بقلم: أحمد هواجي (جامعة جيلالي اليابس سيدي بلعباس الجزائر) تتضمن العقود الاحتمالية _كما رأينا_ مخاطر الخسارة أو الربح ومع ذلك يلجأ الشخص بإرادته إلى التعاقد وتحمل المخاطر التي يمكن أن تنتج بأمل الحصول على الربح أو نتائج أكثر نفعا، فإذا قلنا أن طرفي العقد الطبي يبرمان عقدا غير مضمون النتيجة فهذا يعني أن هذا العقد يحتوي على عنصر الاحتمال فهو يشبه العقود الاحتمالية، لكنه ومع ذلك يختلف عنها في عناصر مختلفة، ولذلك سنبين في هذا الصدد خصوصية وطبيعة العقد الطبي من خلال دراسة مظهر الاحتمال (الغرر) في كل من إرادة طرفيه (أولا)، ثم محله وسببه (ثانيا). أولا: مظهر الاحتمال في إرادة طرفي العقد الطبي: إن الطبيعة الاحتمالية للعمل الطبي أو العلاجي تجعل الشخص المقبل على إبرام عقد طبي متيقنا أنه سيخوض في علاقة عقدية لا يعلم إلى أين ستؤدي به، إما إلى شفائه وتحسن حالته الصحية - وهو ما يأمله - وإما إلى بقائه على حاله أو ربما تدهور وضعيته الصحية بسبب خطأ يرتكبه الطبيب أو حتى بدون خطئه، ولكن في الواقع لا مناص له من قبول هذه المخاطر بكل إرادته، لذا ينبغي علينا التأكد من مدى تواجد عنصر الاحتمال في إرادة كل من المريض (أ) والطبيب (ب) . أ) مظهر الاحتمال في إرادة المريض : تتجه إرادة المريض لإبرام العقد الطبي رغم علمه بالمخاطر التي يحتويها أي تدخل علاجي آملا في سلامته، وهذا ما يعرف بإرادة الخطر وإرادة السلامة ؛ حيث يقصد بالأولى تحمل خطر الخسارة بأمل الحصول على الربح أو تحمل المخاطر للحصول على شروط أو ظروف أكثر نفعا، بينما يقصد بالثانية تحمل المخاطر مقابل السلامة أو الأمن أو وضع بنود في العقد لتجنب الاحتمال أو الصدفة، لذا يقال أن الاحتمال عنصر موجود في جل العقود المستمرة ولكن درجاته تختلف بحسب اختلاف تلك العقود، وفيما يخص العقد الطبي فإنه يشترط كغيره من العقود ضرورة توفر رضا المريض ورضا الطبيب حتى يكون صحيحا، ولكن التساؤل الذي قد يدور في الأذهان في هذا الموضع هو على ما ينصب هذا الرضا، أو إلى ما تتجه إرادة كل من المريض والطبيب عند إبرامهما للعقد الطبي، هل إلى الشفاء أم إلى تقديم العلاج دون ضمان النتيجة، لهذا السؤال أهمية كبيرة، فالإجابة عليه هي التي تبين مكانة العقد الطبي من العقود الاحتمالية، كما توضح طبيعة الالتزام الملقى على عاتق الطبيب، حيث يقدم المريض على إبرام العقد الطبي وهو لا يدري إلى أين سيؤدي به خصوصا إذا كانت حالته المرضية معقدة وكانت نسبة الشفاء ضئيلة وكان هناك في نفس الوقت احتمال لشفائه دون القيام بالتدخل العلاجي الذي هو مقدم عليه، هنا وبدون شك تكون إرادته مشابهة لإرادة المقدم على إبرام عقد من العقود الاحتمالية، حيث تسري عليه النظريات المعروفة في هذا النوع من العقود وهي نظرية الاحتمال ونظرية المخاطر. ب ) مظهر الاحتمال في إرادة الطبيب: لا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للطبيب فهو أيضا يقدم على إبرام عقد لا يعلم بدقة ماذا سينجر عنه رغم تمتعه بشهادات عالية وكفاءة معترف بها، إلا أن الشيء الأكيد هو أن التزامه ليس بتحقيق الشفاء وإنما ببذل العناية اللازمة لتحقيقه، ومع ذلك هناك بعض الاختلافات بين إرادته وإرادة المريض، فالأصل أن تقديم عملية العلاج يكون بصفة دائمة