منذ الإعلان عن تقرير ريتشارد غولدستون بخصوص الانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل خلال حربها على قطاع غزة في ديسمبر جانفي الماضيين، والتلويح ب «تمرير» التقرير إلى مجلس الأمن الدولي، كانت تل أبيب تسابق الزمن والتقرير معا من أجل «الإطاحة» به قبل أن يصل إلى أروقة المجلس، حيث كان يتوقع إدانة إسرائيل وربما معاقبتها وفقا للقانون الدولي.. وعلى الرغم من التحرك الأمريكي والإسرائيلي دوليا للحيلولة دون وصوله إلى مجلس الأمن، فقد كانت الدولة العبرية في حالة استنفار قصوى في مسعى للبحث عن «سيناريو» تقلب بواسطته الطاولة على الجانب العربي، وتعيد الكرة إلى الملعب الإيراني، الذي يعدّ الأكثر استهدافا من قبل إسرائيل، على خلفية ملفها النووي الذي أطرد النعاس من جفون القيادة الإسرائيلية بشقيها العسكري، والديبلوماسي والسياسي على حدّ سواء منذ أمد بعيد.. فليس من باب الصدفة حينئذ، أن تهرع إسرائيل إلى المياه الدولية، شرقي البحر المتوسط، متتبعة سفينة «فرانكوب» القبرصية فور مغادرتها ميناء قبرص، لكي تعلن بسرعة كبيرة احتجازها لأسلحة زعمت أنها مهربة من إيران وسوريا باتجاه «حزب الله» اللبناني، في خطوة فاجأت العالم، لكنها لم تفاجئ إسرائيل التي كانت «استعدت» لهذا «الحدث» بشكل هادئ لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.. سوريا وإيران في الزاوية فقد وضعت ما تصفه ب «ثالوث الرعب»، المهدد لاستقرارها وأمنها، ونعني هنا سوريا وإيران و«حزب الله»، في قفص الاتهام، سيما بعد أن نجحت كل من دمشقوطهران في إذابة جليد التباينات مع المجتمع الدولي وبخاصة أوروبا والولاياتالمتحدة، واستعادتا نوعا من الدفء في علاقاتهما بالمجتمع الدولي بشكل عام.. والحقيقة، أن إسرائيل لم تخف رغبتها الشديدة في استخدام السيطرة على السفينة الإيرانية، كرافعة في الضغط على الأسرة الدولية، طمعا في استعادة ضغطها على طهران بشأن الملف النووي، ما يفسر الحملة الديبلوماسية الإعلامية الواسعة التي أطلقتها تل أبيب على طهرانودمشق، ضمن سياق المخاوف الإسرائيلية من التوافق الغربي مع إيران، بعد أن بدأت تلوح في الأفق بوادر غربية في هذا الاتجاه.. لم يتأخر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين ناتنياهو لحظة عن «استثمار» حدث السفينة، ليوجه اهتمام الأسرة الدولية باتجاه «الضغط جوهريا على إيران للكف عن هذه النشاطات الإجرامية، وأن توفر الدعم لإسرائيل حينما تدافع عن نفسها في وجه الإرهابيين ورعاتهم»، على حدّ قوله، مشيرا إلى أن «من لا يزال بحاجة لإثبات قاطع، بأن إيران تواصل إرسال الأسلحة إلى المنظمات الإرهابية، حصل على هذا الإثبات اليوم بشكل واضح وقاطع».. واتهم الرئيس الإسرائيلي، شيمون بيريز من جهته إيران وسوريا، بأنهما «تعملان ضد القانون الدولي، ومن أجل تقويض السلام في الشرق الأوسط».. وحتى يكون الإخراج على الشاكلة الإسرائيلية المعهودة، قال المتحدثون باسم الجيش الإسرائيلي، أن السفينة المسماة «فرانكوب»، تحمل على ظهرها مئات الأطنان من الأسلحة، وبينها أكثر من ثلاثة آلاف صاروخ وقذيفة، قبل أن تصحح هذه المعطيات في وقت لاحق وهي تستدرك «إنه تم ضبط 300 حاوية على ظهر السفينة، وإن تفتيش حوالي نصفها أظهر وجود 36 حاوية فقط تحوي أسلحة».. لكن طهرانودمشق، سارعتا بدورهما إلى نفي الإدعاء الإسرائيلي خلال مؤتمر صحفي لوزيري خارجية البلدين، منوشهر متكي ووليد المعلم، عندما أكدا من طهران أن «هذا الخبر عار عن الصحة»، مشددين على أن «السفينة كانت تحمل بضائع من سوريا إلى إيران، ولم تحمل السلاح أو معدات لإنتاج الأسلحة»، فيما نفى «حزب الله» أي علاقة له بالسفينة، متهما إسرائيل ب «القرصنة الدولية».. تقرير غولدستون لكن سوريا وإيران ليستا الزاوية الوحيدة في الاستهداف الإسرائيلي، فثمة المرمى الأممي