"رجل الاعاصير" رواية جديدة أصدرها مؤخرا الأديب الناصر التومي عن دار سحر للنشر في حجم متوسط صفحاتها لاهثة هاربة من قمع الاختزال والتكثيف الذي يعتمده الناصر التومي في الكتابة. فستة وستون ومائة صفحة هي الرواية دون حشو ولا تفسير لبديهيات ولا اخذ بيد قارئ متوسط الفهم ولا صبر على شخصية تسعى متعمدة أو عن غير قصد لتعطيل سير الاحداث فكل ما في الرواية محسوب وب دقة وإذا أوقفته للمساءلة أووضعته موضع السؤال وجدته موظفا بدهاء ويحمل شحنة من المعلومات الدقيقة التي لا يراد بها الا ما وضعت من أجله. فالناصر التومي ولشدة ما يدقق في اختيار مفرداته - ولعلها تنساب وحدها دون عناء او مجهود يبذله - يذكر بالبهلواني الماهر الذي لا يخاف ركوب الخطر... يحسبها بدقة يتقدم خطوة بعد خطوة ولا ينظر الى الوراء فعثرات الماضي وأخطار التهاوي من الحبل المعلق في الفضاء الرحب لا تاخذ أي حيز في تفكيره المنصب كله على ما تبقى من مسافة وما قد ينجر عنها اذا افلتت من بين قبضته الحديدية شخصية عن السيطرة أو توالد الحدث وتشعب دون قرار منه. ولانه كاتب دقيق شديد مع نفسه أمين على مقولة "Le POUQUOI DES CHOSES" فانه يمكن اعتبارغلاف الكتاب وحده اول فصل من فصول الرواية التي ترك للقارئ مهمة تحديدها بعد ان ورطه فيها . فمع اول نظرة تقع على كتاب "رجل الأعاصير" يقفز للذاكرة لون بدلة سجناء غوانتنامو الذين يقبعون بين القضبان دون توجيه تهمة واضحة لهم ولا محاكمة ولا تاريخ ولا مستقبل... ... أشباح تكاد من هزالها لا تقارن بسمك قضبان السجن... يقف أحدها في ظلام دامس ولكن هذا الظلام لا يمنع من الاطلاع على احشاء الشبح وعلى ورم انفجر في رأسه فبدت الصورة وكأنها التقطت بالرنين المغناطيسي فحددت بدقة الشريان النازف في الرأس ومسالك سيلان الدم من اعلى الى اسفل دون ان يتمكن من التدفق خارج الجسم ولعله يقصد بحبسه وعدم السماح لأي قطرة بان تعلن عن وجودها والسيلان خارج حدود الجسم أن الثورة كانت داخلية وان الانفجاركان ذاتيا وان البطل لا يطلب الاسعاف وانه لا يحتاج الى الحركة الفاعلة والمناصرة اللامشروطة التي عادة ما يحيل عليها مشهد سيلان الدم من الجسم. وفي صورة الغلاف أيضا حركة يأتيها ذاك الشبح النازف توحي بتقدمه للخروج من بين تلك القضبان للانعتاق وفي نفس الوقت بتقهقره الى الوراء الذي خبره وتعايش معه وهو في ظلماته وفي داخله على الاقل يعرف ما ينتظره ويعرف عدوه وهو وان حدث له مكروه فانه غريب والظالم ايضا... والهم من الغرب يأتي والشيء من مأتاه لا يستغرب... وهو وضع قد يفضل البعض ان يلقاه في الغربة على ان يعيشه في بلده بين اهله وذويه الذين قد لا يكتفون بالمتابعة السلبية وانما يضيفون لها تعليقا لا يعرف مرارته الا من جربه من قبيل «من كلفه بالدفاع عن الوطن ومن فيه؟». وامعان النظر في الغلاف يعكس صورة لشبح يتهادى بتؤدة الى الوراء داعيا القارئ الى اللحاق به... واللحاق به ورطة... ومغامرة قد تسفرعن لقاء مع رجل الاعاصيرأومواجهة خاصة ان العنوان يوحي بان الازمة ازمات وان الاعصار جمع وان الرياح العاتية اشتدت سرعتها وامتدت أفقيا وعموديا فافقدت الرجل الاحساس بالاتجاه وان الامواج علت وارتفعت فلمست حدود السماء ثم تهاوت فقذفت السابح ليرتطم رأسه بالصخور وان حبات المطر التي تتقاذفها الرياح اصبح لها وقع الحجارة الهاربة من منجنيق وما ان تلفح الوجه حتى تصبح كضربة سوط لقابع في مربع اضلعه متساوية في ما يبثه اسمنتها من برد يثلج الاطراف فتضرب عن الحركة. انطلقت الرواية بخبر وفاة البطل... خبر نزل كالصاعقة على صديقه منصورفراح يرثيه بلوعة الثكالى... وأسى الارامل...