بصفتي محام في التعقيب منذ نحو ثلاثة عقود قضيتها في نيابة المتقاضين وتمثيلهم أمام المحاكم في كل درجاتها وكنت أكره التعليق على الأحكام خارج الأطر القانونية من اعترض أو استئناف أو تعقيب أو إصلاح أو مراجعة، لأن حرمة القضاء تفرضه عليًّ وقد أديت على ذلك يميناً قانونية كان علي التقيد والوفاء بها، ولكن ذلك لن يحول دون الكتابة أو الكلام في الشأن العام ومسيرة القضاء باعتباري جزء منه، ولأن المنظومة القضائية عندنا تفترض أن يكون حضوريا وليس سريا، وأنه لا يمكن للقضاة أن ينتصبوا للحكم بدون مشاركة المحامين وخاصة في المادة الجنائية الى الحد الذي يوجب على المحكمة تسخير محاميا لمن لم يكلف من يدافع عليه وبُدونه يكون الحكم مضروبا بالبطلان المطلق الغير قابل للتدارك. لذا فسوف أتقيد بواجب التحفظ كما قلت، ولأني لم أكن في تلك القضية التي سأتحدث عنها نائبا ولم اقرأ حيثيات الحكم الذي أثار في وسائل الإعلام المكتوبة والافتراضية ضجة وحفيظة أحزاب وبعضها في الحكم وأخذت منها موقفا سلبيا. أتصور أنه سوف يكون لذلك تأثيره على القضاء واستقلاله ونحن ما زلنا نعمل على ترميم الثقة التي اهتزت فيه وكنا منذ سنين ننشد ذلك الاستقلال ، فبات الآن حاله في الميزان بمناسبة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء وقد تعطل بسببه بعث المحكمة الدستورية صمام الأمان الذي يحمينا. وسأكتفي هنا بالتذكير بالقانون ومبادئه العامة وحسن الأداء عند القضاء بين المتقاضين وواجب تقيد القضاة بالصبر والنزاهة والموضوعية وتخلصهم من الضغوط التي كانت تقلقهم سابقا وتقلل من هيبتهم المرجوة وتلزمهم بالوفاء لليمين القانونية التي أدوها قبل مباشرتهم لتلك المهنة الشريفة. لذلك سأبدأ باستعراض القضية التي أثارت ردود أفعال عديدة لأنها تهم الرأي العام وتعلقت ببعض الوزراء السابقين وقد صدرت في حقهم حكم بالسجن مع النفاذ الوقتي تطبيقا للفصل 96 من المجلة الجنائية التونسية. فمن حيث الشكل: أولا: احترز في الاختصاص الحكمي بصفتهم كانوا أعضاء في الحكومة والافعال المنسوبة إليهم وقعت لما كانوا وزراء وقد خصهم القانون الخاص عدد 10 المؤرخ في غرة افريل 1970 المحدث للمحكمة العليا بمحكمة خاصة يحيلهم عليها رئيس الجمهورية وليست النيابة العمومية. لذا فكل الإجراءات في نظري تعد باطلة لأن القانون الخاص يحجب القانون العام لو كنتم تعلمون. ثانيا: لم استوعب تساوي العقاب بين هؤلاء الوزراء الثلاثة إذ كان مماثلا لكل واحد منهم! من حيث الأصل : ثالثا: التزيد بأكساء الحكم بالتنفيذ الوقتي استنادا لفصل مهجور في مجلة الإجراءات الجنائية وضع استثناء للحالات الخطرة في حين أن القضية كانت منشورة منذ أكثر من ستة أعوام بين النيابة العمومية وقلم التحقيق ودوائر الاتهام وهذه المحكمة الجنائية المنتصبة كانت آخرتها لأكثر من مرة تتمة للإجراءات الضرورية ! رابعا: أشك في انطباق الفصل 96 من المجلة الجنائية على أفعال لا علاقة لها بالتهمة، إذ لا تتجاوز ما هو موكول للمعنين تقديرها حسبما تفتضيه الأحوال ولا يمكن وصفها بالجريمة، لأن الفصل المذكورتم وضعه لمن تمتد يده للمال العام سواء كان لفائدة المؤتمن عليه أو لغيره ممن لهم علاقة به او صلة، اما التوسع فيها فذلك اجتهاد يستفيد منه المتهم بالضرورة. وفِي النهاية كانت الأفعال المنسوبة لهؤلاء الوزراء تنفيذا لاوامر عليا لم يكن في وسعهم مخالفتها ويغطيها الفصل 42 من المجلة الجنائية الذي يوجب على المرؤوس تنفيذ أوامر رئيسه المسؤول لديه. وانا أكتب هذا خشية على القضاء واستقلاله ونحن كلنا نخاف عليه خاصة من افراط البعض في تأويل نصوصه والتففه فيها لأن ذلك يؤدي بالضرورة الى التشكيك فيه. وأقول صادقا بان العدل أسمى من القضاة والمحامين ومنا جميعا عملا بقوله تعالى في كتابه العزيز:(...وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (النساء: 58).