الذي تتجه إليه الأنظار على خلفية تقرير غولدستون، حيث تجري مناقشته في الجمعية العامة.. لقد سعت إسرائيل إلى التغطية على النقاش الدولي حول تقرير غولدستون عن جرائم الحرب التي اقترفتها في قطاع غزة، من خلال تقديم نفسها في صورة الكيان المستهدف، بما يبرر «دفاعها عن نفسها» تجاه «الاعتداءات» المتكررة التي تطالها بين الفينة والأخرى، وفق التصريحات الإسرائيلية المتعارف عليها.. ولأن النقاش حول غولدستون تهيمن عليه الصبغة القانونية، فقد عملت تل أبيب على «توظيف» عملية احتجاز السفينة، في السياق القانوني الدولي، وضمن حملتها الإعلامية والديبلوماسية التي تهيأت لها بشكل منظم ومدروس، وذلك من خلال استخدام قرارين دوليين اثنين.. الأول قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1737، الذي يحظر على إيران تصدير أنواع معينة من الأسلحة والمقذوفات، ومن ثم الإيحاء بأن طهران تنتهك قرار مجلس الأمن، والتشديد في المقام الثاني، على أن الأسلحة موجهة ل«حزب الله» في لبنان، وليس لأية جهة أخرى، ما يعني أنها تمثل انتهاكا للقرار 1701. وأفادت مصادر إعلامية عبرية، أن تعليمات دقيقة قدمت إلى الديبلوماسية الإسرائيلية بضرورة التشديد على أن «محاولة تهريب أسلحة إلى سوريا وحزب الله كانت انتهاكا لقرار مجلس الأمن الدولي»، وهو ما ترجمته وزارة الخارجية في مذكرة خاصة كانت بمثابة «كلمة السر» إلى ديبلوماسييها، تنص على أن «إيران تواصل تهريب أسلحة إلى إرهابيين تحت ستار تجارة دولية شرعية". طريق الملاحة الدولية على أن عملية القرصنة التي قامت بها إسرائيل شرق البحر المتوسط، خلفت الانطباع بأن هذه المياه الدولية، أصبحت شديدة الخطورة على الملاحة البحرية، باعتبارها تخضع لأحكام القوة الإسرائيلية فقط، ولا تنتظم وفق القوانين الدولية.. ولا شك أن الهدف من الكشف عن السفينة في هذا التوقيت بالذات، يتمثل في إطلاق رسالة للعالم في اتجاه سياسي وإعلامي، فحواها أن إسرائيل مهددة في أمنها واستقرارها من جهة، وبأنها نجحت في الكشف عن أحد المسارات البحرية التي تزعم إسرائيل أن طهران تستخدمها لتهريب الأسلحة من جهة أخرى.. وهو ما يفسر تلك التفاصيل التي عرضها العديد من المعلقين الإسرائيليين بخصوص الطريقة التي قالوا إن إيران تستخدمها لخداع سلاح البحرية الإسرائيلية، والمتمثلة في إيصال السلاح إلى سوريا عبر سفن تنزل شحنتها في موانئ وسيطة قبل أن تصل إلى غايتها الرئيسية.. لكن متحدثين إسرائيليين صرحوا بما يناقض المعطيات الإسرائيلية التي وردت على ألسنة المسؤولين في الدولة العبرية، حيث أشاروا إلى أن الشحنة التي تم العثور عليها، «لا تحوي أسلحة مخلة بالتوازن»، والمقصود في هذا السياق، أنواع جديدة من الصواريخ المضادة للدبابات أو الطائرات.. فقد أكد معلقون إن كل الأنواع التي تم ضبطها، متوفرة ضمن ترسانة «حزب الله» كما ظهرت في «حرب تموز» العام 2006. واللافت للنظر وفق بعض المراقبين، أن سيطرة القوات الإسرائيلية على السفينة «فرانكوب»، تطرح أسئلة كثيرة تهم سكوت الدول الأوروبية التي تدعي تشغيل الأساطيل لحماية المسارات البحرية. ويبدو أن إسرائيل فوضت نفسها فعلا، بممارسة عملية التفتيش في المياه الدولية، فيما أن الولاياتالمتحدة التي تتوفر على أكثر من قاعدة عسكرية بحرية في هذه المياه الدولية، لم تتجرأ على القيام بهذه «المهمةّ».. ومن المؤكد أن إسرائيل تسجل هنا سابقة تكمن أهميتها في صمت «حراس القانون الدولي» في البحر المتوسط، إذا لم نقل مشاركتهم في هذا الصنيع.. وعلى الرغم من هذه المساعي الإسرائيلية لقلب المعادلة على الصعيد الدولي وضمن الأممالمتحدة، أبدت دول العالم نوعا من الصمت إزاء هذا «النشاز» الإسرائيلي في سمفونية دولية باتت حريصة على ما يبدو على اتباع النوتة الدولية (القانون الدولي)، وليس الألحان الخارجة عن هذا السياق