أثبت التاريخ بأن المحن التي تمر بها الإنسانية و تعاني ويلاتها تكون دائما فرصة لاستعادة روح التضامن و نيل الحقوق و إعادة كتابة فصول جديدة من الحضارة. وهو ما سيحدث بعد أن تنتصر البشرية على وباء الكورونا بإرادة المبدعين و المغامرين في الحق و المؤمنين بقوة الإنسان في مصارعة المحن و هزيمتها بإذن الله. و النماذج أكثر من أن تحصى فالمجاعة التي إجتاحت أوروبا في أواسط القرن الثامن عشر مع موكب الأوبئة و الأمراض التي أصابت الناس و المحاصيل كانت هي التي نتجت عنها الثورة الفرنسية عام 1789 و ما رافقها من إعلان ميثاق حقوق الإنسان الذي تبنته البشرية قاطبة بعد الحرب العالمية و رفعت بنوده رايات للحد من الحكم المطلق و إعلان الدساتير ثم جاءت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) فتراجعت الإنسانية عن قيم الثورة و تناست كتب المصلحين الكبار (مونتسكيو و فولتير و روسو) و ارتفعت نزعة الهيمنة العسكرية و الاقتصادية لدى الأمبراطورية الفرنسية و البريطانية و انتفضت ألمانيا ضد ما فرض عليها من احتلال قاهر و أحس الألمان بأن كرامتهم أهينت باتفاقيات (جمهورية وايمار) و حدثت حرب أوروبية ثم أصبحت عالمية و استعمل فيها لأول مرة السلاح الكيمياوي من غازات الخرذل الخانق و غاز السارين و مات الملايين في الخنادق الثلجية ثم انهزمت ألمانيا و تحطمت أمبراطورية بروسيا التي ارادتها برلين بالاتحاد مع المجر و رومانيا و النمسا و استبدت فرنسا و بريطانيا باقتسام ما سمياه (تركة الرجل المريض) أي البلاد الخاضعة للأمبراطورية العثمانية بتوقيع معاهدة ثنائية بين سايكس وزير خارجية بريطانيا و بيكو وزير خارجية فرنسا يوم 16 مارس 1916 و دفع السلطان العثماني ثمن تحالفه مع بيسمارك قيصر ألمانيا فانهارت الخلافة العثمانية و استعمرت كل بلدانها من قبل لندن و باريس. ثم حلت بالغرب الأزمة المالية الكبرى لسنة 1929 فانهارت المصارف و تزعزع اقتصاد الغرب المنتصر و استغل الحزب النازي العنصري هذه المحنة ليصعد في ألمانيا بالانتخابات عام 1933 و يسيطر على كل مفاصل السلطة في أكبر دولة أوروبية و يبدأ بالانتقام من معاهدة العار (معاهدة فرساي 28 يونيه 1919) التي فرضتها على الشعب الألماني القوى الأوروبية المحيطة بألمانيا و طالب أدولف هتلر بإلغاء المعاهدة و بدأ بالنداء لما سماه (الوحدة الأوروبية بالقوة تحت الجزمة الألمانية!) فاحتل النمسا و بولونيا و رفعت راية النازية بالصليب المعقوف و ألهب هتلر الجماهير الألمانية بالخطب الحماسية الشعبوية الجوفاء التي تخاطب غرائزها لا عقولها و شرع في احتلال فرنسا لينتقم منها و داست جيوشه باريس و استعرض المحتلون مختلف جنودهم و أسلحتهم في شارع الشانزيليزي و وقع الرئيس الفرنسي المؤقت الماريشال العجوز (فيليب بيتان) وثيقة الاستسلام للقوة الألمانية و عاشت ثلاثة أرباع فرنسا تحت الاحتلال ثم أعلن الجنرال شارل ديغول عصيانه و التجأ الى ونستن تشرشل في لندن ليبدأ مسيرة المقاومة و تحرير فرنسا بحفنة من رفاقه و حكم عليه بالاعدام من قبل عدالة بلاده المحتلة و لم ينحن و لم يتراجع الى أن انتصر بحرب العصابات المقاومة مع الحلفاء باعانة الولاياتالمتحدة و الاتحاد السوفييتي ضد قوات المحور أي المانيا و اليابان و إيطاليا. جاء النصر يتوج خمسة أعوام من الحرب عام 1944 و أنهت واشنطن مقاومة اليابان بأول قنبلتين نوويتين على هيروشيما و ناغازاكي فعرف أمبراطور اليابان (هيرو هيتو) أن القوة الأمريكية تملك سلاح الدمار الشامل فاعلن استسلامه و دمرت ألمانيا و اليابان و إيطاليا بلا رحمة في ظرف شهرين و تقاسم المنتصرون هذه الدول فاحتلت أمريكا اليابان و احتلت فرنسا و روسيا و بريطانيا كل أوروبا ثم بدأت الحرب الباردة بين الليبرالية الغربية و الشيوعية الروسية الى أن انفرجت بقدوم جورباتشيف الى الكرملين فاعلن افلاس روسيا و انهيار المعسكر الشيوعي بالكامل. و توجه العالم الى أحادية القوة الأمريكية لأنها انتصرت ثقافيا قبل عسكريا فلبس العالم كله (الدجين) و اكل العالم (الماك دونالد) و عزف الشباب موسيقى الروك و الكنتري. نحن اليوم في هذه المرحلة من إعادة تشكيل الحضارة ما بعد كورونا و نلاحظ عودة الأديان و الأخلاق للحياة السياسية تحت ضغط الجماهير وهي ميزة بداية عصر جديد و الله أعلم.