التونسية (تونس) إنّ الأصل هو براءة ذمة الشخص من أي حق لفائدة الغير وهو ما أورده الفصل 560 من مجلة الالتزامات والعقود «الأصل براءة الذمة حتى يثبت تعميرها» اي ان كل شخص يعتبر غير مدين أمام القانون الا اذا اثبت العكس بإجراءات ضبطها القانون تعرف قانونيا بعبء الإثبات. والاثبات هو إقامة الدليل لدى القاضي على وجود الحق، فالاثبات يتعلق بالحق لا بالقانون، ففي حين أن المتقاضي غير مطالب مبدئيا بإثبات القانون ونفاذه بل بإثبات حقه، فإن القاضي حسب المقولة المعروفة يعلم القانون والحكم به. وما يجدر ذكره أنه لا دخل للقاضي في إثبات الحق عملا بمبدإ حياد القاضي الا انه بإمكانه التدخل ايجابيا في النزاع باعتبار ان دوره يتمثل في البحث عن الحقيقة وايصال الحقوق إلى اصحابها. وقد يحدث ان يكون على المتقاضي ان يثبت القانون وذلك في 3 حالات: الأولى متعلقة بالعرف اذ جاء بالفصل 544 من مجلة الالتزامات والعقود أن «من استند على عرف عليه اثباته» خاصة ان العرف غير مكتوب. أمّا الثانية فتتعلّق بالقانون الاجنبي. فعملا بمبدإ السيادة فإنّ القاضي التونسي مطالب فقط بمعرفة القانون التونسي. أمّا الثالثة فتتجسد من خلال الخطأ البيّن المتمثل في القضاء بقانون ملغى اذ يجب مراجعة القرار التعقيبي لاثبات ان القانون الواقع تطبيقه وقع إلغاؤه. وقد تولى المشرع التونسي مأسسة عبء الاثبات في عدة فصول من مجلة الالتزامات والعقود لسنة 1906 كان من ابرزها الفصلان 420 و421. تحمّل المدعي لعبء الاثبات أورد الفصل 420 من مجلة الالتزامات والعقود «إثبات الالتزام على القائم به» اي ان من يدعي شيئا عليه اثباته وتقديم مؤيدات ويعود هذا المبدأ إلى جذور اسلامية اذ جاء بالحديث النبوي الشريف «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر»، ويعتبر هذا المبدأ مبدأ منطقيا وطبيعيا حيث يتجسد في أنه على من يدّعي شيئا إثباته. ولهذا المبدإ عدة مبرّرات وأصول وهو أن الأصل هو براءة ذمة الشخص من اي حق لفائدة الغير. وقد اكد المشرع التونسي في الفصل 560 من مجلة الالتزامات والعقود ان «الاصل براءة الذمة حتى يثبت تعميرها» أي أنّه على من يدعي حقا يعمر به ذمة شخص آخر دحض هذه القرينة واثبات ما يدعيه ومن المنطقي والطبيعي ان يتحمل عبء الاثبات بما انه مدعيا وقائما بالدعوى ومقدم العريضة. وقد كرست نفس المجلة الفصل 562 لتدعيم هذا المبدإ حيث نص على أن « الأصل بقاء ما كان على ما كان وعلى من ادعى تغييره بالإثبات». وقد ألزم الفصل 70 الجديد من مجلة المرافعات المدنية والتجارية بأنْ يعرض بعريضة الدعوى اسم كل من الخصمين ولقبه وحرفته ومقره وصفته ووقائع الدعوى وأدلتها وطلبات المدعي ومستنداتها القانونية حيث أن الدعوى المقامة دون مؤيدات وأدلة هي دعوى «مجردة» يهددها الحكم بالطرح وفقا للفصل 79 الجديد من مجلة المرافعات والمدنية والتجارية. إذن أساس القاعدة على ان المدعي في النزاع هو المدعي في الاثبات لكن قد يحدث أن تتغير الأدوار عند تطبيق القاعدة، فإذا اعتبرنا ان المبدأ هو البينة على من ادعى عملا باحكام الفصل 420 من مجلة الالتزامات والعقود فإن المدعي في القضية هو أول وبالذات هو المدعي في الاثبات لكن القاعدة لا تقف عند هذا الحد فإذا اثبت المدعي حقه ينتقل حق الاثبات على المدعى عليه الذي يصبح المدعي في الاثبات. ولقد أورد الفصل 421 من مجلة الالتزامات والعقود انه «اذا اثبت المدعي وجود الالتزام كانت البينة على من يدعي انقضاءه أو عدم لزومه» ويقترن عبء الاثبات بما يسمى «خطر الاثبات» أي ارتباط مآل النزاع بتحمل عبء الاثبات بمعنى أدق ان الطرف الذي لا يكسب القضية هو الطرف الذي يعجز في الاخير على عكس الدليل الذي احضره الخصم. وقد شهد التطبيق القضائي اجماعا حول مبدأ البينة على من ادعى وتحميل المدعي عبء الاثبات في بداية النزاع والاستثناء الوحيد الذي افرزه فقه القضاء التونسي يتعلق بالقضايا الشغلية حيث أقرّ فقه القضاء التونسي بأن عبء الاثبات على المدعى عليه وذلك على اساس قاعدة الفصل 532 من مجلة الالتزامات والعقود «الاصل بقاء ما كان على ما كان». ولقد اقرت محكمة التعقيب في قرارها الشهير عدد 16370 المؤرخ في 2 جانفي 1989 ان «الأصل في عقود الشغل ألاّ يتخلّى عامل عن عمله من تلقاء نفسه باعتباره المورد الأصلي والوحيد لارتزاقه وان من يدعي خلاف ذلك يكون ملزما