- إن المرحلة الانتقالية الدقيقة التي تمر بها تونس، لمن أخطرمراحل تاريخنا المعاصر... فهي تتسم بكونها مخاض ميلاد نظام جديد، بشّر به الحراك الشعبي الثوري من أجل الحرية والكرامة، وقد عشنا جزءا من آلام هذا المخاض، حين خرج أفراد هذا الشعب العظيم بحناجر عالية وصدورعارية لمواجهة آلة القمع الرهيبة... ونحن الآن في مشهد سياسي تشابكت فيه المصالح، وتعانقت فيه المواقف، وتهافتت فيه الأحزاب وهي تركض وراء المواقع، وفعلت فيه المخابرات الأجنبية فعلها الضارب... والكل يدّعي ممارسة الديمقراطية، والكل يخطط في الخفاء أوفي العلن لإقصاء خصومه ومحاولة الهيمنة على مراكز القرارالمستقبلية، وخاصة في ما نشهده من تجاذبات داخل المجلس الوطني التأسيسي، ومحاولات بعضهم التأثيرفي صياغة الدستورعلى مقاس ايدولوجيا معيّنة... فاليساريون الماركسيون وروافدهم الذين لم يكن لهم منذ عهد قريب شأن بالديمقراطية ولا بالتعدّدية الحزبية، حيث إيمانهم بدكتاتورية البروليتاريا، جعلهم ينخرطون تاريخيا بشكل مفضوح في سياسة إقصاء الآخر، ولكنهم اليوم وبعد خلع الطاغوت، اصطدموا بحساسية عامة الناس تجاه الفكر الشيوعي الذي يعيد إلى الأذهان التجارب الدكتاتورية وحكم الحديد والنار، في كل من دول الاتحاد السوفياتي سابقا وخاصة في ظل حكم ستالين، وألبانيا مع أنورخوجة، وفي الصين الشعبية والثورة الثقافية التي صاحبتها جرائم عصابة الأربع... ها هم اليوم يخفضون من حدة الشعارات الشيوعية، ويتخلون عن دكتاتورية البروليتاريا، ويقدّمون أنفسهم على أنهم ديمقراطيون، ويتحدّثون باسم الشعب وهمومه، ويعملون جاهدين تقاطعا مع مصالح المخابرات الأجنبية، لإقصاء المد الوطني الإسلامي... ولأن أحزاب اليسارفي تونس في أغلبها قد نشأت في أحضان الاشتراكيين الفرنسيين، نجد قادتها يعدّون أنفسهم بكل ما أوتوا من تحالفات ودعم خارجي لرسم خارطة طريق لمشهد سياسي مستقبلي تكون ألوانه يسارية ولا مكان فيه لما يسمونه بالرجعية، ويقصدون بذلك أساسا الحركات ذات المرجعية الإسلامية... وفي الوقت الذي يتّهمون فيه الإسلاميين بالعمل على إرساء دولة تيوقراطية فيها الحكم باسم الدين على غرارما كانت عليه الكنيسة في القرون الوسطى، نرى أنصارالحركات الإسلامية عموما والتيارالسلفي خصوصا يتهمون حركة النهضة بالمرونة الى درجة التميّع، وبالتنازل عن المبادئ والتضحية بالثوابت... فالمعادلة صعبة بين الإسلاميين واليسار... فهذه الحركة الإسلامية قد شهد لها الواقع السياسي في تونس، بأنها الأقدرعلى التفاعل مع متطلبات اللعبة الديمقراطية من اليساروالليبراليين أنفسهم، حيث لم يثنهم انتصارهم وحيازتهم للمرتبة الأولى في أول انتخابات بعد سقوط رأس النظام الفاسد، من التحالف سياسيا مع العلمانيين والحداثيين، فأتى هذا التحالف برئيس دولة علماني ورئيس حكومة إسلامي ورئيس مجلس تأسيسي حداثي، ولم يرقادتها بأسا في توجيه أنصارهم للتعاطف مع حزب العمال الشيوعي والتصويت له في بداية الحملة الانتخابية، وذلك تفعيلا لتفاهمات ما سمّي بلقاء أو توافق 18 أكتوبر، وفي سبيل بحثهم عن التوافق الذي يضمن لهم الاستمرارفي الحكم، ضحّوا بكثيرمن الثوابت وتنازلوا عن كثيرمن المكتسبات، وسعوا إلى إرضاء خصومهم التقليديين في الإيديولوجيا والعقيدة، على حساب طموحات وآمال وانتظارات أتباعهم وأنصارهم وأنصارالحركة الإسلامية عموما، في رؤية المشروع الإسلامي ذي البعد التوحيدي والوحدوي والحضاري والتحرّري والثقافي، وفي عمقه الاجتماعي بالعدل والتكافل والمساواة، يتحقق بوصول شخوص من أبناء المنظومة الإسلامية إلى