إذا كنت تريد أن تعرف مدى تقدم أي مجتمع والمستوى الذي بلغه في مسيرة التنمية، من المهم أن تطلع على وضعية المرأة فيه ومدّونتها الحقوقية والقانونية ودرجة حضورها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. أما التعرف إلى مدى نضج التجربة التنموية وعمق المشروع السياسي الذي تتوخاه النخبة السياسية الحاكمة، وحقيقة جدية تعاطيها مع مسألة المرأة، فإنه كفيل تأمل واقع مشاركتها السياسية ومدى نوعية مساهمتها في صنع القرار السياسي. فالمشاركة أداة قياس التنمية بامتياز وأحد أهم مؤشراتها وهي الدليل الملموس الذي تظهر فيه المساواة في حق التمكين وأيضا الجهد السياسي المبذول من أجل تطوير قابلية المرأة ومهاراتها للمشاركة الفاعلة. ففي هذا الإطار من الأهمية البالغة يندرج قرار الرئيس بن علي رفع نسبة حضور المرأة إلى 30% وذلك بتعزيز حضورها في المؤسسات التشريعية وفي الأحزاب. وهو قرار علاوة على استثنائيته ومزيد تأكيده خيار الدولة الحاسم، فهو يبرز عمق تبني مسألة تطوير المشاركة السياسية للمرأة التونسية. ذلك أن اعتماد نظام الحصص والرهان على حصة هامة تبلغ الثلث، يزيدان من تقوية منزلة المرأة في خيارات الحزب الحاكم وفي المشهد السياسي ككل، وأيضا في تجذير انتمائها الوطني بعد تضافر كل البراهين والأدلة المادية التي تؤكد أن المرأة التونسية أبعد ما تكون عن منطقة الهامش سياسيا أو اقتصاديا أو ثقافيا. من هذا المنطلق، يصح التعاطي مع القرار الرئاسي القاضي بالترفيع في نسبة مشاركة المرأة في مواقع القرار والمسؤولية بوصفه قرارا يصب في جوهر التمكين السياسي للمرأة وأيضا يعكس خطوات جبارة في مجال مزيد إنصافها إذ أن مفهوم الإنصاف يشكل بعدا أساسيا من أبعاد التنمية البشرية. فهو يساعد على بناء القدرات وإتاحة الفرص للجميع ومقاومة المعوقات القائمة على أساس النوع الاجتماعي. وفي الحقيقة قرار الرئيس بن علي المشار إليه وإن كان يتصف بالجرأة وبالتبني الخاص والمميز للمرأة التونسية، فإن دلالات هذا القرار تستدعي استحضار اللحظات المشرقة الكثيرة التي سجلت الإعلان عن قرارات وسن مجموعة هائلة ورائدة من القوانين. فالوصول إلى مرحلة الرهان على المرأة التونسية بتمكينها من 30% من مواقع القرار والمسؤولية هي مرحلة تتويجية لمسيرة تراكمية من الانجازات والمكاسب في مجال المرأة. بل أن النسبة المعلن عنها هي في الواقع نتاج تأهيل ونضال سياسيين واجتماعيين يعودان إلى تاريخ بناء الدولة الوطنية حتى اليوم. ولابد من الإشارة إلى أن ثروة تونس في مجال تحرير المرأة وتشريكها في المجتمع هي ثروة ذات خصوصية وتفوق مقارنة بالدول العربية والإسلامية. وإذا ما راجعنا المكاسب التي تحققت خلال العقدين الأخيرين سنجد أنها نوعية وساعدت على إنتاج امرأة تونسية مختلفة تعي استقلاليتها وتُدافع عن حقوقها وتعرف واجباتها ويكفي في هذا الصدد نجاح التشريع التونسي في القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة. وهنا نستنتج أن قوة الإرادة السياسية للنهوض ومزيد النهوض بوضعية المرأة التونسية حقيقة لا يرتقى إليها الشك وتستمد هذه الإرادة قوتها وصلابتها وتناميها القياسي من الإيمان العميق بأنه لا تقدم ولا تنمية دون امرأة تونسية كاملة الحقوق والواجبات تكون وجه التحديث الحقيقي وقلبه النابض. وتُحسب هذه الرؤية الحاسمة في مجال المرأة والحداثة وما يجمع بينهما من ترابط عضوي تلازمي، لفائدة الإرادة السياسية العليا الواعية بشروط التقدم والنماء والتي تأكدت- أي الإرادة- في تعديلات 13 أوت 1992 وبلغت أعلى مستوياتها سنة 1997 بتحويل مجلة الأحوال الشخصية إلى مرتبة دستورية تمثل بدورها لا فقط ثورة تشريعية متواصلة بل وأيضا دعامة من دعائم النظام الجمهوري. وبفضل هذه الرؤية المتطورة والحاسمة لم تبخل تونس في التوقيع على كافة الاتفاقيات الدولية المتصلة بحقوق المرأة وعلى