بإقامة الدليل على ادعائه خلافا للقاعدة الاصلية الواردة في الفصل 420 من مجلة الالتزامات والعقود». وقد اعتبر جانب ثان من فقه القضاء ممّن لا يشاطر هذا الموقف ان المبدأ الوارد بالفصل 420 ينسحب كذلك على القضايا العرفية. وأمام هذه الاختلافات القضائية تدخل المشرّع معتبرا انه على القاضي البحث حول وسائل الاثبات المقدّمة من الطرفين وكأننا بالمشرّع يضيف استثناء لمبدأ حياد القاضي المدني وللمبدأ الذي جاء بالفصل 420 من مجلة الالتزامان والعقود.. ولكن الاستثناء الحقيقي لمبدأ البينة على من ادعى أورده المشرع ذاته عند إقراره لمؤسسة القرائن القانونية. القرائن القانونية عرّف المشرّع التونسي القرائن بصفة عامة بالفصل 479 من مجلة الالتزامات والعقود بأنها «ما يستدل به القانون أو الحاكم على أشياء مجهولة» في حين عرّفها المشرع الفرنسي بأكثر دقة في الفصل 1349 من المجلة المدنية الفرنسية بكونها «النتائج التي يستخلصها القانون أو القاضي من واقعة معلومة لواقعة مجهولة». إذن فالقرينة هي عملية استنتاج مؤسسة على المنطق، ونلاحظ ان المجلة لم تورد بصفة صريحة تقسيما يعتمد حجية القرائن القانونية، بل اعتمدت على تفرقة جلية بين القرائن القانونية القاطعة والقرائن القانونية غير القاطعة. أمّا القرائن القانونية القاطعة فهي القرائن التي لا تقبل اثبات عكس ما ترد به ويعني ذلك ان المستفيد منها يعفى من اثبات موضوعها. ومن ابرز القرائن القانونية القاطعة هي «قرينة اتصال القضاء» التي تقوم على 3 شروط وهي موضوع الطلب واحدا (أي أن يكون موضوع الدعوى المطروحة هو نفس الموضوع المطروح سابقا واصدر فيه القضاء حكما) وان يكون سبب الدعوى واحدا وان تكون الدعوى بين نفس الخصوم الصادر بينهم الحكم سابقا حسب الفصل 481 من مجلة الالتزامات والعقود وقد عرفت محكمة التعقيب قرينة اتصال القضاء كالآتي: «اتصال القضاء هو قرينة قانونية قاطعة تغني من قامت لفائدته عن كل بينة اخرى ولا تقبل بينة لمعارضتها اذا توفرت شروطها الثلاثة وهي وحدة الموضوع والسبب والأطراف» وقد نص الفصل 485 من مجلة الالتزامات والعقود على انه «اذا قامت القرينة منع اثبات عكسها». ومثال ذلك اذا قام شخص ضد آخر بدعوى ليطالبه بأداء دين، فقضت المحكمة ابتدائيا بعدم سماع الدعوى لعدم اثبات المدعي لوجود الدين، وحرص المدعى عليه والمحكوم لفائدته على إعلام خصمه (المدعي) بالحكم المذكور ولم يقم هذا الأخير بالطعن في الحكم الصادر ضده في الآجال القانونية المحددة مما يحول الحكم الابتدائي إلى حكم نهائي وبات، ولا يمكن للمدعي مبدئيا ان يقوم ثانية لنفس السبب وفي نفس الموضوع ضد ذلك الخصم للمطالبة من جديد بأداء الدين اذ ان الحكم الابتدائي القاضي بعدم سماع الدعوى أحرز على «قوة الأمر المقضي به وانبنى على قرينة صحة وهي قرينة قانونية قاطعة». أما القرائن القانونية غير القاطعة او البسيطة فهي القرائن القانونية التي تقبل اثبات عكس ما اوردته اي انها تقبل الدحض، وهي الاكثر تداولا في التشريع. ومن القرائن القانونية البسيطة «قرينة النسب» اذ ينص المشرّع على ان «النسب يثبت بالفراش أو بإقرار الأب أو بشهادة شاهدين من أهل الثقة فأكثر. إذن قرينة الفراش اي الزواج هي قرينة لها دور أساسي وهو الاعفاء من اثبات نسب المولود داخل اطار الزواج، فيلحق المولود بنسب الزوج وتقوم القرينة على ان الزوج هو الاب، فلا يجبر الطفل على اثبات نسبه ولا الاب على الاقرار بذلك، فقرينة الفراش تعفي من اثبات النسب، لكن المستفيد من القرينة مطالب بإثبات شروط قيامها كما حدّدها المشرّع أي انه مطالب بإثبات «الفراش» أي بإثبات أما وجود العلاقة الزوجية الشرعية أو وجود «زواج فاسد» طبق احكام الفصلين 21 و22 من مجلة الاحوال الشخصية أو «زواج مصرّح بإبطاله» طبق احكام الفصل 36 مكرر من قانون تنظيم الحالة المدنية. لكنها تبقى قرينة قانونية بسيطة لان المشرع أجاز اثبات عكسها اي انه اباح دعوى نفي النسب. فقد نص الفصل 75 من مجلة الأحوال الشخصية على انه «اذا نفى الزوج حمل زوجته أو الولد اللازم له فلا ينتفي عنه الا بحكم الحاكم وتقبل في هذه الصورة جميع وسائل الاثبات الشرعية». وأضاف الفصل 76 من نفس المجلة «اذا اثبت الحاكم نفي الابوة طبق احكام الفصل السابق فإنه يحكم بقطع النسب والفراق الابدي بين الزوجين» وهو ما يعني دحض قرينة النسب ومحو آثارها.