السلطة، فدبّ نتيجة ذلك شيء من الإحباط في نفوس البعض، ومع الإخفاقات السياسية المتتالية في كيفية تسييرالدولة برؤوس ثلاثة، بدأت تتسلل إلى الرأي العام القناعة بفشل تجربة الإسلام السياسي في الحكم، وهذا ما خططت له الأطراف المخابراتية، حين ذهبت القوى الغربية المستثمرة للثورات العربية والتي لا يقود سياساتها الدولية غيرالمصلحة، مذهبيْن في التعامل مع الحركة الإسلامية، ففرنسا ومن لفّ في ركابها من الأحزاب الموالية لها، يراهنون على فشل برنامج النهضة، وإقامة الحجة على عدم صلاحيتها لقيادة البلاد، فيتمّ تشويه صورتها حين يلمس أفراد الشعب عدم قدرة هذه الحركة الممثلة لحركات الإسلام السياسي، على حل مشاكل البطالة، والحدّ من غلاء المعيشة، وعدم النجاح في إحداث نقلة نوعية في مجالات التنمية الجهوية وفي الصحة وفي التعليم... حتّى وإن كان ظاهرا أن النهضة لا تحكم بمفردها وإنما في إطارائتلاف وطني، فإن الفشل سيُنسب إليها وحدها دون غيرها... فالخلفية التي تقود إرادة إفشال النهضة عند هؤلاء، تنطلق من معاداتهم للمرجعية الإسلامية التي ينتسب إليها قيادات هذه الحركة، حتى وإن أبدت هذه القيادات مرونة كبيرة في التعامل مع مصالح الغرب في شقه الفرنسي والأوربي، ورغم كل التطمينات وكل الضمانات التي قدّمتها الحركة بصفتها المدنية، وليس بصفتها الإسلامية، في المسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية "الإبداع" وعدم المساس بمصالح أوروبا وحلفائها، فإن الاعتقاد السائد يرى أن مصيرالحركة الإيديولوجي والفكري والعقائدي ليس بيد قياداتها، وإنما بيد قواعدها التي لا ولاء لها إلا للمشروع الإسلامي وللدولة الإسلامية المنشودة، ومن هنا يبرّرون خوفهم من التحول المستقبلي في سياسة الحركة، وعدم قدرة القيادات الحالية على الاستمرارفي تجاهل مطالب وطموحات أنصارهم، وعدم الاستماع إلى الأصوات المنادية بالشريعة الإسلامية وبالحل الإسلامي، بل وبالدولة الإسلامية... تلك الطموحات التي تصب جميعها في إرادة الاستقلال السيادي والثقافي والحضاري عن الغرب، والرفض الكلي للكيان الصهيوني من أجل تحريركل فلسطين، وهذه الحال تدفع نحوإغراء أعداء الحركة للعب على الانقسامات، وتغليب الإحساس بالفشل والإحباط في صفوف الأتباع والأنصار، ومن ثمة تهالك الحركة من الداخل، مما يسهّل إقصاءها بالطرق الديمقراطية نفسها التي أوصلتها للعب الأدوارالأولى في الحكم وفي إعداد الدستور. ففرنسا وأتباعها يراهنون حاليا على إفشال حركة النهضة، والمضيّ نحواستثمارالثورة في العلن لصالح "الحداثة والديمقراطية"، وفي ما وراء المعلن، لصالح المشروع الغربي والصهيوني في المنطقة... أمّا المذهب الثاني في محاصرة المشروع الإسلامي، فهويعتمد تمييع الحركة في متاهات "الحداثة" و"حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" وإفراغ الشعارات المنادية بالحل الإسلامي من مضامينها الحركية والنضالية، ومن ثمة استثماروجود الإسلاميين في السلطة لصالح لعبة الأهداف المعلنة والأهداف الخفية، والذي يتزعّم هذا المذهب، هي الولاياتالمتحدةالأمريكية، فهي التي بقوّتها العسكرية المهابة، وبسيطرتها الاقتصادية والسياسية على أغلب المؤسسات والمجالات الحيوية الدولية، استطاعت أن تروّض الحركات الإسلامية ولوإلى حين لخدمة أغراضها الآنية، فليس من همّ الأمريكان في العالم الذي يوجد خارج عالمهم، أن تكون حقوق الإنسان محفوظة، أو أن تسود مبادئ الديمقراطية سياسات تلك الدول، بل همّهم الوحيد أن تصان مصالحهم الاستراتيجية، ومن مصالحهم، الحفاظ على تميّز وتفوّق