من الثلاثاء إلى الخميس: انقطاع مياه الشرب في هذه المناطق بالضاحية الجنوبية للعاصمة    الرحيلي: الأمطار الأخيرة أنقذت السدود... لكن المشاكل الهيكلية مستمرة    لدى تلقيه مكالمة هاتفية من السوداني..سعيد يجدد دعم تونس لفلسطين ويدعو لوحدة الموقف العربي    العثور على جثث 13 موظفا من منجم للذهب في بيرو    ترامب يأمر بفرض رسوم بنسبة 100% على الأفلام غير الأمريكية    حصيلة المشاركة التونسية في البطولة العربية لألعاب القوى بالجزائر: 19 ميدالية....    ترتيب لاعبات التنس المحترفات: انس جابر تتراجع..    طقس الاثنين: أمطار بهذه المناطق والحرارة تصل إلى 37 درجة    طقس اليوم: أمطار متفرقة والحرارة في انخفاض طفيف    اليوم.. انطلاق امتحانات "البكالوريا التجريبية"    باكستان تصعد حظرها التجاري ضد الهند    سوريا.. انفجار الوضع في السويداء مجددا.. اشتباكات وقصف ب"الهاون"    بيان للهيئة الوطنية للمحامين حول واقعة تعذيب تلميذ بسجن بنزرت    بوسالم.. فلاحون يطالبون بصيانة و فتح مركز تجميع الحبوب بمنطقة المرجى    معرض تونس الدولي للكتاب: الناشرون العرب يشيدون بثقافة الجمهور التونسي رغم التحديات الاقتصادية    بورصة تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث الأداء بنسبة 10.25 بالمائة    كأس تونس لكرة اليد : الترجي يُقصي الإفريقي ويتأهل للنهائي    الرابطة الثانية (الجولة العاشرة إيابا)    البطولة العربية لألعاب القوى للأكابر والكبريات: 3 ذهبيات جديدة للمشاركة التونسية في اليوم الختامي    الإسناد اليمني لا يتخلّى عن فلسطين ... صاروخ بالستي يشلّ مطار بن غوريون    اليوم آخر أجل لخلاص معلوم الجولان    الأنور المرزوقي ينقل كلمة بودربالة في اجتماع الاتحاد البرلماني العربي .. تنديد بجرائم الاحتلال ودعوة الى تحرّك عربي موحد    وزارة العدل توضّح    رئيس اتحاد الناشرين التونسيين.. إقبال محترم على معرض الكتاب    بوشبكة.. حجز أجهزة إتصال متطورة لدى اجنبي اجتاز الحدود بطريقة غير قانونية    معرض تونس الدولي للكتاب يوضّح بخصوص إلزام الناشرين غير التونسيين بإرجاع الكتب عبر المسالك الديوانية    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 25 و29 درجة    إحباط هجوم بالمتفجرات على حفل ليدي غاغا'المليوني'    قابس.. حوالي 62 ألف رأس غنم لعيد الأضحى    ثنائية مبابي تقود ريال مدريد لمواصلة الضغط على برشلونة المتصدر بالفوز 3-2 على سيلتا فيغو    حجز عملة أجنبية مدلسة بحوزة شخص ببن عروس    الصالون المتوسطي للبناء "ميديبات 2025": فرصة لدعم الشراكة والانفتاح على التكنولوجيات الحديثة والمستدامة    انتفاخ إصبع القدم الكبير...أسباب عديدة وبعضها خطير    هام/ بالأرقام..هذا عدد السيارات التي تم ترويجها في تونس خلال الثلاثي الأول من 2025..    إلى أواخر أفريل 2025: رفع أكثر من 36 ألف مخالفة اقتصادية وحجز 1575 طنا من المواد الغذائية..    