على خلاف الدراسات السابقة التي كانت تشدد وتركز على نصف الكأس المليء ماء في تشخيص واقع الأمن الغذائي الوطني متوقفة مطولا عند إبراز الانجازات المحققة على درب بلوغ الاكتفاء الذاتي ورسم أهداف طموحة جدا وتحديد جدول زمني قريب لتحقيقها قد يجانب الواقعية انتهجت أحدث الدراسات التي عرضت نتائجها أمس الأول منحى مغايرا يعتمد تدقيق النظر واستقراء نصف الكأس الفارغ في تشخيص مواطن النقص وتوخي أكثر واقعية في التعاطي مع راهن القطاع الفلاحي... لا سيما في المواد الأساسية التي تشكل أبرز المنتجات الاستهلاكية في غذاء التونسي وأكثرها ارتباطا بما وراء حدودنا وهي الحبوب التي يعلم الجميع حجم تبعيتها للخارج حيث أن معدل نسبة الاكتفاء الذاتي لم تبارح مستواها المتواضع منذ سنوات والمقدر ب46بالمائة من القمح الصلب واللين معا وإن تعتبر كفة ميزان الصنف الصلب أكثر ثقلا في بلوغ الاكتفاء المنشود بتغطيتها 68بالمائة من الحاجيات الوطنية، في المقابل لا تتجاوز النسبة 19بالمائة في القمح اللين ما يعمق كلفة التبعية في ميزان الواردات خاصة في سنوات التصاعد الخيالي لسقف الأسعار العالمية للحبوب وهي موجة آخذة في التفاقم ومعها يزداد نزيف العملة الصعبة لبلد يشهد له التاريخ أنه كان "مطمورة روما" ولئن لا يعد الاختلال القوي لميزان الإنتاج المحلي والواردات بالمعطى الجديد فإن الجديد أو الإضافة التي أتت بها الدراسة المنجزة بعد الثورة بالتعاون بين وزارة الفلاحة والمنظمة العالمية للأغذية والزراعة تكمن في ما تعكسه من واقعية والتصاق بالوضع العام وملامسة الموضوعية في استشراف آفاق القطاع وإعادة النظر في الجدول الزمني المقترح سابقا لتحقيق بعض الأهداف والبرامج في اتجاه فك الارتباط بالخارج.
واقعية أكبر
هذا الاستنتاج شكل قاسما مشتركا بين عدد من المشاركين في ورشة العمل الخاصة باستعراض نتائج دراسة" الفاو" دون الوقوع في متاهات التشكيك في مصداقية الدراسات السابقة كما ذهب إلى ذلك لطفي غديرة مدير عام وكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية في تصريح ل "الصباح" على هامش الورشة أفاد فيه أن الدراسة الحالية تقطع مع اللغة المتكلسة السائدة سابقا في التركيز على إبراز المكاسب والانجازات لتأخذ النسخة الجديدة للدراسة منحى علميا دقيقا في تشخيص الواقع والتوقف عند الصعوبات والمكبلات التي تحول دون النهوض بالمنظومة الفلاحية في مختلف حلقاتها وتقديم المقترحات الكفيلة بالمعالجة والتأقلم مع الضغوطات القائمة منها المتعلق بالمناخ وبقلة الموارد الطبيعية ومحدودية المساحات الزراعية وتشتتها. إلى جانب إيجاد الآليات المحفزة للشباب وسكان الأرياف على العمل الفلاحي وعلى دعم مردودية مستغلاتهم. واعتبر غديرة الحزمة الفنية والتنظيم المهني الفلاحي وتشتت المستغلات والاستثمار أبرز الملفات المطروحة مشيرا إلى أن العمل سينصب مستقبلا على معالجتها لضمان نجاعة الأنشطة الفلاحية واستدامتها وفقا للتمشي المقترح بالدراسات المنجزة. في ذات التوجه لاحظ مدير عام التخطيط والدراسات الفلاحية عبد الرحمان الشافعي" أن الدراسة الراهنة تبدو أكثر واقعية وذلك دون تشكيك في الدراسات السابقة."مشيرا إلى أن المقصود بالواقعية هو التناغم البارز مع البرامج والخطوط الكبرى للدراسة والواقع الفلاحي فيما توخت سابقاتها نوعا من التضخيم والمبالغة في رسم الأهداف والإقرار بإمكانية بلوغها في حيز زمني قصير نفت الدراسة الجديدة قابليتها للتنفيذ في الآجال المحددة. للتذكير فإن التحليل النقدي للإستراتيجيتين المنجزتين سابقا والخاصتين بالحبوب والأعلاف الحيوانية اتسمتا بالطموح المفرط ومجانبة الواقعية في حصر أجل لا يتجاوز 2014لبلوغ أهداف الاكتفاء من هذه المواد والحال أن التشخيص الواقعي للوضع يتطلب فترة زمنية أطول تصل إلى حدود سنة 2020.
نتائج ومؤشرات
أظهرت الدراسة الخاصة بالأمن الغذائي في تونس هشاشة الوضع بالنسبة للحبوب والأعلاف في ظل تواصل التبعية للخارج في تأمين قسط هام من الحاجيات الاستهلاكية. من ذلك أن نسبة التبعية في القمح اللين تبلغ حدود 32بالمائة وبالنسبة للقمح الصلب 81بالمائة. ويتفاقم الوضع بالنسبة للأعلاف الحيوانية باللجوء إلى الاستيراد الكامل لأعلاف الدواجن وتتفاوت النسبة بين 18و38بالمائة بالنسبة لأعلاف الماشية حسب السنوات. في المقابل حققت تونس أمنها الذاتي من المواد ذات المنشأ الحيواني من قبيل اللحوم البيضاء والبيض والحليب الطازج وبدرجة أقل من اللحوم الحمراء حيث تواصل توريد 2بالمائة من الحاجيات. وقدمت الدراسة ثلاثة مقترحات برامج متفاوتة المدى في التطبيق تشمل مختلف ولايات الجمهورية، تنطلق الأولى منها سنة 2012وتستغرق سنة واحدة من خلال دعم ميزانية معهد الزراعات الكبرى وديوان تربية الماشية ليتسنى توسيع نطاق التجارب النموذجية الناجحة في مجال الإحاطة الفنية بالمزارعين والمرافقة العملية ورفيعة المستوى للفلاحين لدعم المردودية. أما على المدى المتوسط والبعيد فقد اقترح فريق البحث مجموعة من البرامج للرفع من المساحات المخصصة للحبوب بمختلف المناطق ودعم إنتاجيتها في النمطين المروي والمطري وتنطلق الاستراتيجية بداية من سنة 2013إلى غاية 2030بهدف الترفيع في الإنتاج والتقليص من فجوة التبعية للتوريد على اعتبار الارتفاع المتوقع على الطلب خلال العقدين القادمين.