صدر في إطار منشورات مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات عدد جديد من سيمنارات الذاكرة الوطنية والعربية (الجزء الحادي عشر- أفريل 2010 ) حمل عنوان:"شهادات فاروق القدومي وأبوحجلة وعمر كتمتو حول الذاكرة الفلسطينية" أشرف لهذا الإصدار وقدّم له الأستاذ الدكتور عبد الجليل التميمي بالمقالة التالية: دفاعا وحفاظا على الذاكرة الوطنية الفلسطينية من الضياع أ. د. عبد الجليل التميمي ربما لم تحظ قضية من الاهتمام على الساحتين العربية والدولية، بقدر ما حظيت به القضية الفلسطينية، نظرا لعدالتها ولخصوصية الاحتلال الاستيطاني الذي يعانيه الشعب الفلسطيني منذ ما يزيد عن ستين عاما. وقد اعتبرت هذه القضية على الساحة العربية قضية مركزية بما يعنيه ذلك من إيلائها الأولوية ضمن قضايا الأمة، حتى أن العديد من مشاريع التنمية والتقدم والتحديث في حد ذاتها اعتبرت بدرجة أو بأخرى، ثانوية، بالمقارنة مع تلك القضية المركزية. ورغم اتجاه العديد من البلدان العربية منذ اتفاقية كامب ديفيد إلى الانكفاء على نفسها والتركيز على قضاياها القطرية، فإن فلسطين بقيت تحرك الوجدان والشارع العربيين من المحيط إلى الخليج. ومن هنا فإن الذاكرة الفلسطينية لا تهم الفلسطينيين وحدهم، وإنما هي جزء أساسي في ذاكرات الشعوب العربية بل والشعوب المحبة للسلام والمساندة للحق الفلسطيني عبر العالم. وفي هذا الإطار فإن النضال الوطني الفلسطيني من أجل الاستقلال والتحرر من كابوس الاحتلال الصهيوني، يستحق التوثيق والتسجيل في سبيل الحفاظ على الذاكرة الوطنية الفلسطينية. وقد انتبهنا إلى هذه المسألة في إطار اهتمامنا بالذاكرة الوطنية التونسية والمغاربية والتوقف مليا حول تاريخ الزمن الحاضر، عندما منحناها مكانة أساسية وقد فرعنا اهتمامنا باتجاه الذاكرة الفلسطينية، راسمين لذلك هدفا يتمثل في توفير المادة الضرورية للبحث والدراسة. إلا أنه في قضية مثل القضية الفلسطينية لا يلبث ذلك الهدف أن يقترن بهدف قومي عربي. ذلك أن تسجيل الذاكرة الوطنية الفلسطينية يعتبر مساندة ثقافية وحضارية للقضية ككل، حتى تبقى متوهجة وحاضرة في المخيال العربي وعلى الساحة البحثية. ولا شك أن غياب التوثيق العلمي لهذه الذاكرة يعود إلى عدم وجود المنابر الحرة والمستقلة علميا وسياسيا في فضائنا العربي، للعمل على دعوة المساهمين في النضال الوطني الفلسطيني لإذكاء وإثراء الذاكرة الفلسطينية، وكم نحن متأسفون جدا لرحيل العديد منهم دون أن تتولى أية جهة فلسطينية أو عربية تسجيل ما تكتنزه ذاكراتهم أو شهاداتهم على العصر بما يتعلق بتحركاتهم ونضالاتهم ومساهماتهم في صنع الأحداث. وفي هذا الإطار، تمكنا حتى اليوم من استضافة عدد من أبرز الشخصيات الوطنية الفلسطينية، وهم السادة: - فاروق القادومي (أبو اللطف)، رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية وأمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، في حلقتين ؛ - الدكتور عمر صبري كتمتو، السفير الفلسطيني السابق بأوسلو وكوبنهاغن ؛ -عبد اللطيف أبو حجلة (أبو جعفر)، المدير العام للدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، في حلقتين. ولا بد من التذكير هنا بالرباط المتين الذي يشد التونسيين إلى القضية الفلسطينية، ومناصرتهم لها دون قيد أو شرط، منذ بدايات القرن العشرين، وبرز ذلك خاصة في الأربعينات عندما توجه عدة مئات من المتطوعين إلى المشرق العربي سنتي 1947-1948 للمساهمة في القتال ضد العصابات الصهيونية. ولعل من أهم المحطات في التاريخ المشترك هو احتضان تونس منذ سنة 1982، للقيادات الفلسطينية بعد خروجها من بيروت، ثم اختلاط دم الشعبين في حمام الشط سنة 1986. وبالتالي فلا غرابة أن تتبنى مؤسستنا ورشة دائمة حول الذاكرة الوطنية الفلسطينية وتفسح منبرها الأكاديمي المستقل، أمام العديد من الشخصيات الفلسطينية لتسجيل