع وآلات النفخ لاسيما منها السّاكسو على العرض. وقد حرص الموزع الموسيقي على الفصل بين مجموعة العازفين "الكلاسيكيين" وعازفي الطبلة يقومون بين الحين والاخر ليصدروا تلك الاصوات التي تبدو في كل مرة وكأنها تدق طبول الحرب أو تعلن خبر احدى مغانم القائد. وتجدر الاشارة إلى أن القائد القرطاجني حنبعل قد برز بمواجهته بجيوشه للامبراطورية الرومانية التي استبسل في مواجهتها حتى وإن انتهت الحروب البونية الثلاث الشهيرة في التاريخ منها ما شارك فيها حنبعل ومنها من لم يشارك فيها والتي استغرقت قرنا كاملا بانتصار روما فإن أخبار شجاعة حنبعل وكسبه لمعارك طاحنة ضد الرومان جعلت انتصارات روما لا ترتقي إلى مستوى ما بلغه القائد من صيت متحولا بذلك إلى أسطورة مازالت صداها في ذاكرتنا إلى اليوم. ولم تكن السمفونية ببعيدة عن أجواء الاسطورة. عزف على وتر البطولات واستعراض للمآثر وتشخيص لبطولات القائد "المغوار". لقد كانت مختلف الايقاعات عبارة عن نشيد للنصر، تنطلق الموسيقى في مختلف حركات السمفونية خافتة ثم تراها ترتفع فتصبح هادرة ومستنفرة تستفز المشاعر وتوقظ ذلك الكم من العواطف الرابضة بداخلنا خاصة إذا اشتغلت كل الالات (ما يفوق المائة آلة) معا في آن واحد في شكل عاصفة مشهودة من الموسيقى، ليعود إلينا العازفون مع نهاية العرض في لحظة هي أقرب إلى اللحن الشجي في الموسيقى الشرقية. المعزوفة الاخيرة في العرض تحمل اسما. إنها تحية إلى روح والدة المؤلف الموسيقي التي أرادها في آن واحد إعلان اعتراف ومناجاة من خلال ابراز أصوات الآلات الوترية مرفوقة بالخصوص بأصوات الساكسوفون. وقف الجمهور في نهاية المطاف ليصفق طويلا "للمايسترو" أحمد عاشور الذي كان واضحا أنه استنفر كامل حواسه في عرض لا تبدو إدارته بالهينة ولمجموعة العازفين التي قدمت عرضها في أجواء حارة وفي فضاء للهواء الطلق ولمؤلف العرض الذي تقدم بفكرة طريفة على أكثر من مستوى، فهو يحتفي بقائد تاريخي وبرمز يحمل مكانة كبيرة عند التونسيين وفاق صيته حدود البلد. وهو إن يحتفي به اليوم كل من الاوركستر السمفوني التونسي والاوركستر الفيلارموني المغربي فهو ذلك القائد الذي تفخر به المنطقة المغاربية كأحد رموزها الكبيرة. وهو أيضا أي المؤلف يختار الموسيقى الكلاسيكية ويعمد إلى صهرها بالروح الشرقية إذا ما قسنا الامر بالموسيقى الغربية. ذكّرنا الجمهور بتلك النهايات السارة على غرار ما تعيشه قاعات العروض الكبرى التي يقف الجمهور فيها إجلالا للعازفين على إيقاع الورود التي يتبادلها قادة الفرق. ولعله يجدر التذكير أن الاختلاف في التسمية بين الاوركستر السمفوني والاوركستر الفيلارموني وإن كانت الموسيقى تقريبا واحدة تعود أولا إلى الاختيارت وثانيا إلى الفرق بين المجموعتين، فإن كانت تسمية الاوركستر السمفوني تعني فقط المجموعة بعينها فإن الاوركستر الفيلارموني الذي يجعل الباب مفتوحا لمختلف عائلات الالات يكون أحيانا اسما شاملا لمجموعة من التشكيلات الموسيقية الكلاسيكية التي تكون تابعة لمؤسسة. ويجدر التذكير أن نفس العرض يقدم اليوم بمهرجان الجم الدولي للموسيقى السمفونية لكن ليس بقيادة المايسترو أحمد عاشور.