الفول الأخضر: لن تتوقّع فوائده    تونس في معرض "سيال" كندا الدولي للإبتكار الغذائي: المنتوجات المحلية تغزو أمريكا الشمالية    إذاعة المنستير تنعى الإذاعي الراحل البُخاري بن صالح    خطير/كانا يعتزمان تهريبها إلى دولة مجاورة: إيقاف امرأة وابنها بحوزتهما أدوية مدعمة..    زلزالان بقوة 5.4 يضربان هذه المنطقة..#خبر_عاجل    هام/ توفر أكثر من 90 ألف خروف لعيد الاضحى بهذه الولاية..    النفيضة: حجز كميات من العلف الفاسد وإصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن    برنامج مباريات اليوم والنقل التلفزي    تنبيه/ انقطاع التيار الكهربائي اليوم بهذه الولايات..#خبر_عاجل    الاطاحة بتلميذين بصدد سرقة الأسلاك النحاسية من مؤسسة تربوية..!    الدورة الاولى لصالون المرضى يومي 16 و17 ماي بقصر المؤتمرات بتونس العاصمة    بطولة فرنسا - باريس يخسر من ستراسبورغ مع استمرار احتفالات تتويجه باللقب    سوسة: الإعلامي البخاري بن صالح في ذمة الله    لبلبة تكشف تفاصيل الحالة الصحية للفنان عادل إمام    كارول سماحة تنعي زوجها بكلمات مؤثرة    هند صبري: ''أخيرا إنتهى شهر أفريل''    قبل عيد الأضحى: وزارة الفلاحة تحذّر من أمراض تهدد الأضاحي وتصدر هذه التوصيات    صُدفة.. اكتشاف أثري خلال أشغال بناء مستشفى بهذه الجهة    تونس: مواطنة أوروبية تعلن إسلامها بمكتب سماحة مفتي الجمهورية    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيف تسلّل الإرهاب إلى تونس... وكيف نواجهه؟
نشر في التونسية يوم 27 - 11 - 2015

(تونس)
كيف تسلل الإرهاب إلى تونس وهل قامت الدولة بالدور المطلوب فعلاً لمقاومته؟ وكيف يمكن التوفيق بين محاربة الإرهاب وبين الحفاظ على حقوق الإنسان؟ وما هي التداعيات المحتلمة لهذه المعركة المصيرية على مسار بناء الديمقراطية في تونس؟ وما مآلاتها على مستقبل الوضع السياسي في ظل التوترات الداخلية والإقليمية؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت موضوع دراسة طويلة أعدّها الأستاذ نورالدين العلوي دكتور في علم الاجتماع وأستاذ بالجامعة التونسية تحت عنوان: «تونس: ثنائية مواجهة الإرهاب والحفاظ على حقوق الإنسان».
التونسية اقتبست من الدراسة الفقرات التالية:
خلخلت الثورة التونسية أركان النظام ففتحت فيه ثغرات تسلل منها الإرهاب فصار واقعًا مؤلمًا ورغم من أن العمليات الأولى حدثت قبل الثورة، فإن الإرهاب الآن حقيقة، ومقاومته شاغل مُحيِّر، ويحاول النظام مواجهة الإرهاب بالقانون لكن هذه الأساليب نفسها ليست محل توافق بين الجميع فالمجتمع يعاني النتائج المدمرة للإرهاب لكنه لا يمنح ثقته المطلقة للنظام في مقاومة الآفة إذ يرى بوادر لوضع حقوق الإنسان في موقع مريب، ويخشى أن يعاد إلى ترتيب الأولويات على غير قاعدة الحرية والحق بحجة مواجهة الإرهاب فيفيق الناس على أن الإرهاب باقٍ ويتمدد، والحريات اندثرت كما كان الأمر تحت حكم بن علي.
في هذه المعضلة/الإشكالية «ثنائية» مواجهة الإرهاب والحفاظ على حقوق الإنسان في تونس «صدر قانون مقاومة الإرهاب أو أعيد إصدار النص القديم معدلا، في اللحظة نفسها بدأ الشارع يطرح أسئلته محاولاً الفهم والمشاركة الفعالة.
