5 حروب «على المزاج» أمريكا وناصر وكاسترو: صفقة أو القتل في أكتوبر 2003 نشر الكاتب والصحفي المصري الكبير والراحل محمد حسنين هيكل كتابه المعنون «الامبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» وسرعان ما نفذت النسخ المطبوعة في العالم ليتم طبع نسخة أخرى من الكتاب في ديسمبر 2003 أي بعد شهرين فقط من صدور الطبعة الأولى. ولعل ما يلاحظ في هذا الكتاب مقدمته التي اقتصر فيها الكاتب الراحل على جملتين فقط تحملان بعد نظر الرجل وتكشفان رؤيته للأحداث التي ستتشكل في السنوات القادمة في العالم عموما وفي الوطن العربي خصوصا. وقد جاء في المقدمة: «هذه الفصول قصة وقائع سياسية قائمة، وهي في نفس الوقت تشكل أحوال سياسة قادمة». والذي يطالع ما جاء في الكتاب يكتشف ان هيكل كان يدرك أن غزو العراق الذي كان قد تم لم يكن الاّ حربا أولى في المنطقة سعت اليها أمريكا في اطار مخطّط سرّي لبناء شرق أوسط جديد تعيش اليوم المنطقة على ايقاعاته. فما يحدث اليوم بالشرق الأوسط من حروب ودمار ماهو إلا تعبيرة من تعبيرات سيناريو «الفوضى الخلاقة» الذي وضعته الادارات الأمريكية المتعاقبة على مدى ال 40 سنة الفارطة لتأمين سيادة مطلقة لأمريكا على العالم. «التونسية» تنشر مقتطفات مطوّلة من كتاب هيكل المليء بالأحداث والأسرار. في تجربة الإمبراطورية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وفي مصر بالتحديد، تكررت عروض البيع والشراء أكثر من مرة. في العصر الملكي في مصر (سنة1950) رغبت الولاياتالمتحدة في حلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين، وكان أن عرضت على مصر مشروعا لشراء سيناء وتطوين اللاجئين الفلسطينيين فيها، (وكان ذلك العرض على هامش مشروع «كلاب» وهو اسم السياسي الأمريكي الذي كلّف به) ورفض الملك «فاروق». وفي تجربة العصر الجمهوري سنة 1955 حاولت الإمراطورية الأمريكية شراء صلح منفرد بين مصر وإسرائيل بواسطة بعثة قادها «روبرت أندرسون» وزير مالية «أيزنهاور». وكانت الصفقة خطة سرية عرفت وقتها باسم الخطة «ألفا»، وبمقتضاها عرض «أندرسون» تعهّد أمريكا بالمساعدة في بناء السد العالي مقابل قبول مصر بصلح منفرد مع اسرائيل، يكون تمهيدا لصلح عربي شامل بين العرب والدولة اليهودية، وكان ذلك بمقتضى خطة سرية أوسع هي الخطة «أوميغا». ورفض «جمال عبد الناصر» وحدث بعدها في العصر الجمهوري أيضا (سنة 1956) وبعد تأميم قناة السويس أن الولاياتالمتحدة فكرت في حلّ لقضية التأميم، وبعثت وفدا من رؤساء بعض شركات الملاحة الكبرى يحملون عقدا بمبلغ 2 بليون دولار نظير الحق في إدارة قناة السويس، ووصل الوفد إلى مصر فعلا وطلب أعضاؤه مقابلة رئيس الجمهورية الذي حولهم الى نائبة وقتها السيد «عبد اللطيف البغدادي». وفوجيء «الغدادي» بالعرض مكتوبا ينتظر التوقيع، وأبدى دهشته، ورفض العرض حتى دون أن يعود في شأنه إلى «جمال عبد الناصر» (الذي أقرّه على ما تصرف به). وفي وثائق مجلس الأمن القومي الأمريكي سنة 1958 سلسلة محاضر عن اجتماعات هذا المجلس طوال شهر أوت من تلك السنة التي تمت فيها وحدة مصر وسوريا (فيفري 1958) وقامت فيها الثورة ضد النظام الملكي في العراق (جويلية 1958) ويتضح من هذه المحاضر أن الرئيس «أيزنهاور» راح يطرح سؤالا واحدا على مجلس الأمن القومي، ثم يعود إليه كل جلسة، مستفسرا: «هل ناصر (يقصد «جمال عبد الناصر») رجل المستقبل في الشرق الأوسط؟». ثم يضيف: «إذا كان كذلك فلابد أن نعقد صفقة معه». لكن الصفقة كانت مستحيلة لأن «جمال عبد الناصر» كان لديه مشروع مختلف وكذلك وهو ظاهر في الوثائق فإن الرئيس «أيزنهاور» أعطى توجيها لرئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (آلان دالاس وقتها) باغتيال زعيمين: أحدهما هو «جمال عبد الناصر»، والثاني هو «فيدل كاسترو»، أولهما يهدد المصالح الأمريكية في شرق الأوسط، والثاني يعطى مثلا سيئا لبلدان أمريكا اللاّتينية. وفي جانب منها فإن الصفقة الأمريكية كانت خيارا بين واحد من اثنين: «يقبل الآخرون بما نعرضه أو نقتلهم عندما نقرر». وفي تجربة أخيرة يذكرها الصحفي الأمريكي الأشهر «بوب وودوارد» في كتابه عن الصراع الخفي في الإدارة