وذهول اليتامى الذين يقفون على هول المصيبة ولكنهم لا يدرون أي موقف يتخذون فلا ذنب لهم في ما حصل ولا قدرة لهم على التغيير... يسكنهم الخوف على كل من حولهم لاحساسهم بانهم دخلوا في مواجهة ولا يعرفون على من سيكون الدورفي المرة القادمة... الارث الثقافي منبع الخلاف تتمحور الرواية حول وضعية المثقف العربي الذي عاش حالة الازمة السياسية الوجودية منذ سافر للدراسة في فرنسا وعمل في الحقل الثقافي (الاخراج التلفزي والسينمائي) الذي اتاح له الاطلاع الموسوعي على كل تيارات الفكر الفلسفي والسياسي الحديث وتجرع غربة مكانية ونفسية بعد عودته لبلده سببت له شرخا داخليا نتج عن انفتاحه على الغرب ولغته وحضارته مع محاولته الاحتفاظ بوحدة شخصيته المستقلة فوجد نفسه بين مطرقة السلطة وسندان الغرب الذي اصبح يعتبره عدوا رغم رفعة فنه ومكانته في مجال اختصاصه وعلاقته الوطيدة به (زوجة البطل فرنسية وله منها ابن) وذلك لاختلافه مع الغرب في المواقف من جملة من القضايا الأساسية واهمها القضية الفلسطينية والارث الثقافي الذي يتهم سلطة بلاده بالتفريط فيه وبالتواطؤعليه مع الغرب... فاين المفر وقد تعمق خلافه مع الفضاء الاعلامي والثقافي الغربي الذي كان ومازال يعتبر الملجأ الآمن للهاربين من ضيم السلطات الجائرة في بلدان العالم المتخلف. فعلوان جابرالمنسي هوالمثقف المتشبع بالتراث العربي الاسلامي بكل حقوله الثقافية والخابرالمستوعب للحضارة الغربية ومقوماتها ومبادئها وهوالذي عاش المراحل الاخيرة من النضال لاخراج المستعمرالفرنسي من تونس إذ انه ابن مناضل شارك في الكفاح المسلح وساهم مساهمة فاعلة في تحريرالبلاد ولكنه انسحب من الحياة العامة بعد الاستقلال أي يوم بدأت الفتنة وتقرراخماد كل الاصوات الا صوت الزعيم والمقصود هنا هو الرئيس السابق الحبيب بورقيبة الذي- والكلام للكاتب - كان يفرض شرعيته من ماضي النضال لا من سياسة حكيمة (ص 37) وكان يحاسب معارضيه وخاصة المثقفين منهم الحساب العسير وكلما برزت حركة يسارية أو يمينية الا ولاحق رموزها في الداخل والخارج. إذن جيء بهذا المثقف من فرنسا للاستفادة من كفاءته وتجربته في مرحلة وضع أسس المؤسسات التونسية (الاذاعة والتلفزة) فحاول ان يستند في عمله الى مبادئ وقناعات آمن بها ولكنها لم تكن تتماشى والسائد آنذاك... ولانه رفض ان يحيد قيد انملة عن ما آمن به وما تعود عليه من حرية في تعاطيه لفنه فقد وجد جدار صد عنيف كاد في عديد المرات ان ينهار على رأسه. نقد السائد: مواقف عدائية ورفض للآخر جدار الصد هذا يتجلى في حادثة النصب التذكاري التي وضعته في مواجهة مباشرة مع الزعيم بعد ان ابدع في إخراج الخطب (جمع خطاب) في احسن صورة يريدها القائد الاوحد وبعد ان اصبح احد عناصر تبليغ رؤية فردية تنبع من الحاكم بامره - تم تكليفه - باعداد شريط وثائقي عن الجلاء فاعده ولكنه لم يتمكن من كبح جماح نفسه التي تتوق الى نقد السائد فجعل النصب يرتطم بالشهداء والجماهير والعساكر والقبور وبالمساجد وبجغرافية الولايات واحدة فواحدة من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب ثم يجثم عليها يضعها تحت هيكله وينتصب أمام الزعيم الذي فهم القصد وعرف انه بتلك النهاية أخذ يثأرلوالده المناضل الذي لم ينسحب من الحياة العامة الا لغضب في نفسه ورفض للزعيم واسلوب تعامله مع رفاقه في الكفاح ومعارضيه ومناصريهم من بعيد أو من قريب . ثم بدأت المتاعب ودخل علوان المنسي في مرحلة رفض الآخر ونقده والتحسب منه... فالحركة اليسارية كانت في رأيه عبثا والشعب مازال آنذاك أميا ولا يعرف عن اليسار ورموزه الا كونهم شيوعيون ملحدون... وحركة الاسلاميين لا يمكن التعامل مع رموزها لانها حركة تعادي التحرر الفكري والمرأة... والادارة التونسية كانت تعاني من أمراض كانت... والمخرجون العالميون -الغربيون- الذين بحث لديهم عن أوكسجين لفنه أي الحرية كانوا يشوهون التاريخ ويحطون من شأن الحضارات وينفون عن الشعب التونسي بطولاته ويتفهون رموزه.... هذه المواقف العدائية من الادارة واليسار والاسلاميين والسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية ومن الغرب ومن الصهيونية خلفت له اعداء