بل هو عمل ممنهج له أسباب أصلية تخلقه، وله مسارات تطور ضمن أجندة إرهابية، ومنذ ظهوره يتطور ويغير أساليبه ومواقعه، ويتفاعل مع واقعه ويفرض نفسه على أجندات الدول والأفراد والمنظومات.
وفي سياق تغييرات سياسية بعد الثورة العربية افتُرِضَ أن ظهور الإرهاب هو إحدى الثمرات المرة للسياسات القهرية لما قبل الربيع العربي، وأنه تقدَّم بسرعة بعد الثورة إلى ساحة الفعل السياسي ليفرض أجندته الفكرية والسياسية؛ لكنه في الوقت نفسه وقع (أو وُظِّفَ) لخدمة أجندات غير ثورية؛ بل معادية للتغيير والديمقراطية، بما جعل ظهوره محل تساؤل علمي، وشتت ردود الفعل المجتمعية حوله بين متعاطف معه بصفته فعلً احتجاجي مشروع، وبين مستعمل له وخائف منه دون فهمه.
وقد أدَّت محاولات الاستفادة منه محليًّا إلى توسيع الثغرات التي يتسلل منها إلى المشهد العام في كل قطر عربي لذلك تطرح إشكاليات مقاومته صعوبات كبيرة لفرز الإرهاب الحقيقي الوظيفي، فضلاً عن أن طبيعة عمله السرية تجعل المعلومات حوله وحول توظيفه تتداخل وتشوش الصورة والمواقف، وتوقع في المحذور السياسي فلا أحد يمسك بدقة بالخيط الفاصل بين الإرهاب وتوظيف الإرهاب.
والحالة التونسية في تقديري مثالية لفهم هذه الإشكاليات؛ وذلك بالنظر إلى خصوصية الواقع التونسي الذي نجا بعد الثورة من الثورة المضادة المتسلحة بالعسكر؛ حيث تعطي التجربة التونسية انطباعًا بالتقدم السلمي نحو بناء الديمقراطية الحديثة محافظة على مؤسسات الدولة، فضلاً عن أنها تحظى بتعاطف كبير لنجاتها من الاحتراب الأهلي المدمِّر للكيانات السياسية الهشة.
كيف تسلل الإرهاب إلى تونس؟
الأعمال العسكرية المعادية للدولة وللنظام السياسي ليست جديدة على تونس لكن بعد ظهور الجماعات الإسلامية المسلحة ونعتها بالإرهاب صنفت الأعمال المعادية للدولة إرهابًا، ويمكن أن نذكِّر بعمليتين سابقتين للثورة هما: عملية جربة الموجهة ضد معبد الغريبة اليهودي، ثم عملية سليمان المسلحة، التي تجلى فيها أن المجموعات الإرهابية المنظمة قد وصلت إلى تونس وبدأت بتنفيذ أجندتها.
العمليات الأولى بعد الثورة كانت زمن الحكومة الانتقالية الأولى عملية الروحية (شمال غرب)، وبئر علي (وسط شرق) فضلاً عن عمليات ضبط أسلحة خفيفة ومتفجرات تسرَّبت من ليبيا التي تعيش وضع حرب، واستنتج الجميع حينها أن الإرهاب بصدد التسلح لتنفيذ أجندته الخاصة في حين أن السياق العام كان متجهًا إلى تأسيس تحول ديمقراطي قانوني مدني إذ خرجت تونس من الاعتصام الكبير (القصبة 2 من مارس 2011) بمشروع مجلس تأسيسي، وشرع في التنظم لإنجاح انتخابات تأسيسية؛ بما جعل الإرهاب نغمة خارج السياق الوطني تهدد المسار السلمي للثورة.