الكيان الصهيوني، كما أنه لا يُرعبهم أن تطبّق الشريعة الإسلامية في بلد يفتح أراضيه للقواعد الأمريكية ولنشاط المخابرات الصهيونية «الموساد»... فلقد وصف الأمريكان «برويزمشرّف» بالانقلابي والدكتاتور، وطالبوه بالرجوع إلى الدستورالذي ألغى العمل به يوم أن تزعّم انقلابا عسكريا في باكستان، وبعد أحداث 11 سبتمبر، وبعد أن أعلن برويزتحالفه مع الأمريكان لمحاربة الإرهاب وأعداء أمريكا، وفتح أراضي باكستان للمارينزوللمخابرات الصهيونية، أصبح في عيون أبناء "العم سام" ليس كمثله أحد في العمل بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وطالبوه بعدم التنحّي عن السلطة، وآزروه إلى آخر يوم في حكمه... وكذا فعل الأمريكان حين ميّعوا الحركة الإسلامية المجاهدة في أفغانستان، وعملهم كان هو نفسه مع الأحزاب الإسلامية في العراق... فمعركة أمريكا في بلاد الإسلام معركة مصالح استراتيجية وهيمنة اقتصادية وعسكرية، ومعركة فرنسا وأوربا معركة حضارة وهيمنة ثقافية بالأساس فضلا عن المصالح الاقتصادية، وللكل هدف واحد ونتيجة واحدة، وهو إبعاد الإسلام عن الفعل الحضاري الذي يتدرج بالأمة لتتبوأ من جديد ريادة العالم وقيادة الحضارة الإنسانية... وحركة النهضة بين هذا وذاك، صاررجالها في امتحان صعب بين التمييع والإفشال... وأمّا أفراد اليسار، فإنهم يعملون نخبويا حتّى وإن بدا لهم أنّهم شعبيون، فالسّواد الأعظم من الشعب والطبقة الشغيلة لا يفقهون كثيرا من شعارات الاشتراكية والشيوعية والعلمانية وما إلى ذلك... كما أنهم لا يرون علاقة مباشرة بين تلك الشعارات وبين معيشتهم ومشاغلهم اليومية وهمومهم بعد الثورة، وأوّل همومهم: لقمة العيش والحرية والكرامة وإثبات الذات والسيادة، ولا شأن لعموم الشعب بأطروحات النخبة من اليسار الشيوعي والعلماني، فالشعبوية التي يمارسها اليسارليست هي الشعبية التي ستوصل خطابه إلى أفهام الناس، وهم الآخرون لا يملكون برنامجا واضحا يميّزهم في فسيفساء الأحزاب على كثرتها وعلى تشابه شعاراتها، والجهد عندهم يتمحورأساسا حول كيفية إقصاء خصومهم الإسلاميين، ويعتمدون في ذلك على دعم قوى غير شعبية لها من المصالح ما لا يتقاطع مع مصلحة الشعب في التنعّم بالأمن والسلامة في الأنفس والأهل والممتلكات... وهنا يتدخل الفعل المخابراتي الأجنبي بين الإسلاميين واليسارلاستثمارالاحتقان والأحقاد، في اتجاه الوصول إلى واقع الفوضى التي سيخلقون منها مشهدا سياسيا يتناغم ومصالح القوى المهيمنة في العالم، فيتم بذلك إحكام انخراط البلاد في نظام العولمة والسوق الذي يديره الأمريكان والمصارف اليهودية، وإدخال الدولة تحت المنظومة الأمنية الأطلسية التي من استراتيجيتها الحفاظ على أمن "إسرائيل" وتفوقها العسكري، والقضاء على أي مقاومة ضد إرادة التحالف الغربي الصهيوني... فالمخابرات الأجنبية تتقن لعبتها بامتياز، في جعل الاحتقان السياسي مستمرا بين الإسلاميين واليسار، لا يهدأ في لحظة وفاق إلا ليشتعل من جديد، وفي إضعاف كليهما، حيث كلما تراءى لأحدهما الغلبة على خصمه إلا وهُزم في الحين، لتوزع الأدوارمن جديد... وهذا ما يجعل البعض يجزم حينا بأن الغرب بقيادة أمريكا يساند الحركات الإسلامية ضد اليسار، ويرى حينا آخرأن الغرب بقيادة فرنسا يساند الحركات اليسارية ضد الإسلاميين، فما مدى وعي الإسلاميين واليساريّين على حد سواء، بخطورة خطط وألاعيب المخابرات الأجنبية على مصلحة الوطن والسيادة والشعب، فيعملون مجتمعين على ما يتفقون عليه، ويعذربعضهم البعض في ما يختلفون فيه من فلسفة وفكروسياسة؟ ناشط سياسي مستقل