تحقيق: أسماء وهاجر صفحات حزينة من دفتر الحياة... أجساد أكلتها الشوارع بخطوبها ورزاياها حتى انتهت قبل النهاية لترافق المجهول نحو اللامعنى واللاوجود .هذه باختصار ابجديات نساء وبنات مشردات يعشن في الشوارع وعلى نفايات الشوارع ,يترصدن سكون الحركة ليمددن اجسادهن على أنقاض ما تلفظه النعال فوق خرق بالية بعد يوم مضن إن لم تكن لرواد الشارع من سكارى «وزطالة» و«أصحاب الكيف والنزوات» كلمة أخرى. قد يكون السؤال المفصلي «من المسؤول؟» ليحيلنا بدوره إلى مئات الاسئلة التي تزدحم بلا جواب أو ما الحل لهذه المعضلة لنصل دوما إلى اللاحل؟ وإذا كان «الحاكم وليّ من لا وليّ له» لنا أن نتساءل ان كانت الإجراءات والاستراتيجيات التي يسطرها من يجلس على الكراسي الوثيرة وسط التكييف اتت ولو على نقطة من بحر هذا الملف الحارق. فلم تعد الخطابات الرنانة والوعود البراقشية تكفي للجم الأفواه والأقلام حيث لقصص من يُؤويهنّ الشارع وجهة نظر اخرى حاولت «التونسية» سبر أغوارها بعيدا عن التطبيل والتهليل بالمكاسب والمنجزات. منذ أكثر من 40 سنة في الشارع !!! «سالمة» قيدومة المتشردات قضت أكثر من اربعين سنة في الشارع – بسيدي بوزيد- دون أن تطالها رحمة الاستراتيجيات الموضوعة من اصحاب الشأن في الدولة وهي فتاة يتيمة تربت في قرى الأطفال وعندما غادرتها لم تجد مأوى أو عملا يوفر لها قوت حياتها فحادت عن الطريق السوي وترددت مرارا على السجن -المكان الوحيد الذي تجد فيه لقمة «مضمونة»- حسب قولها وأدمنت شرب الكحول لبؤس وضعها لأنها تعتقد أنها بذلك تنسى معاناتها وعوزها اللذين جعلاها تمل الحياة. «سالمة» قالت إنه لولا قدرة الله التي جعلتها تواصل العيش لما اختارت أن تبقى بين أرصفة الشوارع والذئاب الآدمية التي تنهش لحمها دون شفقة أو رحمة, وتجعلها وعاء لنزواتها متى يحلو لها وأين يحلو لها... في الشارع أو على ضفاف الوادي مقابل ثمن رغيف خبز أو سيجارة مؤكّدة أنّها لم تنعم يوما بالراحة ولا تعلم شيئا عن السعادة ولا أمل لها في هذه الحياة ولم تنم يوما على فراش داخل بيت إلا حين استقبلتها صديقة لها هي الأخرى أنعم عليها اللّه بأسرة أوتها. وتضيف سالمة أنها في لحظة يأس وأمام انسداد الآفاق والسبل أمامها قررت في إحدى المرات وضع حد لحياتها فقامت بذبح نفسها لكن مرة أخرى تشاء الأقدار أن تظل «سالمة» على قيد الحياة حيث تم إسعافها وكتبت لها النجاة معلقة على ذلك بقولها «أعمار الكلاب طويلة» (حاشى بني آدم). وغير بعيد عن واقع «سالمة» امرأة اخرى تلقب ب«راكال» بدورها بدون هوية تبدو وكأنها تقترب من عقدها السادس تجوب احواز المدينة العربي بالعاصمة وما جاورها تعيش منذ اكثر من ثلاثة عقود في الشارع بعد أن كانت معززة مكرمة في بيتها قبل أن تغدر ويسلب منها – حسب ما جمعناه حولها من معلومات- وهي منذ ذلك التاريخ مطلب «زوار الليل» الذين يقضون وطرهم كما يحلو لهم مما تبقى من جسدها دون رأفة ودون خوف من التتبعات «بلا حسابات ولا عقابات» ودون أن يضطروا لدفع المال الى أن اصبحت غير قادرة على الحركة شبه عرجاء .وهي تقضي يومها تحت وقع صفعات البعض حتى يسدل الليل ستاره فتنام على «شكارة» ليتكرر السيناريو في الغد في انتظار أن تشرق الشمس يوما من مغربها . 