وبدون انقطاع وبذلك يكون الطبيب دوما في حالة دعوة إلى التعاقد، وهي مرحلة سابقة للإيجاب تهدف للتمهيد لإبرام العقد، وقد تنتهي إلى الإيجاب _ وإن كانت الفقرة الأخيرة من المادة 42 من مدونة أخلاقيات الطب سمحت للطبيب أو جراح الأسنان أن يرفض لأسباب شخصية تقديم العلاج، وبالتالي فإذا كانت مقتضيات كل من مبدإ سلطان الإرادة والحرية التعاقدية والمادة 42 المذكورة تعطي الحرية للطبيب لرفض تقديم العلاج إلا أن هذا الرفض غير جائز في حالات ثلاث : حالات الاستعجال القصوى وأثناء سير العملية العلاجية حيث يكون المريض في مواجهة خطر وشيك، بالإضافة إلى التسخيرة القضائية، ويجب أن يتمتع الطبيب بكامل الشروط القانونية لاحتراف مهنة الطب. يقدم الطبيب على إبرام العقد الطبي وهو يحتمل النتيجة التي قد يتوصل إليها، إلا أن إرادته تتجه إلى تقديم العلاج الذي يراه مناسبا وفقا لقدراته وكفاءته العلمية وتبعا لما توصل إليه الطب، وبذلك فإن التزامه يكون محددا مسبقا ويتمثل في تقديم أفضل علاج للمريض مع احتمال وقوع الشفاء، وهو ما يشكل أحسن مثال للالتزام ببذل عناية وفقا للنظريات المذكورة أعلاه . و يمكن القول في هذا الشأن أنه لا يمكن أن تتجه إرادة طرفي العقد الطبي إلى الشفاء، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فالشفاء بيد الله وحده، ولا يمكن للطبيب أن يضمنه، كما أن علم الطب لم يصل إلى مرتبة العلم الدقيق، بل هو مجرد فن، وإنما تتجه الإرادة إلى بذل الطبيب للعناية اللازمة في تقديم العلاج المطابق لتطورات العلم الحديثة لمريضه. ثانيا: مظهر الاحتمال في سبب ومحل العقد الطبي : إن العبرة بالعدالة التبادلية للالتزامات تكون أثناء إبرام العقد وليس أثناء تنفيذه، وإن هذه العوامل التي ألحقت اختلالا في توازن الأداءات التي تضمنها العقد مما من شأنه أن يلحق بأحد طرفيه ظلما يشكل مساسا بالعدالة التي يقوم عليها العقد أدت إلى إيجاد دور ايجابي للقاضي الذي أصبح من سلطته التدخل في معاملات الأفراد ومراجعتها وتعديلها بحيث يعيد إليها التوازن المطلوب وبالوسيلة التي يراها ملائمة لتحقيق ذلك الغرض(18)، فهل هذا هو حال العقد الطبي في ما تعلق بسببه (أ) ومحله (ب). أ ) مظهر الاحتمال في سبب العقد الطبي : إن العقد الطبي يقع على جسم الإنسان الذي هو الكائن المختار من الله تعالى على هذه الكرة الأرضية لعبادته ولتعمير الأرض والعيش فيها بسلام، وقد نادت الأديان - كل الأديان - القديمة والحديثة منذ نشأة الإنسان بمعاملة تليق بكرامته وحريته وعفته ومنحته من القيمة و القدسية ما يجعله يبتعد عن أية مساومة أو حط من كرامته. _ الاحتمال في السبب بالنسبة للمريض : يعتبر التداوي سببا من الأسباب المزيلة للضرر عن الإنسان، لذلك فإن السبب الباعث أو الدافع إلى التعاقد بالنسبة للمريض هو التداوي من مرضه، ويشترط في الباعث الدافع إلى التعاقد شرط أساسي هو المشروعية، فيكون العقد باطلا إذا كان سببه مخالفا للنظام العام والآداب العامة، على عكس السبب في العقد الاحتمالي الذي هو خلق احتمال قانوني حيث تراضى الأطراف على التزامهم نتيجة لدور هذا الاحتمال أي أنه هو الذي دفعهم للتعاقد، فالغرر عنصر أساسي لوجود العقد الاحتمالي لأنه يعد جزءا من السبب وهو الغاية الثابتة في الالتزام إلا