لكن تلك النغمة ارتفعت أكثر وبدأت الاغتيالات السياسية المنهجية سنة 2012، ودخل الاضطراب الحقيقي على المسار السلمي إذ ثبت فعلاً أن الإرهاب نظَّم صفوفه في تونس، واتخذ له موقعا، ووجدت المؤسسة العسكرية نفسها في حرب مفتوحة وبلا معلومات مع عدو زئبقي سريع الحركة ومسلح بشكل جيد، ويفكر وينفذ بشكل انتحاري، ثم يضرب في المدن ولا يترك أثرًا، لا تهمه النتيجة المباشرة ولكن يهمه أن يربك الوضع، ويدفع إلى ما عُرف في أدبيات الحركات السلفية الجهادية بخلق «حالة التوحش»، ثم إدارتها، وفرض الأجندات الخاصة لاحقًا.
وطرحت الأسئلة الأساسية في مستويات مختلفة أكاديمية وسياسية وإعلامية: من هم الإرهابيون؟ ومن أين جاؤوا؟ وماذا يريدون؟
استسهل الكثير من السياسيين والإعلاميين المعادين لتيارات الإسلام السياسي القول: إن الإرهابيين هم صنيعة حزب «النهضة» وأنه حرضهم واستعملهم في تهديد خصومه وفرض أجندته السياسية، وبُنيت فرضيات الاغتيال السياسي على هذا التحليل ودفعت التحركات بخلفية مقاومة الإرهاب إلى إسقاط حكومة حزب «النهضة» ومن تحالف معها، وقد غذَّى السلفيون المتشددون هذه الأطروحة من خلال مسيراتهم وخيماتهم الدعوية، وخطابهم الجهادي العنيف.
واتجهت أعمال أخرى إلى محاولة البحث في الأسباب خاصة ما قام به معهد الدراسات الاستراتيجية لفهم البيئة الاجتماعية التي يمكن أن يعشش فيها الإرهاب، وتم اختيار حي سكني فقير بالضواحي العشوائية وقد كشفت الدراسة أن الفقر والتهميش الاجتماعي إذا صادفا خطابًا ثوريًّا يتغنى بالعدالة، ويتحمس لحالة الأمة المهانة يخلقان مزيجًا متفجرًا يخرج على الناس أقوى التعبيرات الاحتجاجية.غير أن البيئة المحلية المصنعة للإرهاب ليست السبب الوحيد، فالمنطقة العربية والإسلامية برمتها تحولت إلى بيئة خلاَّقة للإرهاب، سواء ما كان منه رد فعل على الظلم والقهر المسلط من الأنظمة الفاسدة، أو من دوائر عسكرية غربية.وهنا نفهم ونؤطر القانون المستعاد في تونس لمقاومة الإرهاب ولكن قبل الخوض فيه نحاول توسيع الرؤية إلى السياق الدولي الذي تعيش فيه تونس (من ضمن بلدان أخرى) عملية التصدي للإرهاب المسلح.
السياق الاجتماعي والسياسي الإقليمي والدولي لمقاومة الإرهاب:
ليست تونس فقط منتجة للإرهاب، وليست معنية بمقاومته وحدها، توجد معركة عالمية ضد هذه الظاهرة، وتونس الآن في قلب هذه المعركة لكنها معركة تتشابك فيها المصالح والحسابات المحلية والدولية، وقد لاقت الأطروحة السلفية الجهادية المسلحة صدى في نفوس الكثير من الشباب الذين استجابوا للتحريض الجهادي المكثف، والتحقوا بجبهات القتال، ولم تصل الدراسات بعدُ إلى فهم هذا الحماس التونسي المفرط إلا بتبريره بالقمع الذي مارسه نظام بن علي على الشباب طوال حكمه، وطمس صوت الإسلام المعتدل القادر على إدارة حوار ديني وعقدي مع الشباب المحتج.