12 سنة .. جائعة ومريضة قصة أخرى من وحي الشوارع التونسية لطفلة لم يتجاوز عمرها 12سنة جسد غض ملقى على رصيف أحد الأنهج المتاخمة لشارع بورقيبة العاصمة تفصلها خطوات عن وزارة المرأة. توجهنا إليها بعد أن غزت صورتها مواقع التواصل الاجتماعي وهي تنام على الارض تبحث عن بعض الدفء وبعض الراحة. الجميع يمر عليها مرور الكرام ليراها دون أن يراها. كانت كل علامات الوهن والجوع والمرض بادية عليها حاولنا الاقتراب منها والتحدث اليها لكن خوفها حال دون ذلك. وإن كانت قسماتها أجوبة مشفرة فقد كانت كلّ نظراتها وحركاتها ناطقة بالمأساة والعجز بعد أن استنزفت صحتها الإقامة بالشارع. أين والدها... أين عائلتها؟ طفلة موؤودة معنويا لا هوية لها تئن دون أن يستمع إليها أحد ويمرّ بها الناس دون أن يراها أحد وأغلب الظن أنها دون نسب وثمرة علاقة آثمة وعابرة وهي تعاني من أمراض بادية على قسمات وجهها المغشى بالسواد بسبب الأوساخ. ربما أقصى أملها أن تنتشلها أياد رحيمة وتمدها برغيف خبز وكوب ماء قبل أن تلتقطها أيادي عصابات التسوّل والمخدرات. من أمل في الجنة إلى... سعير الشارع «منال» ذات ال22 ربيعا تختزل مأساة كاملة... تلحظ على وجهها معالم التعاسة عندما تنظر اليها كيف لا وقد تهاوى حلمها قبل ان يبتدأ اذ انها كانت تدرس بالباكالوريا طبعا لما روته لنا وكانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمها في الالتحاق بالجامعة غير أنها على سبيل الصدفة تعرّفت على فتاة في عيد ميلاد صديقتها تودّدت إليها كثيرا وأصبحت تتصل بها بشكل دائم وتتردد على منزلها فعاينت ظروفها الاجتماعية الصعبة وعرضت عليها ان تتوسط لها للحصول على عقد عمل بالخارج على أن تواصل دراستها هناك فأعجبت بالفكرة ومكنتها من كل الوثائق اللازمة وبعد شهر سلمتها عقد عمل لتمضيه وأعلمتها أنها ستسافر في ظرف أسبوعين. كانت فرحتها لا توصف فغادرت منزل أهلها خلسة حتى لا يمنعها أي كان من خوض غمار هذه التجربة مجهولة العواقب وعند بلوغها هناك وجدت كهلا في انتظارها نقلها إلى منزله وأعلمها أنها ستعمل لديه معينة منزلية. استظهرت له بصورة من العقد الذي يتضمن أنها ستعمل سكرتيرة بإحدى الشركات فاستهزأ منها وطلب منها استلام عملها ونظرا لخوفها أن تبقى بلا مأوى في بلد لا تعرف فيه أحد اضطرت للقبول وشرعت في العمل ومرّت الأيام الأولى عادية رغم المشاق... لكن بعد فترة لاحظت تصرفات مريبة من مؤجرها الذي كان يستغل خروج زوجته لقضاء بعض الحاجات للتحرش بها فتصدت له مرارا إلا أنه في إحدى المرات هدّدها بالطرد إن لم تستجب له فلم تجد من خيار غير الاستكانة وبعد أن جمعت مبلغا ماليا اقتطعت تذكرة وعادت الى تونس فتوجهت الى منزل عائلتها لكن والدها رفض استقبالها بعد أن فرت من المنزل وعرّضت العائلة إلى القيل والقال جرّاء الاشاعات التي كان يتناقلها الأجوار ورغم أنها سعت الى إقناع والدها بوجهة نظرها وعقد عملها فإنّه لم يشفق لحالها وطردها من المنزل وأمرها بعدم الاتصال نهائيا بالعائلة فغادرت المكان وهي تجر أذيال الخيبة وتوجهت إلى بعض صديقاتها اللّاتي استقبلنها بضعة أيّام لكن لا أحد قبل أن تظل مقيمة لديه فلم تجد من مكان يؤويها إلا الأرصفة ومحطات الحافلات والقطارات التي تنام فيها. وأضافت محدثتنا أنها ذاقت المهانة بأنواعها والمضايقات اليومية من طرف متشرّدين أمثالها ومنحرفين مشيرة إلى أنّ عدّة عصابات تسوّل وترويج مخدرات حاولت استغلالها ولكنها لم