تُقبل المنطقة العربية اليوم على صباح قويّ، واعد. إنّها على أُهبة الفجر لتُنهي عهدا طويلا مع القهر وتقطع مع حكّام ظنّوا أنفسهم فوق البشر وفوق العادة، وجعلوا من القانون غطاء لفسادهم. لقد ظنّوا حدّ النرجسيّة وحدّ المرض أنّ زعامتهم جبلّة فيهم، وما كان لهم أن يكونوا، في تصوّرهم، إلاّ قادة وزعماء وملوك ورؤساء حتى الموت. هكذا ظنّوا أنّهم باقون بعد شعوبهم الذين يحكمونهم منّة وتواضعا. ولعلّ مرض العظمة لديهم أوهمهم بأنّهم ضيوف حتّى الأبديّة على شعوب عابرة وهم باقون. ولكن ها إنّ فجر الثورة العربية البهيّ يشعّ من تونس ليحاصر هؤلاء الظَّلَمَة في أنفاق مظلمةّ هم وأعوانهم ممن كانوا أسلحة القهر وتشريع الاستبداد. فهذا بن علي الذي حكم البلاد بشهادة طبية مدّة ثلاثة وعشرين سنة يهرب بعد أن انكسرت أسلحته الغاشمة أمام قبضة شعب أبيّ التف حول صمود أسطوري لأهلنا في سيدي بوزيد دام سبعة عشر يوما. وها ان حسني مبارك الذي تربّع طويلا كملك هرم على عرش مصر يخرج من أصغر ثقب في أرض شاسعة حتى لا يذكره التاريخ إلاّ في جملة واحدة لا فعل فيها. وما كان له أن ينحني صاغرا لولا إرادة شعب مصر التي لا يفلّ فيها حديد الطغاة. وها ان شعب ليبيا يحاول أن يرفع عنه غبار الكلس الذي تراكم طويلا، حتى صار من العسير إزالته، ها هي دماؤهم تروي حقولهم العطشى، ومع ذلك يصرّ الحاكم على مزيد سفك الدماء، ويظنّها دماء جرذان ينبغي القضاء عليها، والحال أنّها دماء زكيّة لشعب أبيّ مسالم صبر وصابر على القهر طويلا، ولما انتفضوا أسوة بإخوتهم في تونس قال لهم من أنتم ؟ ولا يعلم القذافي أن الزمن البربريّ انتهى، وأنّ عهد الثورات العربية قد جاء أوانه. لقد فعل كل شيء ليمنع نشأة دولة حديثة في ليبيا، مصرّا على أن ينصب خيمته في كلّ أرض يحلّ بها، حتى وإن كانت أرضا لم تعرف الخيام، ترحل معه حتى إلى بلاد الغرب الذي حقّق حداثته منذ القرن الثامن عشر، وعلى كتاب أخضر كلّف ليبيا المليارات رغم ما فيه من مهزلة فكريّة يتندّر بها الليبيون قبل غيرهم. وبعد سنوات عجاف من قائد يزعم أنّه لا يحكم وأن الثورة هي التي تشرّع وجوده، فإذا بالثورة تكشف زيف ما يقول. ويصرّ القذافي على أن تكون نهاية حكمه مدخلا ممكنا للاستعمار الغربي لبلده، أو في الحدّ الأدنى لهدر إمكاناته النفطية وتحطيم مدنه بالقنابل والصواريخ بعد أن تجمّعت عليها أمريكا وفرنسا وبريطانيا وكندا وألمانيا وإيطاليا وحتى قطر التي تزعم أنّها تقصد من وراء مشاركتها العسكرية إيقاف حمّام الدّم. كيف يتمّ إيقافه وكل هذه القدرة التدميرية تحكم قبضتها على إخوتنا في ليبيا ؟ ألم يكن حريا بكم أن تدفعوا باتجاه حلّ عربيّ يمنع تهافت الغرب على ثروة ليبيا. ولكن ما حصل قد حصل فعلى دول المغرب العربي، على الأقل، أن يتنبهوا اليوم إلى ما يحدث في ليبيا، حتى لا يكون هذا التدخّل الغربي مدخلا للغزو، غزو قد يمتدّ ليطال بقية بلدان المغرب. وللغزو أشكال مختلفة، غزوالأسواق وغزوالأرض وغزو النفط وغزوالقرار السيادي وغزو الثورة التي باتت تقلق المصالح الغربية. هذا الغرب الذي لطالما تدخّل في المنطقة العربية باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان يدقّ ناقوس الخطر ضد وهج الثورات العربية، التي بدأت تبشّر برفع يد الأجنبي عن ملحها. وهاهي اليمن أيضا تنتفض وتصرّ على الخروج من بيت الطاعة التي فرضها عليها علي عبد الله صالح ومن ورائه نظامه. اليمن هي اليوم على حافّة الثورة بعد أن نزفت ساحة الحرّيّة دماء زكيّة طاهرة. يعلن شعبها بصوت مصرّ عن حبّه للحياة عندما يصل الغد الذي فيه يرحل الحاكم ويصفي خدّ السماء في اليمن من غبار القهر. وها هي البحرين نجمة الخليج وغدها المشرق تتململ في الحصار، تبحث عن قافية الحرّيّة، ولكنهم لن يسمحوا لها الآن على الأقل أن تقض مضجع أمراء الخليج وشيوخها. يوجد إصرار يتكرّر في كل هذه الإرهاصات الثوريّة على تقتيل الثوّار بدعوى الإرهاب والقاعدة والحالات المعزولة. إنها نرجسية الحاكم العربي المجروحة بعد أن تبيّن له أنّه لم يعد مقبولا في صباحات أوطان تنبّه أهلها إلى أنّهم بشر يستحقّون حياة كريمة، بشر ملّوّا تخلّف الحكّام، وصاروا توّاقين إلى أجنحة حرّة لا يحاصرها حديد القهر. د. محسن بوعزيزي