لنعد قليلاً إلى السياق الدولي فهو سياق خلاَّق للإرهاب ومحرِّض عليه وجاذب له، تعود بنا الذاكرة هنا إلى مشهد/مقولة: (من لم يكن معي فهو ضدي). مشهد القوة الأمريكية تحرض على الانتقام ل 11 سبتمبر التي صارت مبررًا معقولاً للعالم لكي يرد الفعل حتى أن المراقبين والمتفرجين لم يطرحوا بجدية العلاقة المحتملة بين طالبان أفغانستان وبين الضربة.
قبل ذلك وجهت ضربات جوية بالذريعة نفسها للسودان وسيتكرر الهجوم المتحجج بمقاومة الإرهاب في أماكن أخرى، أي أن هذه الضربات كانت سببًا؟ وأيها كان نتيجة؟ من البادئ ومن المستجيب؟ وما الأسباب الحقيقية لهذا الاشتباك الدموي الذي يستمر منذ أكثر من عشرين سنة، ويتركز خاصة على المنطقة العربية الإسلامية في القلب والأطراف منها؟
أدبيات المتهمين بالإرهاب -التي تقول بشرعية الدفاع عن النفس أمام «الهجمة الطاغوتية الغربية بقيادة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني»، وتصبغ على عملها صبغة «الدفاع عن الإسلام المستهدف من دار الحرب/دار الكفر الغربية»- تتواجه يوميًّا مع تبريرات المهاجمين (الغرب) بأن السلام العالمي مهَدَّدٌ بالإرهاب الإسلامي، وأن ما يقومون به جزء من الدفاع عن هذا السلام وحفظه في العالم ولكن ما يزيد المعركة مع الإرهاب غموضًا (في تحديد الأسباب وفي تعيين وسائل المقاومة) هو وجود ما أُسميه الاستعمال السياسي للإرهاب فكل الجهات تعلن الحرب على الظاهرة ولكنها تعدّ مفهومهًا للإرهاب طبقًا للمصلحة الآنية (ظروف المعركة وأطرافها المشاركة).
هذا التلاعب السياسي الخالي من أية مبادئ يجعل الإرهاب «مفهومًا إسفنجيًّا» مفتوحًا من كل الجهات، ويمكن أن يمتص كل الاختلافات النظرية والسياسية، ولا يمسكها إلا بقدر ما تتوافر فيها مصلحة الممسك بالتعريف. وإذا كان هذا التلاعب مفهومًا وقابلاً للتبرير في قاعدة السياسة الجارية بمنطق ليس هناك علاقات دائمة وإنما مصالح دائمة، وتعدّل العلاقات على المصالح أي البراغماتية السياسية بصيغتها الفَجَّة، فإن النظر إلى مسألة احترام حقوق الإنسان في معركة القضاء على الإرهاب تتعرض إلى اختبار حقيقي ومؤلم.
فهل يمكن هنا الحفاظ على مبدئية النص القانوني الدولي والمحلي/الوطني حول حقوق الإنسان الشاملة، ومبدئية الممارسة على الأرض وسلامتها في سياق براغماتي مصلحي لا يقر بمبدئية دائمة، ولا بعلاقات إنسانية متواصلة مبينة على احترام السيادة الوطنية، واحترام وجود الإنسان في العالم، هذا هو الاختبار الحقيقي لقدرة الدول والمؤسسات على احترام حقوق مواطنيها (ومواطني العالم)؛ ومن هنا يجب النظر إلى المعركة الكونية والمحلية حول حقوق الإنسان، وكيف يمكن فرضها في سياق معاد حيث لا تشذ حالة تعامل الأنظمة العربية عن حالة التعامل الأمريكي والغربي عامة مع الإرهاب فكأنها تطبيقات لهذه البراغماتية (الانتهازية) المستشرية في كل حركة وفي كل فعل.