تستسلم لذلك لأنه مخالف لقناعاتها ملاحظة أنّها تعرّفت على شاب في عقده الثالث وأعرب عن استعداده للاقتران بها رغم علمه بظروفها الصعبة لكنّها اكتشفت حقيقته لاحقا إذ تبيّن أنه لم يكن يرغب في شخصها وإنما يريد المتاجرة بجسدها وجعلها لقمة سائغة لكل راغب في اللذة فانفصلت عنه وهي الآن تواصل العيش بالشارع الذي يبدوحسب قولها أنّه سيظل ملاذها الأوّل والأخير بقية عمرها. مواطنة من الدرجة الثالثة .... «حلّومة» هي صورة أخرى من معاناة فتيات ونساء بلا مآو... هي امرأة في نهاية عقدها الرابع كانت تعيش في كنف والديها حياة مستقرة لم تنجح في دراستها وتعلمت الخياطة التي تحولت الى مورد رزقها لكن والدتها أصيبت بمرض عضال وكان سنها آنذاك 25 سنة فانكبت على العناية بها وببقية أفراد أسرتها وانقطعت عن العمل وتحمّلت معاناة والدتها بجلد على مدار سنوات الى أن فارقت الحياة فكانت وفاتها منعرجا حاسما في حياة «حلّومة» إذ قرّر والدها الزواج ثانية ثم في مرحلة أخرى أجبرها على التزوج من جليسه في المقهى وهو شيخ ناهز الستين بقيت معه ثلاث سنوات ذاقت خلالها على يديه كلّ أشكال العنف ثم طردها أبناؤه من المنزل ورفض والدها ايواءها ومنذ ذلك التاريخ اصبحت مشردة بلا مأوى تقضي الليل بالشارع دون ان تجد من ينتشلها من الضياع واصيبت بمرض الربو لأنها لا تجد ما تتدثر به غير بعض الاغطية الصوفية البالية التي منت بها عليها بعض القلوب الرحيمة. وأضافت محدثتنا انها يوميا تلاحظ نظرات الازدراء والاحتقار في أعين المارّة بسبب ملابسها البالية وشعرها الأشعث... لا احد تساءل ما الذي جعلها انسانة مشردة ؟ وهل انها تتحمل تبعات ما تعيشه حتى تعامل على أنّها مواطنة من الدرجة الثالثة؟ الرذيلة بدينارين ... قصة «فتحية» لا تختلف عن سابقاتها رغم انها تحفظت عن ذكر كل تفاصيلها متطرّقة لما تعانيه كل ليلة وهي نائمة على الأرصفة وأفادت أنها اكتشفت من خلال تجربتها في الشوارع لسنوات أن هذا العالم مليء بالوحوش وأنه لا يمكن العيش فيه دون تقديم تنازلات أو الالتزام بضوابطه ونواميسه مضيفة أنها جُرّت إلى التدخين وعالم الرذيلة جرّا وأنّ الجوع يضطرها الى ممارسة الجنس مع أي كان بدينارين أو حتى بأقلّ في ركن من الأركان وما أكثرها بالحلفاوين وباب سويقة وتضيف أنها غير مسؤولة عمّا وصلت إليه بل أن المجتمع بأكمله يتحمّل وزرها لأنها لم تجد الإحاطة اللازمة التي تجعلها تشعر بمعنى الاطمئنان ذلك الشعور الذي افتقدته منذ سنوات وحلّ محلّه الرّعب. فهي تخاف ظلمة الليل مضيفة أنّها دائما ما يسكنها هاجس التعرّض الى اعتداء بالعنف الشديد أو طعنة قاتلة من سكير رفضت الاستجابة الى طلبه بعد أن استنزف قواها ثلاثة أو أربعة أشخاص قبله. احتياطي تشريعي كبير لكن .... من الناحية القانونية ورغم الزخم التشريعي الذي يمنح المرأة عدة حقوق ورغم الجوانب الايجابية وخاصة تلك التي تضمنها دستور 27 جانفي 2014، ومن بينها الفصل 46 الذي ينص على أن « تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها، وتضمن تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمّل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات، وتسعى إلى تحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة، وتتخذ التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة » فضلا