ثورة تونس وبعدها ثورة مصر – تعاقب في الأحداث وفي السيناريوهات وفي الدوافع والأسباب. تشابه في الأوضاع السياسية والإجتماعية وفي السياسة المتبعة من طرف القيادات وحالة الفساد المتفشية التي ولدت الاحتقان ثم الإنفجار... ورغم أننا مازلنا ننتظر نتيجة الثورة العارمة التي تشهدها مصر فإن النتيجة الحتمية هي النهاية المماثلة التي إنتهت إليها ثورة تونس بإزالة النظام السابق وملاحقته في آثاره وأعماله ورموزه وكلّ ما يمت إليه بصلة. لكن بقطع النظر عن النتائج الداخلية للثورتين فإن أهم ما يجب التوقف عنده بالنسبة إلى النتائج العامّة والخارجية منها بالخصوص التي تهمّ علاقة البلدين بالنظام الدولي السياسي والإقتصادي وبقضايا العالم المصيرية وأحداثه الكبرى الآنية والمستقبلية هو: أولا: أن ثورة تونس تبقى المنطلق لما سيأتي بعدها من ثورات ونضالات شعوب في المنطقة العربية ستؤدي إلى المرور إلى زمن الديمقراطية الحقيقية والحداثة الحقيقية والاندماج الحقيقي في عالم التكنولوجيا والعلوم العصرية والسياسات الإقتصادية والإجتماعية الحديثة. ثورة تونس هي ضربة البداية وشعب تونس وبالأخص شباب تونس هم الذين يعتبرون اليوم قيادات زمن الحرية بمفاهيمها الحديثة والمتقدمة في العالم العربي بالخصوص. ثم إن هذه الثورة ستمثل الدرس المؤهل لدخول مرحلة الوعي الذي كان مفقودا في عالمنا العربي والذي يعوزنا لكي نتناول قضايانا ومشاكلنا بكلّ جدّية وفاعلية ونتقدّم فعلا إلى الأمام دون أن تعيقنا المكبلات الداخلية والخارجية... ثورة شباب تونس هي التي فتّحت أعين وأذهان الجميع لإدراك الواقع والحقيقة وكشفت الأغوار والأعوار وخراب الدار... ثانيا: الثورة بدأت في تونس وأنتقلت بزخمها وتيارها الجارف إلى مصر، والدولتان تتشابهان سياسة وفكرا وتوجها وفي نوعية العلاقات الخارجية وكذلك من ناحية دورهما في محيطهما العربي والإفريقي .. والدولتان أصبحتا المثال الذي يتباهى به الغرب في علاقاته مع الدول العربية بالخصوص من حيث ما يعرفانه من استقرار ومن خلال ما تمثلانه من جبهة صامدة في وجه التطرف والإرهاب بالمفهوم الغربي وفي إطار الحرب التي شنتها أمريكا بقيادة بوش الصغير منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 والتي كانت العراق ضحيتها الأولى والكبيرة وكانت أفغانستان ساحتها الملتهبة إلى حدّ الآن. تونس ومصر إعتبرتا قدوة في هذا المجال والآن سقطت هذه المراهنة الغربية على النظامين وأصبح واضحا أن خدمة الغرب مهما كانت فاعليتها ليست وحدها الضامنة للمناعة والتمتع بالامتيازات والتسهيلات بل لا بد أن يصحبها عمل كبير وتضحيات جسيمة على المستوى الداخلي من اجل ترسيخ مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان ومن أجل التوزيع العادل للثروة وحماية المكاسب والحقوق من تيارات الفساد والإفساد وإستغلال النفوذ والقهر والظلم ... وهذا الدرس لم يستوعبه النظام البائد لكن لا بد أن يدخل في أدبيات الثورة ولا بد للقيادات المنتخبة التي ستنبثق عنها أن تأخذ هذا الدرس بعين الإعتبار وتحرص على وضعه موضع التنفيذ بكل أمانة وجدّية ... وهذا ما حاولت الدول الغربية تغييره بالطرق السلمية وبالضغوط وبالترغيب والترهيب في تونس ومصر إلاّ أنها لم تفلح نظرا لتضخم آلة الهيمنة في الدولتين وضياع القرار السياسي بين متاهات الأطماع الشخصية والسرقات والنهب والصراع على كرسي