هل تقوم الدولة فعلاً بمحاربة الإرهاب؟
لقد أعادت تونس إصدار قانون الإرهاب المعدل عن قانون 2003 فجاء القانون الأساسي عدد 26 لسنة 2015 مؤرخًا في 7 أوت 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال من أجل استئناف مقاومة الإرهاب علمًا بأن الكثير من القضايا عولجت على أساس القانون المنسوخ جزئيًّا بعد الثورة في عملية تلاعب بهلوانية على القانون، لكن هل يكفي القانون لذلك؟
إن النص في ذاته استجابة لتحدٍّ حقيقي، ودون الدخول في تشريعات مقارنة أعتقد أن الدول التي تعاني من الظاهرة قد تسلحت بقوانين مماثلة لكن ما هي التداعيات التي قد تنتج عن تطبيق القانون نفسه؟ هنا توجد عقدة التوازن فللإرهاب نتائج لا تعالَج فقط بالقانون ومحاسبة المتورطين فيه بل تتعداه إلى خلق أزمات تحتاج إلى سياسات أعمق من الردع الأمني لمقاومتها.
في اقتصاد هش ويعيش أزمة بنيوية، يجر انهيار قطاع واحد أضرارًا ببقية القطاعات وتتضاعف خاصة أزمات التشغيل، بما يرفع من نسب البطالة الدائمة، وحيث تزدهر البطالة تتضاعف الحاجة إلى التعبير الاحتجاجي، الذي يجد في الخطاب العنيف والمتطرف متنفسًا.
لقد انهار الموسم السياحي في تونس بعد عمليتي باردو وسوسة، وتراجعت مداخليه، ونتج عن ذلك ركود في قطاعات كانت تزدهر بازدهاره؛ منها قطاع الإنتاج الفلاحي؛ فالمنتجات الفلاحية -خاصة التي كانت تذهب إلى تغذية حوالي 3 ملايين سائح ينزلون في تونس صيفًا- ركدت وانهارت أسعارها، وقد نحت الحكومة منحى فئويًّا لتدارك ذلك؛ فعوضت أصحاب النزل في حين تجاهلت القطاع الفلاحي والأضرار التي أصابته، كما تدهورت الأكرية غير السياحية، ولم يغطِّ التعاطف الشعبي الجزائري الفجوة الحاصلة.
فضلاً عن ذلك فقد انهارت التجارة الموازية بعد التشديد على مسارب التهريب المسترابة على الحدود التونسية الليبية خاصة؛ وهي التي تنفس منها الاقتصاد التونسي بتواطؤ من النظام نفسه، لقد كان التهريب والاقتصاد الموازي (اللاشكلي) علاجًا مرًّا ولكنه مفيد فلما تبين أن مسالك التهريب الاقتصادي هي نفسها مسالك التهريب الإرهابي (السلاح والأنفار) تمت السيطرة عليها برقابة عسكرية شديدة، وبخندق عازل دون توفير حلول اقتصادية تشغيلية للمناطق الحدودية، فلم يعزل الخندق (والمنطقة العسكرية العازلة) الإرهابيين فقط بل عزل التجار الصغار أيضًا، وفتح الباب على الفقر والتهميش من جديد.وعلى ذلك فإن التداعيات الاقتصادية ليست الوحيدة التي يمكن نسبتها إلى الإرهاب، فالأصوات التي تطالب بتخفيف الاعتماد على القطاع السياحي كمصدر للتشغيل وجلب النقد الأجنبي، تطالب باستمرار بتعديل منوال التنمية نحو الاستثمار الداخلي، وهنا تتضح المعركة السياسية الحقيقة حول الإرهاب، والاستثمار فيه وسبل مقاومته.