عمّا ورد بالمجلة الجزائية فإنّ هذه المكتسبات تظل قاصرة على حماية المرأة من العنف والتهميش ومن التشرد الذي يعتبر من أبرز المظاهر التي تعاني منها المرأة لأسباب مختلفة منها الفقر والعنف الزوجي والاغتصاب وغيرها.. والتي لا توجد حلول فعلية على الصعيد القانوني لمقاومتها ما عدا بعض الحلول البديلة للإحاطة الجزئية بهنّ عبر المراكز التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية ومنها مركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بالزهروني ومركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بسوسة وبعض الجمعيات منها جمعية «بيتي» ولكن هذه الحلول تظل قاصرة على احتواء الظاهرة نظرا من ناحية إلى أن هذه المراكز ليست معروفة بالنسبة للكثير من النساء إلى جانب محدودية موارد الجمعيات ويبقى التساؤل مطروح أي حل لهؤلاء النساء يقيهنّ حياة التشرد ومتاهاتها؟ إحصائيات مفزعة حسب احصائية منشورة فإن عدد الذين يعيشون في الشارع 3000 تونسي أغلبهم بالعاصمة والمدن الكبرى 60 بالمائة منهم قادمون من الولايات الداخلية جاءوا ليبحثوا ربما عن لقمة العيش من بينهم 30 بالمائة من النساء مقابل 70 بالمائة من الرجال من مختلف الشرائح العمرية. وفي ظل غياب أرقام حقيقية رسمية حول نسبة النساء المشرّدات، يشير جل المتدخلين في هذا المجال، سواء من الناشطين في المجتمع المدني أو المسؤولين في مراكز وزارة الشؤون الاجتماعية، إلى أنّ عددهن يقدر بالمئات. فجمعية «بيتي» تعكف على متابعة 280 حالة، وتوفر السكن المؤقت للنساء فاقدات السكن في مبيت تصل طاقة استيعابه اليومية إلى 8 نساء فيما تصل طاقة الاستيعاب اليومية لمركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بالزهروني إلى 50 شخصا بمعدل سنوي يتراوح بين 550 و650 حالة بينما تصل طاقة الاستيعاب اليومية لمركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بسوسة إلى 36 شخصا وبمعدل سنوي يتراوح بين 250 و270 حالة. وهي ارقام تبقى قاصرة على تقديم استبيان حقيقي لعدد المشردين والمشردات الذين يتناسل عددهم بطريقة ملفتة للانتباه. لتتعالى أصوات علماء الاجتماع من أجل إعادة الاعتبار لقيمة الأسرة التي تبقى الحصن الأقوى لتطويق هذه الظاهرة. الأسرة من أجل احتواء هذه الظاهرة في المقابل يعتبر علماء الاجتماع ان ظاهرة النساء المشردات وليدة اساسا الوضعية الاقتصادية الهشة للنساء وأنّ أغلبهنّ ينحدر من اوساط فقيرة وانقطعن عن الدراسة مبكرا واضطررن الى القيام بأعمال هشة تدر عليهن مبالغ زهيدة لا تسمح لهن بتوفير اجرة السكن فضلا عن أنّ بعضهنّ لا يجد الإحاطة والرعاية الأسرية اللازمة فانزلقن في متاهات كانت سببا في انسلاخهن عن اسرهن خوفا من الفضيحة وهنا المقصود بطبيعة الحال الامهات العازبات اللاتي يرفض المجتمع منحهن صك التوبة والغفران إضافة إلى شقّْ آخر هربت صاحباته من العنف المادي المسلط عليهن سواء من آبائهن أو من أزواجهن الى سعير الشارع بعد ان بتن عاجزات عن تحمل أوضاعهنّ. وحسب علماء الاجتماع فإن احتواء الظاهرة ممكن وذلك عبر مقاومة الانقطاع المبكر عن التعليم وإعادة الاعتبار للأسرة واعلاء سياسة الحوار داخلها والابتعاد عن ثقافة العنف لأن تكثيف وحدات الإيواء التي توفرها وزارة الشؤون الاجتماعية عاجزة بمفردها على استيعاب هذه الظاهرة.