ذكرياتهم بالصوت والصورة، حفاظا على هذه الذاكرة من الضياع والنسيان. وقد قمنا حتى اليوم بتنظيم خمسة سيمنارات كان أولها مع د. عمر كتمتو حول : تجربة العمل الدبلوماسي الفلسطيني في الدول الاسكندينافية، وربما تكمن أهمية هذه الشهادة وأصالتها في أن صاحبها كان ممثلا لمنظمة التحرير الفلسطينية في البلاد التي جرت فيها -في كنف السرية- محادثات أوسلو التي شكلت منعرجا في النضال الوطني الفلسطيني. والحقيقة أن هناك تواريخ حاسمة في سيمنارات الذاكرة الفلسطينية التي تمت حتى اليوم، حيث اشترك ضيوفنا في العودة إلى البعض منها ومن أهمها انطلاقة فتح وإطلاق أول رصاصة في شتاء 1965، ثم اتفاق أوسلو بعد محادثات سرية جرت في صائفة 1993. وما بين ذلك الشتاء وهذا الصيف، شهدت القضية الفلسطينية منعرجات كبرى ومحطات رئيسية من أهمها التعاطف والتأييد النوعي الذي عرفته الثورة الفلسطينية في مختلف بلدان العالم، وخاصة من بلدان المعسكر الاشتراكي التي قدمت دعمها بالسلاح والمال والتكوين وبعث الخلايا المؤيدة لهذه القضية العادلة، التي عرفت زخما أكبر من ذاك الذي عرفته الثورة الجزائرية على الساحة الدولية في حينها. وكان كل ذلك وراء النجاحات الفلسطينية حتى وصلت القضية إلى ردهات الأممالمتحدة نفسها عندما رفع الشهيد ياسر عرفات غصن الزيتون بيد والبندقية بيد أخرى، رافعا صوته في لحظات تاريخية من على منبر المنظمة الأممية، قائلا قولته الشهيرة: "لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي". ومن أهم تلك النجاحات تصويت الجمعية العامة على اعتبار ذكرى تقسيم فلسطين يوم 29 نوفمبر 1947 يوما للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وكذا التصويت على اعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية. كما أن من أهم النقاط التي طرحت تصريحا أو تلميحا في هذه السيمنارات، البعد العربي للقضية الفلسطينية، والتدخلات في الشأن الفلسطيني بهدف التأثير على القرار الوطني. ومن الجوانب التي أثارها ضيوفنا كذلك العلاقات مع مختلف البلدان الأجنبية واتساع شبكات التمثيل الفلسطيني في عدد كبير من البلدان بما فيها البلدان الأوربية. ويهمنا أن نشير في هذا الإطار إلى العلاقة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث تم التنسيق بين الجانبين على الساحة اللبنانية خلال الحرب الأهلية، كما جرت بعض جولات الحوار بينهما بتونس. إلا أن الانحياز الأمريكي للطرف الإسرائيلي لم يؤد إلى تطوير تلك الاتصالات الأولى. وتعرضت هذه الشهادات كذلك إلى شخصية الشهيد ياسر عرفات الذي يمثل بحق إحدى أيقونات الحركة الوطنية الفلسطينية، فلم يغب عن ذاكرات رفاق دربه ممن عرفوه عن قرب وعملوا إلى جانبه وحتى انتقدوه في حياته. وبالفعل فالرجل يحظى بكاريزما وجاذبية قلما يحظى بهما زعيم آخر. إن نصوص هذه السيمنارات تعتبر مادة أولية توضع أمام الباحثين العرب والدوليين من المهتمين بفلسطين وبالحركة الوطنية الفلسطينية وبتاريخ نضالها. كذلك فإن الاهتمام بالذاكرة الوطنية الفلسطينية من شأنه أن يرفد عملية الحفاظ على التراث الوطني الفلسطيني بكل مكوناته المميزة من الدبكة والموال إلى المأكولات وصولا إلى الكوفية، حيث أن هذا التراث يعتبر بحق جزءا لا يتجزأ من تراث الأمة العربية بل والإنسانية جمعاء. وإننا لنؤكد من جديد على أن العمل للحفاظ على الذاكرة الفلسطينية هو أمانة في أعناق الجميع عربا وأوربيين وفلسطينيين بالدرجة الأولى. ومنبر مؤسستنا سوف يبقى مفتوحا أمام أية شخصية فلسطينية أو عربية أو غربية لتعزيز هذه الذاكرة، بل إننا ندعو الخيرين من هذه الأمة أن يعملوا على إنشاء مركز للذاكرة الفلسطينية في أي فضاء ترابي ليحتضن هذا المشروع، ويتم في إطاره جمع كل وثائق المنظمة والتي هي موزعة الآن بين بيروت والجزائر وتونس والضفة الغربية، وعسى أن تصادف هذه الدعوة أذنا صاغية ويدا عاملة.