الحكم بين المحيطين وفي طليعتهم أفراد العائلة بالنسبة للحكم البائد في تونس ومصر... والآن يقف الغرب مندهشا أمام ما حدث غير مصدق، ولا يعرف هل يبارك هذه الثورات لأنها جاءت بالديمقراطية والحرية والشفافية كما يريد هو أم يتخذ الاحتياطات اللازمة مّما يمكن أن تمثلّه من تراجع وفشل في حربه ضد الإرهاب وفي تعويله على الأنظمة الموالية والمتفتحة وهل أنّ ما حدث هو في نهاية الأمر دعم للجبهة المعادية للأسلوب الذي أديرت به القضايا المصيرية العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين سياسيا وقضية التنمية إقتصاديا؟؟ إنّ ما كان من ردّ فعل للبيت الأبيض على أداء المخابرات الأمريكية الذي إعتبر مقصرا لأنه لم يتوقع مسبقا ما حدث في تونس ثم مصر وكانت الثورة هنا وهناك أسرع من تقارير عملائه ومن حسابات أدمغته المفكرة، وكان الواقع الدفين داخل المدن التونسية المنسية وداخل النفوس المقهورة أبعد مما يكون عن أنظار المتابعين من أفراد المخابرات وأعمق من قدرتهم على البحث والتنقيب والتحليل...وهي تراكمات سنوات وكذلك عادات شعوب إختزنها التاريخ البعيد و القريب وهو التاريخ الذي يتجاهله الغرب ولا يعيره أيّة أهمية... ثالثا : لا بد أن يكون للثورة التونسية والثورة المصرية إنعكاسات كبيرة ومؤثرة على مصير الأوضاع العامّة في شمال إفريقيا وفي إفريقيا والشرق الأوسط ولا شك أن إسرائيل تضع الآن في مخبرها السياسي هذين الحدثين الهامين تحت مجهر أكثر من محلّل وباحث وعالم ومفكر وهي تعرف أكثر من غيرها أن اليوم لن يكون مثل الأمس وأنّ الغدّ سيكون مغايرا تماما ولذلك تتوقع إسرائيل أن تتراجع مكانتها كجنة للديموقراطية والحرية والأمن في المنطقة إذ سيكون دخول الديمقراطية والحرية بهذا الشكل الذي رسخته الثورة التونسية مؤديا إلى ظهور أمثلة منافسة لإسرائيل وأفضل منها، كما أنّ قرار السلم أو الحرب لن يكون من هنا فصاعدا بيد الحكام الموالين للغرب بل سيكون بيد الشعوب، والشعوب العربية لن تساوم على حقوقها المشروعة. أما من الناحية الإقتصادية فإننا في تونس سنستفيق عن قريب على واقع جديد قوامه علاقات متميّزة مع الاتحاد الأوروبي وتزاحم بين هذا الاتحاد والولايات المتحدةالأمريكية، كما سنرى الاستثمارات تتدفق بشكل أكبر من ذي قبل بعد أن زالت الأطماع والمحسوبية والنهب وبدأ عهد دولة القانون والمؤسسات. لكن هذا التحوّل الاقتصادي الايجابي والكبير سيبقى رهن إستقرار الأوضاع في تونس وإنتهاء الفترة الانتقالية بسلام في الاتجاه الذي يتماشى مع مرامي الثورة وأهدافها وطموحات الذين صنعوها، كما يبقى رهن التوافق بين جميع الأفراد و فئات الشعب التونسي بعد أن تزول مرحلة الشك والتشكيك وفترة التحمّس المفرط ودعوات الإقصاء والتطهير وخاصّة المحاسبة التي يجب أن لا تكون إعتباطية وشمولية بل لا بد أن ترتكز على القانون وأن تكون لها حجج ودلائل قاطعة وأن تكون أسبابها واضحة وغير ملفقة أو مصطنعة حتى لا تخسر تونس جزءا هاما من أبنائها الأوفياء الصادقين الغيورين والأكفاء، وحتى لا تصنع الثورة لنفسها أعداء من الآن، بل هي مدعوة إلى تحقيق الالتفاف حولها من طرف جميع التونسيين بكافة فئاتهم ومشاربهم، وهذا ممكن وجائز و مشروع لأننا جميعا نشعر بالإعتزاز بهذه الثورة ونشعر كذلك بالإشمئزاز لما ساد من فساد وظلم وقهر وإنحراف قبل الثورة. بقلم الأستاذ:عبد السلام الحاج قاسم