الأمريكية بين معسكر نائب الرئيس «ديك تشينى» ومعسكر وزير الخارجية «كولين باول» واقعة تستحق الالتفات، لأنها تؤكد مرة أخرى منطق البيع والشراء في ممارسات الإمبراطورية الأمريكية، وكذلك يكشف «وودوارد» أن وكالة المخابرات الأمريكية قامت بتوزيع مبلغ سبعين مليون دولار على زعماء القبائل الأفغانية قبل بدء عمليات التدخل الأمريكي في أفغانستان وقد حمل مندوبون عن هذه الوكالة أموالها في حقائب تمتليء كل واحدة منها بثلاثة ملايين دولار نقدا، وتسلّقوا الجبال إلى مقرّات الزعماء القبليين وتعاهدوا وتعاقدوا ودفعوا، وبرغم الصفقة فقد دارت ساقية الدم الأفغاني لتوفير الدم الأمريكي!. يتصل بسياسة توفير الدم الأمريكي أن حروب الإمبراطورية «المفرطة» تبدأ دائما بتمهيد مروع، بطيران عالي الكفاءة، مخيف في قوة نيرانه وفي العادة ضد عدوّ ضعيف ومكشوف، وهذا النوع من قوة النيران لا يكلف غير ثمن الوقود والذخيرة، فهو أرخص أنواع الحروب على المهاجم وأغلاها على المستهدف به. والمعنى أنه إذا كان الدم الأمريكي هو السلعة النادرة التي تساوي الحرص عليها، فإن حياة الآخرين رجالا ونساء وأطفالا لا تهمّ، وكذلك لا تهمّ مرافقهم ومنشآتهم الحيوية، ومدنهم الكبرى ومواقع الحياة عليها. ومنطق صفقات البيع والشراء يعبّر عن نفسه متناسبا مع السوق وفيه إبداء الغضب مبررا في بعض الأحيان، وفيه ادعاء الغضب دون تبرير ليكون جواب الآخرين عليه باتقاء شره، وانتظار أن يهرع الآخرون خفاقا إلى استرضاء الآلهة المستاءة من نكران الجميل! وفي مثل هذه الأحوال لا يكون أمام بقية الأطراف في العالم غير أحد مخرجين: إما الإذعان لما هو مطلوب منهم لنيل الرضا، حتى وإن اضطروا إلى تسخير قوتهم وثروتهم مياههم وبحارهم فكرهم وجهدهم بحيث تكون كلها في خدمة أي قرار أمريكي بلا مراجعة أو مساءلة. وإما التردد أو التلكؤ في الإذعان وعندها فإن الولاياتالمتحدة تعطي نفسها حق التصرف منفردة، ومن ثم ترتب لنفسها سلطات تحدد هي حجمها ومداها بقرار منفرد بغير شريك: فمن حقها أن ترد العدوان بمثله (وهو معقول) ومن حقها أن تضرب مصادر التهديد (حسب تقديرها وحدها) ومن حقها أن تردع نوايا الأعداء إذا لمحت نوايا العدوان، ولو تعبيرات على الوجوه (وتلك مسألة معقدة). وأخيرا فمن حقها أن تختار آخرين تضربهم لكي تؤدب غيرهم، ومعنى ذلك أنها حروب «على المزاج» والضحية هي الجبهات الأسهل غالبا حتى تتمّ استعراضات العقاب، وترى الجبهات الأصعب وتتّعظ بغير تكاليف أو مصاريف! وعلى سبيل المثال فإن الدولة الأمريكية التي قامت عليها الإمراطورية الأمريكية لم تكن على وفاق مع فكرة الحدود والسيادة على إقليم معين، لأن هذه الدولة لم تنشأ في إطار دستوري وقانوني له مساحته المعترف بها وعلى القواعد التي أقرتها التجارب لفي نشأة الدول وتأسيسها، والسبب أن حدود الدولة الأمريكية ظلت مفتوحة تتوسع كل يوم بمختلف الطرق والأساليب حتى أن بعض ولايات الاتحاد جرى شراؤها مثل «نيومكسيكو» ومثل «لويزيانا»، وكلاهما عمق الجنوب الأمريكي وأغنى بقاعة. ونتج عن ذلك أن مفهوم السيادة على اقليم له حدود مرسومة اكتسب سيولة لم تعرفها التجارب من قبل. ففي الظرف الأمريكي وقع استبدال مبدإ السيادة الثابتة بمطلب الاتساع المستمر، وكان الاتساع الأمريكي معتمدا بالدرجة الأولى على الأمن يوفره محيطان: الأطلسي يحميه إلى درجة العزل الوقائي عن أروبا في الغرب، والهادىء يعزله بنفس الطريقة عن آسيا في الشرق. وبالطبع فإنه اعتمادا على عزلة المحيطين الواسعين ظلّت لولايات المتحدة طوال تمدّدها القاري بعيدة عن أي خطر مباشر على أرضها وسكانها، وفي حين أن عواصم أوروبا من «لندن» إلى «باريس» إلى «برلين» إلى «موسكو» تعرضت للدمار والغزو، فإن «واشنطن»و«نيويورك» و «لوس أنجلوس» و«سان فرانسسكو» بقيت في الحفظ والصون، وكانت القاعدة أن الولاياتالمتحدة تذهب إلى الحرب خارج أمريكا لكن الحرب نفسها لا تذهب إلى أمريكا. (ولعله من هنا يمكن تقدير حجم العصبية الأمريكية التي قاربت درجة الهستيريا بعد 11 سبتمبر 2001، فقد كانت تلك أول مرة يتعرض فيها قلب الإمبراطورية (مقرّ الشركة) للحريق، وتصيبه داخل بيته مفاجأة الدمار في وضح النهار !).