*هيئة الحقيقة والكرامة "مسيسة" و"شيطنت" الأمنيين في جلسات الاستماع *المركز الوطني للاستخبارات سيكرس سياسة التضخم الإداري والهيكل المركزي للاستعلام مكانه وزارة الداخلية * ضرورة استثمار خبرة متقاعدي المؤسسة الأمنية سجلت في بحر الأسبوع الفارط بعض الأحداث الأمنية التي شغلت الرأي العام تتصدرها حادثة اغتيال المهندس محمد الزواري بصفاقس التي تزامنت معها "استقالة" أو "إقالة" المدير العام للأمن الوطني عبد الرحمان الحاج علي إضافة إلى ملفات أخرى منها تواصل جلسات الاستماع لضحايا الانتهاكات لدى هيئة الحقيقة والكرامة. "الصباح" التقت عبد المجيد البلومي رئيس جمعية "أمل واستشراف لمتقاعدي الأمن التونسي" للحديث حول مختلف هذه المستجدات فكان الحوار التالي: * ما هي قراءتكم لحادثة اغتيال المهندس محمد الزواري؟ -"هي عملية اغتيال لشخص مستهدف تم التخطيط لها ودراستها في الزمان والمكان بما مكن من تنفيذها بحرفية وأريحية رغم الإبقاء على أدوات الجريمة بمحيط الواقعة إلا أن العبرة ليست بالعثور على المحجوزات بقدر ما تكمن في استغلالها واستغلال مسرح الجريمة للتوصل لقرائن وأدلة مادية أو معطيات قد تحيل الباحث إلى التعرف على الهويات الحقيقية والكاملة للجناة وإيقافهم لتقديمهم للقضاء التونسي أو الدولي وأنا واثق في مهنية وحرفية إطارات وأعوان الإدارة الفرعية للقضايا الإجرامية ومتأكد أنهم سيبذلون قصار جهدهم للتعاطي مع كل الجزئيات والفرضيات التي يمكن أن تؤدي إلى ركن الإسناد في مثل هذه القضية الخطيرة". ألا تقرون بوجود تقصير أمني من حيث التوقي في مثل هذه الأحداث؟ -"لا يمكن لأي جهاز أمني في العالم أن يدعي الكمال المطلق في الأداء والرأي العام ينظر للمسألة من زاوية ضيقة وعلى قاعدة "المتفرج فارس" والمتابعون والمطلعون على تاريخ الاغتيالات يدركون أنها حصلت وسوف تحصل في أي مكان وفي أي وقت مهما توفرت مقومات نجاح العمل الاستخباراتي الأمني إلا أنه يبقى من حق المواطن التونسي التعبير عن رأيه حول أداء أجهزة الدولة إلى جانب ما هو محمول على نواب الشعب من سلطة رقابية على هذه الأجهزة واعتقد انه بعد تقدم الأبحاث العدلية والإدارية سيتم تحديد المسؤوليات واتخاذ الإجراءات والقرارات المناسبة" . ولكن هناك بعض النقابيين الأمنيين يعلنون للرأي العام وجود فساد أو تقصير وتهاون لدى بعض المسؤولين؟ -"ليس كل ما يقال صحيحا أو العكس، وشخصيا لا أتفق مع من يتعمدون تشويه رؤسائهم أمام الرأي العام أولا لأن النصوص القانونية النافذة حاليا تمنع ذلك لكن هذا لا يعني الصمت إزاء مظاهر الفساد والتجاوزات بل أن هناك عدة أوجه متاحة للتبليغ وصولا إلى أعلى هرم السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية. أما إذا شككنا في مختلف درجات هرم هذه السلط فهذا غير مقبول في نظري فأنا أدعو الأمنيين إلى التبليغ أو التظلم وترك الوقت الكافي للأجهزة المعنية كي تقوم بدورها وفي النهاية يمكن الاحتكام للقضاء فبلادنا لا تحتمل مزيدا من التوترات" . هل لديكم ما يؤكد تورط جهة معينة في الحادثة؟ "من الأخطاء الفادحة في أعمال التحقيق انطلاق الباحث من معطيات مسبقة قد تؤول به إلى نتائج مغلوطة فالضابطة العدلية تقوم بتجميع الأدلة والبحث فيها وتحليلها لكشف الحقيقة ورغم العثور على محجوزات والتقاط صور للجناة فان ذلك غير كاف لوحده كقرينة لإسناد التهم لأشخاص بعينهم وبالتالي فان التسرع في توجيه الاتهام قد يفسد مسار التحقيقات حتى وان تبنت إحدى الجهات مسؤوليتها عن العملية حيث تبقى إمكانية المراوغة والخداع واردة ومثل هذا يحدث حتى في جرائم الحق العام للتغطية على الفاعل الحقيقي فالاعترافات المجردة يمكن التراجع فيها إن لم تكن مدعمة بقرائن ومؤيدات قوية وموثقة، إذن فلتأخذ التحقيقات ما يكفي من الوقت لأن التسرع قد يفضي إلى نتائج سلبية". ألا ترون أن حادثة الاغتيال مرتبطة باستقالة المدير العام للأمن الوطني؟ -"رغم أن الحدثين متزامنين في الزمان فإن الرابط بينهما لا يعدو إلا أن يكون من باب الصدفة المثيرة لا غير والصدفة أحيانا تصنع الحدث". لكن هذه الاستقالة غير واضحة المعالم مع النجاحات التي حققها المدير العام للأمن الوطني عبد الرحمان الحاج علي؟ -"هذا صحيح وحقيقة وخلفيات الاستقالة لا يعلمها إلا المعني بالأمر ولكن توجد مؤشرات يمكن أن تعطي صورة تقريبية للرأي العام فالرجل معروف في الأوساط الأمنية التي عملت معه سابقا بالنزاهة والجدية والحرفية وتفرغه للعمل ومعروف كذلك بالتزامه بالقانون وفرض الانضباط مما ولد حالة من عدم الانسجام وصلت أحيانا إلى حد التوتر مع البعض من مسيري النقابات التي حادت عن أهدافها الأصلية وبالإضافة إلى ذلك فان عبد الرحمان الحاج علي أصر على التكريس الفعلي لمبدأ الحياد التام الذي أصبح مضمنا بالدستور ومثل هذا الإصرار جعله مصدر قلق لبعض الساسة النافذين وبعض "لوبيات" المال المشبوه ممن تعذر عليهم تطويعه لقضاء مآربهم الشخصية لذلك تم التسويق لرحيله بصورة معلنة منذ أشهر وبتواطؤ خفي مع بعض الأطراف الأمنية التي تعتقد أنه طال تهميشها وتطمح إلى التموقع وساهمت في"فبركة" وتمرير معطيات مغرضة ومثل هذه التجاذبات أثرت في سلطة القرار وأدرك المدير العام للأمن الوطني أنه مستهدف فقرر الاستقالة لكن في اعتقادي سيبقى مثل سائر الأمنيين المتقاعدين وفيا لمبادئه ومخلصا للمؤسسة الأمنية وشرفائها ومخلصا للوطن". اثر حادثة الاغتيال والاستقالة اتخذت الحكومة قرارات متصلة بالمجال الأمني فكيف تقيمون هذه القرارات؟ العبرة ليست بالقرارات في حد ذاتها وإنما بما قد تحققه من نتائج ملموسة على أرض الواقع فعلى الرغم من عدم إلمامي الشامل بهيكلة ومشمولات المركز الوطني للاستخبارات الذي سيتم بعثه إلا أني أعتقد أن هذا المركز سوف يكرس سياسة التضخم الإداري في عموم المجالات الأمنية بما في ذلك المجال الاستعلاماتي بأسلاك قوات الأمن الداخلي والديوانة والجيش ويبقى الإشكال فقط في جدية وجودة الأداء بهذه الهياكل وإيجاد آلية لضمان تفعيل سرعة التنسيق وأهلية اتخاذ القرار وفي تقديري فان المكان الطبيعي للهيكل المركزي للاستعلام المزمع إحداثه هو وزارة الداخلية وليس رئاسة الحكومة". بعض الأمنيين أبدوا مواقفهم من عودة الإرهابيين التونسيين من بؤر التوتر فما هو رأيكم في هذا الموضوع ؟ -"الفصل 2 من الدستور أقر بأن مبدأ علوية القانون يعتبر من مقومات الدولة والأجهزة الأمنية مكلفة بتنفيذ القوانين ومنها قانون الإرهاب وبالتالي وجب التعاطي مع هذا الملف في إطاره القانوني بعيدا عن التجاذبات وتوافقات السياسيين الذين خول لهم الدستور ما يسمى بالمبادرات التشريعية لتنقيح أو تعديل نصوص لمعالجة أزمات طارئة وهذه هي الديمقراطية أما أن تملى تعليمات على الأمنيين تتعارض مع مقتضيات القانون وأنا اقترح عليهم عدم تطبيقها حتى لا يكونوا في يوم ما محل مساءلة وهذه هي الإشكاليات التي اعتقد أنها اعترضت المدير العام للأمن الوطني عبد الوهاب الحاج علي في أدائه المحايد" . يبدو أن منظومة العدالة الانتقالية ستطال عددا من الأمنيين المتقاعدين والمباشرين فما هي رؤيتكم لهذه المسألة؟ -"العدالة الانتقالية هي آلية دستورية وليس لنا معها إشكال لكن الإشكال يتمثل في بعض المضامين الواردة بالقانون التطبيقي وفي تركيبة هيئة الحقيقة والكرامة ذلك أن القانون تمت صياغته بالمجلس التأسيسي من قبل أطراف حزبية من ضمنهم عدد من ضحايا الانتهاكات لذلك خرقت نصوصه بعض المبادئ والثوابت والقواعد القانونية منها آجال انقراض الدعوى واتصال القضاء بما لا يمكن أن يستجيب لشروط المحاكمة العادلة فضلا على أن هيئة الحقيقة والكرامة "مسيسة" بامتياز وتركيبتها تتعارض مع شروط الحياد والاستقلالية الواردة في أكثر من فصل من فصول القانون المتعلق بإحداثها وما توفر إلى حد الآن من مؤشرات ومسارات لا يبعث على الاطمئنان حيث أن المنهجية التي تعاطت بها الهيئة إلى حد الآن اقتصرت على "شيطنة" في المطلق للأمنيين أثناء جلسات الاستماع ومع أنه لا يجوز تبرير الانتهاكات في المطلق فانه من الضروري وضعها في إطارين أولهما الإمكانيات والآليات التي كانت متوفرة للباحث وثانيهما الأسباب والمسببات باعتبار أن الدولة مرت بأزمات تهدد كيانها وحين يترابط العامل الأول بالثاني تحصل بالضرورة انتهاكات واعتقد أن التونسيين يتذكرون ما حصل في سجن "أبو غريب" وفي معتقل "غوانتنامو" من طرف الأمريكيين كردة فعل على ما اعتبروه تهديدا لأمنهم القومي ففي النهاية الأمني ليس بالكائن الوحشي الغريب وإنما هو مواطن تونسي يخضع للقانون ولدينا ثقة كاملة في القضاء ومن حقنا كمواطنين التمتع بمحاكمة عادلة عند الاقتضاء طبقا لما يضمنه الدستور". ما هي رسالتكم للحكومة في المجال الأمني؟ -"ضرورة استثمار مخزون الخبرة الاستعلاماتية لدى متقاعدي المؤسسة الأمنية والإحاطة بهم ولم شملهم ورعايتهم مركزيا وجهويا والتسريع بتنقيح القانون الأساسي وصياغته بصورة تتلاءم مع متغيرات المرحلة من حيث حقوق الأمنيين وعلاقتهم بالمواطن وتكريس الحياد التام". حاورته :فاطمة الجلاصي جريدة الصباح بتاريخ 24 ديسمبر 2016