رأسها السياسية ونذكر من هذه الاتفاقيات الاتفاقية الدولية حول الحقوق السياسية للمرأة والاتفاقية الدولية حول مكافحة كل أشكال التمييز ضد المرأة، مع الحرص على ضمان ممارسة جادة للتشريعات من خلال جعلها متناغمة مع أحكام الدستور والمنظومة القانونية الشاملة. وكنتيجة للمكاسب القانونية التي تحققت للمرأة على مدى خمسة عقود، ظفرنا بعدد وافر من الكفاءات النسائية في الحياة العامة والنشيطة وأظهرت المرأة سواء في مجال طلب العلم وفي مجال العمل والإبداع كفاءة وتميزا. و المؤشرات التي تدل على المستوى العالي الذي وصلت تونس إليه في مجال إنتاج النخب النسائية والكوادر العليا وذوات الاختصاص والمعطيات ذات الصلة بالحضور السياسي للمرأة في مواقع القرار( نسبة 22 فاصل 7 بالمائة من أعضاء مجلس النواب- نسبة 15 فاصل 2 بالمائة من أعضاء مجلس المستشارين - 24% من العاملين في الحقل الدبلوماسي) أكثر من أن تحصى أو تعد. إذن قرار رئيس الدولة زين العابدين بن علي الترفيع من حصة المرأة في المجال السياسي هو نتاج رؤية واضحة وحاسمة وتطور طبيعي ومنطقي لمجموع المكاسب التشريعية التي دعمت حضورها داخل الأسرة والمجتمع وأنظمته. ولئن أثلج- أي القرار- صدر التونسيات وكذلك الرجال المؤمنين بدور المرأة ومكانتها، فإنه لم يفاجئ أحدا باعتبار تناغمه مع المقاربة المعتمدة والمكاسب المتحققة، وتلبيته لطموحات الإرادة السياسية العليا ورهانه غير المشروط على المرأة. وبالمرور إلى مرحلة مزيد التمكين السياسي للمرأة التونسية ومنحها الحصة الكفيلة بممارسة دورها في صنع القرار والتأثير فيه تكون تونس قد حققت عدة أهداف في الوقت ذاته. ذلك أن القرار الرئاسي الخاص برفع نسبة حضور المرأة السياسي إلى 30% هو أكبر من أن يكون قرار لفائدة المرأة فقط. وأغلب الظن أننا نهضم له حقه إذا ما حصرناه في هذه الدائرة الصغيرة. فهو قرار يصب في جوهر تطوير منظومة حقوق الإنسان في بلادنا إذ أن حقوق المرأة جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان والمشاركة السياسية من حقوق الإنسان الأكيدة. ويمكن تحديد مضامين أهداف قرار الزيادة في المشاركة السياسية للمرأة في النقاط المحورية التالية : - إثراء رصيد حقوق الإنسان من خلال الاستفادة من العلاقة العضوية القائمة بين منظومة قيم حقوق الإنسان ومسألة المشاركة السياسية للمرأة كحق من حقوقها. الاستجابة لمتطلبات التنمية وشروطها باحترام الرابط الآلي بين التنمية البشرية للمجتمع وحجم المشاركة السياسية ونوعيتها خصوصا أن المشاركة السياسية للمرأة معيار تقاس به التنمية وتوصف في أي بلد من البلدان. مما يعني أن نسبة الحصة السياسية المعلن عنها لفائدة المرأة التونسية ستضمن لنا تلبية أحد مؤشرات قياس العملية التنموية في عالم اليوم. فتونس قد تعدت مرحلة تمكين المرأة من حق التصويت وانتقلت منذ سنوات طويلة إلى حقوق أخرى توفر لها حقوق الترشيح للهياكل التمثيلية والاشتراك في المسؤوليات السياسية والديبلوماسية بل وأيضا الحق في بعث الأحزاب والجمعيات. - النقطتان السابقتان تؤديان تلقائيا إلى مزيد الاستثمار في مسألة الديمقراطية ومزيد تحصينها من خلال تلبية شروطها وأسباب قوتها في مستقبل تناميها. ونقصد بذلك أن تدعيم المشاركة السياسية للمرأة و"توريطها" ايجابيا في نحت حاضر تونس ومستقبلها، يشكل صمام أمان ضد المتربصين بحداثة تونس ومكانة المرأة الرفيعة فيها والذين كثيرا ما يلبسون الديمقراطية جبة تخفي ما تخفي تحتها! لذلك فإن قرار الرئيس بن علي الترفيع في نسبة المشاركة السياسية للمرأة هو قرار داعم ويحث على الشعور بالمسؤولية إضافة إلى أنه متعدد الأهداف ويصب في الآن نفسه في مجرى حقوق الإنسان ومجرى الديمقراطية ومجرى التنمية ومنها إلى الحداثة وإلى تونس أكثر إشراقا وتعبيرا وأسلحة ضد التخلف والانغلاق والتطرف وهنا مربط ثراء القرار وذكائه.