وهكذا يصبح الإرهاب إذا لم يصادف سياسات اجتماعية جذرية مولِّدًا للبيئة الإرهابية، فيتغذى من نفسه ومن السبل الخاطئة لمواجهته، بما يعيدنا إلى السؤال المنهجي: هل يكفي النص القانوني ليعالج الإشكاليات المترتبة عن الإرهاب؟
كيف يمكن التوفيق بين محاربة الإرهاب والحفاظ على حقوق الإنسان؟
من هذه الزاوية سننظر إلى قانون مقاومة الإرهاب الذي صدر أخيرًا في تونس؛ حيث نص القانون على مسائل متعددة بعضها مقبول كمنع غسيل الأموال وحماية الاقتصاد من المال مجهول المصدر (المصادر المافيوزية). لكن القانون خلا من تعريف دقيق للإرهاب وللجريمة الإرهابية؛ بما يطلق يد التأويل القانوني للشرطي أو للقاضي في تكييف الجريمة بين السياقات، خاصة في مجال النشر في الإنترنت، وهنا المعضلة التي طُرحت سابقًا ويعاد طرحها، وستظل بلا إجابة نتيجة الغموض المقصود في تعريف الإرهاب نفسه؛ الذي تمسكت به جميع النصوص المشابهة، وحافظت على إمكانيات تأويله تأويلاً مفتوحًا يسمح بحرية الحركة (والتدخل) للأجهزة الأمنية والسؤال الجوهري يتعلق بالنتائج المحتملة على الديمقراطية عامة وعلى التجربة التونسية الناشئة: هل يمكن الاحتماء من الإرهاب بالوسيلة القانونية وحدها؟ وهل نزيد من قوة الدولة أم نسلح النظام بقانون زجري؟ يرى «قيس سعيد» -المرجع القانوني المعروف- أن ظاهرة الإرهاب تفاقمت، على الرغم من مواصلة العمل بأحكام قانون سنة 2003 المتعلق بمكافحة الإرهاب، معتبرًا أنه قبل البحث عن مقاربة تشريعية جديدة في مكافحة الإرهاب لابُدَّ من البحث عن الأسباب التي تقف وراء تنامي هذه الظاهرة والإخلالات والنقائص الواردة في قانون سنة 2003، وقال: «إن النجاح في مقاومة الإرهاب لا يكون في قطر واحد؛ بل في مساحة جغراسياسية واسعة (إقليم شمال إفريقيا)، وبتنسيق فاعل بين قيادات تؤمن بالهدف نفسه، كما أكد أنه لا نجاح إلا بإرادة سياسية تستمد قوتها من ارتكازها على إرادة شعبية حقيقية...
كيف يمكن مقاومة الإرهاب في مثل هذه البيئة؟
تتجلى هنا معضلة بناء الديمقراطية في واقع هشٍّ ومخترق من قبل فاعلين غير قابلين للتحديد السياسي والقانوني؛ وذلك في لحظة مفصلية في تاريخ بناء الديمقراطية في بلد عربي له موروث سلطاني قمعي؛ أي كيف يمكن التصدي للظاهرة الإرهابية ولظاهرة الاستثمار في الإرهاب في وقت واحد؟
إن الأمر في اعتقادنا يتعلق ببناء الديمقراطية المستقرة والدائمة، وليس فقط بمعالجة الوقائع الظرفية العابرة مهما كانت دوافعها، أي الاستيلاء على موقع من خريطة الفعل السياسي المحلي والدولي، حتى إذا أصاب الإرهاب المجتمع لم ينهر النظام، ولم ينكمش خائفًا؛ إنها معركة بناء نظام سياسي ثابت ومقبول على نطاق واسع.في هذا يجب أن نتعامل مع مسار معقد تختلف فيه مصالح الفاعلين الآنية؛ لكن يجب الوصول بهم جميعًا إلى أن الديمقراطية الثابتة على أسس من القانون؛ وهي الضمانة الحقيقة لتحقيق مصالح الجميع؛ وعليه فإن محاولة الاستفادة السريعة من الاضطرابات التي يخلقها الإرهاب هي في جوهرها تحفيز للإرهاب، واجتلابه للمزيد من التأثير السلبي على مسار بناء الديمقراطية...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.