أن هذا ليس حال العقد الطبي حيث من واجب المريض الحفاظ على صحته والبحث عن العلاج، وبالتالي فالسبب عنده ليس الغرر وإنما العلاج بقصد الشفاء. _الاحتمال في السبب بالنسبة للطبيب: يبرم الطبيب عقدا مع المريض لأجل تقديم العلاج له باعتبار أن مهمته النبيلة توجب عليه ألا يتوانى عن تخفيف آلام المرضى، ويكون هذا الباعث الذي يدفعه لإبرام العقد الطبي، فالعبرة طبقا للنظرية الحديثة للسبب هي بالسبب الشخصي أي الباعث الدافع للتعاقد والذي يمثل سبب العقد وليس سبب الالتزام، وبالتالي فإن سبب العقد الطبي هو العلاج والمداواة، وهو أمر في حد ذاته لا يخلو من الاحتمال . ب_ مظهر الاحتمال في محل العقد الطبي: ينبغي لصحة العقد الطبي توفر عنصر المحل بكامل شروطه وهي أن يكون ممكنا غير مستحيل، وأن يكون معينا أو قابلا للتعيين، وأن يكون مشروعا أي غير مخالف للنظام العام والآداب، والمقصود بالمحل في العقد ليس هو محل العقد وإنما محل الالتزام الذي يمثل ما يتعهد به المدين، ويمكن تعريفه بأنه «الشيء الذي يلزم المدين بإعطائه أو بعمله أو بالامتناع عن عمله»، بمعنى الالتزامات الناجمة عن العقد الطبي. _الاحتمال في المحل بالنسبة للمريض: يتمثل التزام المريض في أن يمد الطبيب بكافة المعلومات حول مرضه من جهة، وأن يحترم ويتبع النصائح والتعليمات التي يقدمها له من جهة أخرى، كما يلتزم بدفع الأتعاب التي تم الاتفاق عليها، وهو في الحقيقة يخلو من أية مخاطر أو احتمال ويعد في متناول المريض . _ الاحتمال في المحل بالنسبة للطبيب: يقع على الطبيب تنفيذ التزامه عبر مختلف مراحل العلاج المتمثلة فيما يلي: الفحص الطبي: كأول مراحل العمل الطبي الذي يقوم به الطبيب في سبيل التعرف على المرض الذي يشكو منه المريض، وينقسم إلى ثلاثة مراحل : مرحلة الفحص الابتدائي، مرحلة الفحص السريري، ثم مرحلة الفحص التكميلي. مرحلة التشخيص: وهذه المرحلة هي الثمرة الطبيعية لمرحلة الفحص السابقة، ذلك أن الطبيب بعد أن ينتهي من مرحلة الفحص يبدأ بالنظر في الفحوص التي أجراها، والتقارير التي كتبها المحلل أو المصور أو الطبيب السابق ودراستها بغية الوصول لمعرفة حقيقة المرض ودرجة خطورته والمرحلة التي وصل إليها، ويقوم الطبيب في هذه المرحلة بالملاحظة الشخصية لمعرفة نوعية المرض بالإضافة إلى استخدام الأجهزة العلمية الحديثة والتشاور مع زملائه. مرحلة العلاج: وتعتبر آخر مرحلة من مراحل العمل الطبي، وتم تعريفها بأنها «مجموعة الأعمال التي يتخذها الطبيب للتخفيف عن المريض ولحمايته من المرض». كما تقع على عاتق الطبيب التزامات أخرى لا تتعلق بالعمل الطبي البحت كالتزامه بإعلام المريض وتبصيره والحفاظ على السر الطبي، وبذلك فإن التزام الطبيب _ وهو أساسا تقديم العلاج _ خال من الاحتمال باعتبار أنه معروف مسبقا. خاتمة : تبعا لما قيل يمكن التأكيد على أن العقد الطبي ورغم أنه يندرج ضمن طائفة العقود التبادلية المحددة، باعتبار أن هذه الأخيرة هي تلك العقود التي تكون فيها التزامات وحقوق المتعاقدين معينة ومحددة وقت إبرامها وهو حال كل من الطبيب والمريض، إلا أنه _ ومع ذلك _ فإن نتيجته غير معروفة لطرفيه أثناء إبرامه نظرا لقصور العلم في أغلب الحالات عن معرفة خبايا الطبيعة البشرية مما يجعله عقدا ذا طبيعة خاصة.