كثر لكل منهم مصلحة في تصفيته مما صعب توجيه التهمة ضدهم عندما تعرض لمحاولة قتل وشج رأسه وجعله غريبا في وطنه عن كل الناس الذين اتخذوا بدورهم منه موقفا تجلى في ذلك النزرالقليل الذي سار في جنازته. توظيف تقنيتي التكثيف والاختزال على اللغة اما من ناحية الشكل فقد تسلسلت الاحداث الاساسية منها والثانوية ونتج بعضها عن بعض بحبكة بحيث كانت خاضعة للمنطق لا خيال فيها ولا عجائبية لكل منها وظيفة يرتكز عليها المبنى أو المعنى اما الاحداث الثانوية فقد خففت على القارئ حدة اللفظة وصرامة المواقف ومخلفات الاعاصير كالحب العذري الذي ربط بين البطل والفرنسية التي تزوجها وتعلق سامية النجار به تعلقا جعله يختار لها اعز اصدقائه عريسا والعلاقة العذرية التي ربطته بنعيمة المنحرفة " الشريفة" البريئة من انحرافها لانها لم تكن مسؤولة عنه ولم تختره اسلوب حياة. كما احكم الناصر التومي قيوده على عالم شخصياته فلم تفلت من قبضته أي منها فاسماء الاعلام تنسجم كلها مع مدلول الشخصية داخل النص والشخصيات ديناميكية نمت فكرة القارئ عنها مع تنامي السرد وقد وصفها الكاتب كما وصف الامكنة وما تحتويه من اثاث وما تحتاجه هذه الشخصيات من وسائل تسهل العيش دون اطالة ولا حشو اذ اكتفى بما يلزم لتحريك الشخصيات وتنقلها من مكان الى آخر اي ان الوصف كان موظفا في خدمة شخصيات الرواية لا غير. اما الامكنة التى شهدت احداث الرواية فلم تكن مفصولة عن سياقها الزمني والطبيعي والنفسي والاجتماعي والتاريخي. وقد توفق الكاتب الناصر التومي في التقطيع والتركيب والانتقال من التصويرالبعيد الى التصوير القريب ومن تشخيص الملامح الكلية الى ابراز الملامح القريبة كما تحكم في ايقاع الزمن سرعة وبطئا وايجازا واسهابا، تسلسلا وتقاطعا... فتعرض للاحداث الثانوية بسرعة وايجاز وعدد مراحل بحثه عن نعيمة التي ربما اختفت ببطء واسهاب يتوافق تماما مع ما تشعر به الشخصية من حيرة ومن عذاب الانتظار وطوله وبطء دوران عقارب الساعة . وبالنسبة للغة التي حدّث بها الناصرالتومي عن بطله وان لم تسلم من قانون التكثيف والاختزال الذي وضعه لنفسه فقد كانت ثرية وغير جافة بل كانت كلها حياة حتى بدت الفقرة وكأنها لقطة سينمائية والجملة وكانها صورة فوتوغرافية تخلد مشهدا من صميم الواقع قال الكاتب في الصفحة 50 و51 «تململ في مكانه، زم شفتيه,بدا مضطربا,وكانما اصغى الى ما ساءه وطال صمته،..... تنحنح وسوى من جلسته.. وقال بصعوبة... أجاب محاولا تنقية نبرات صوته من الحشرجة...». توريط القارئ خلق التوتر اما بالنسبة إلى الاسلوب الذي اختاره الاديب الناصر التومي لسرد روايته فقد خلق به ومنذ اول كلمة في الرواية علاقة توتر بينه وبين القارئ الذي وجد نفسه وهو يلج الرواية مورطا في احداثها مسؤولا عن الهزائم والنكسات لاهثا وراء اثبات الذات طورا وجلدها تارة رافضا للواقع باحثا عن الخلاص مقرا لموقف الكاتب من بعض الاحداث ومستشيطا غضبا من مواقف أخرى . ففي الوقت الذي تندد فيه الرواية بالحكم الفردي ونفي الاخر والتطاول على الديموقراطية نجد الكاتب وباسلوبه هذا ينأى بنفسه وبقارئه عن الديموقراطية ويمنع تعددية الاصوات فقد كان الراوي العليم الذي نسب للقارئ باستعماله لضميرالمخاطب ما لم يقله وما لم يفعله فخاطب القارئ بلهجة من يعرف كل شيء عن شخصيات الرواية والقارئ واحد منهم تحدث عن الظاهر والباطن وحدد المصائر وحد من حرية التعبير ومنع امكانية الدفاع عن النفس حتى توحد النص شكلا ومضمونا... ولسائل ان يسأل هنا ما الذي منع الكاتب من ان يختار أي من شخوصه ليتولى زمام حكي النص ؟... ولماذا الاستعانة بسارد منفصل لا يكتفي بسرد الرواية وانما يتجاوز ذلك ليصف أفكار القارئ وشعوره وعواطفه بضمير المخاطب العارف بخبايا النفس... وهل يعتبر الناصر التومي قارئه قاصرا حتى على التفكير والاحساس بفعل ما تبلد عقله وحواسه نظرا لما قاساه من اقصاء وتهميش .