بقلم: شكري بن عيسى (*) لم يكن لديّ أدنى شك بأن "الحوار" كان تحت الطلب، وتمت برمجته بالتنسيق مع ممثل القصبة وقرطاج بهضبة التلفزة المنتدب الجديد الياس الغربي، وتم تحديد محاوره مسبقا وفرضها على المنشطين الذين كانوا مجرد "سائلين" لا غير، وحصروا الحوار (الحديث) في ما سماه بن عكاشة في ديباجته "وجود رؤية للخروج من الازمة الاقتصادية" و"الجانب السياسي حول ترؤس نداء تونس" وبين ذلك قضايا "النمو" و"الفساد" و"التهرب الضريبي"، ومع ذلك تابعت ساعة كاملة من الكلام المسجل لتفكيك خلفية هذا اللاحدث الذي أختير له توقيتا دقيقا لأسباب كانت مفضوحة. والامر يطرح فعلا التساؤل والانشغال العميق حول مستقبل الاعلام العمومي الذي يبدو انه وقع في يد الحكومة، ولا يمكن ان تصح عليه مستقبلا الا كلمة "الاعلام الحكومي" ويمكن اضافة "الاعلام الرئاسي" بالتناوب، حسب انتشار الاحداث وحسب حاجيات كل جهاز، ويبدو ان مستوجبات الاستقلالية والحياد وحرية التعبير والتعددية الفكرية والسياسية ستصيبها انتكاسة كبرى، خاصة والجميع وقف على التعيين المثير للجدل للغربي (بسيرة ذاتية اكاديمية وبحثية ومهنية متواضعة) الذي اعتبره الكثيرون "جائزة فورية"، على خلفية المشاركة في "تمرميد" الصيد وعزله والمجيء بالشاهد. كان التساؤل بالتوازي حول حضور الاذاعة الخاصة "موزاييك" دون غيرها، ولكن الامر اتضح في نهاية الحوار بسلسلة من الاسئلة "الابداعية" وجهها ممثلها في نهاية "الحوار" للشاهد، فسّرت بامتياز "الاختيار" الذي لم يكن اعتباطيا وكان بالفعل "ناجحا" بشكل كبير، وكان لا بد حقيقة من "التصفيق" لعودة "الدر لمعدنه" ورجوع الاعلام لبيت الطاعة، والامر كان في غاية الحبك واعلام الطاعة يعود اليوم ولكن بطريقة مقنّعة يصعب على المتتبع العادي ادراك خيوطها الدقيقة. التوقيت كان مختارا بعناية فائقة مباشرة بعد المنجزات النسبية التي تم تحقيقها في قفصة وفرنانة وقرقنة، حتى يتم استثمارها على اعلى مستوى، وحتى تكون "البيئة" الحاضنة ل"الحوار" مناسبة جدا ويكون منسوب التفاؤل عاليا وتمرير الرسائل واسع التاثير (وهو ما يبرر اتجاهنا حول "طلبية" الحوار)، وداس الحقيقة على الاخفاقات المسجلة في المستوى الامني والصحي في هجوم القصرين، وبعد فاجعة خمودة الاليمة في مستوى ردة الفعل والجانب الصحي، وبقية الحوادث المتعددة وحالة انسداد قنوات تصريف الامطار اخر الاسبوع المنقضي التي اظهرت عجزا جليا للدولة في التخطيط وايضا في التعامل مع الطوراىء، والسؤال في الصدد تم الدوس عليه كلية ومع ذلك لم يقع اعادة اثارته. وتم "افساح المجال" لرئيس الحكومة ليتحدث وفق أجندته، ويسترسل بسردياته الطويلة في تقديم ما برأسه، حول "اجراءات" تعصير الطرقات التي ستنطلق في نوفمبر بكلفة 200 مليار ستشمل 3 بلديات من كل ولاية، والماء الصالح للشراب الذي سيتم توفيره باعتمادات تقدر ايضا بنفس المبلغ عبر تقنية تحلية المياه المالحة من البحر او الجوفية لمواجهة النقص الفادح، وحول السكن الاجتماعي باتمام قرابة 3000 مسكن هذا العام ومضافعة الرقم السنة القادمة، وحول توفير الدولة "التمويل الذاتي" وفق شروط محددة لما سمي "السكن الاول" لاصناف محددة من العائلات حتى تتمكن من الحصول على مسكن، وحول النظافة فيما يتعلق بشراء معدات بكلفة 50 مليار وانتهاج الردع بانشاء "شرطة بيئية" وبعث سبعة (7) مراكز تحويل. الشاهد الذي اراد ان يكون واثقا وقويا اثر "الشحوب" الذي صبغ ظهوره، ومثل كسرا بعد الظهور الاستعراضي في جلسة منح الثقة، ركّز في تدخلاته المسترسلة على "استعادة الثقة" بعودة الامن وتكريس الشعور بالعدل باحترام القانون وارساء التنمية لخلق الثروة والتشغيل ومكافحة الفساد، وكعادته غرق في نهجه الوعظي ب"ضرورة تظافر الجهود" و"تقاسم المسؤوليات"، وقدم بعض "البشائر" في السياحة بعودة croisière وفك الحظر من اسبانيا على مواطنيها للتوجه لتونس، وركّز على "مؤتمر الاستثمار" وقانون الاستثمار ومشروع قانون الطوارىء الاقتصادية، واسهب في "حكاية" تقاسم الاعباء والنظام الضريبي الجديد المثير للجدل الذي سيضرب القدرة الشرائية للطبقات الوسطى (التي اصبحت فقيرة الحقيقة) ولن يمر على الاغلب من اتحاد الشغل، خصوصا بعد اقتراحه تجميد الأجور على مدى 2017 و2018، وحتى من الاعراف بعد اقتراح الزيادة في الضريبة ب7,5%. ساكن القصبة بدا هلاميا في عديد الامور ومنها استعادة نسق اعلى من النمو، وبدا فضفاضا في نسبة النمو المخطط لها السنة القادمة واعلن عن رقم 3% ثم اردف ان الامر سيكون على مدى ثلاث سنوات، كما انه لم يحدد كيف سيُصَار بالتحديد الى تحقيق عملية الاستحثاث واكتفى بكلام عام حول "منوال تنمية جديد" وخلق 5 صناديق تمويل للمشاريع الصغرى ب250 مليار لتمويل مشاريع تتراوح بين 5 و25 الف دينار، واللعب على "محركات التنمية" خصوصا منها "الاستثمار" و"المبادرة الخاصة" و"التصدير" عبر استمرار اعفاء الشركات المصدرة كليا دون بيان ذلك في رؤية متناسقة ومن خلال مبررات صلبة. وظهر في النهاية برغم "ضبطه" المسبق لمجال الاسئلة، وتحضيره الاجوبة والمشروع المسوّق وارتباط الامر ب"موسم" ختم مشروع قانون المالية الذي يحتوي هذه القضايا، مقدما لحلول "موضعية" في اغلبها لاشكاليات مشتتة دون رابط وتشابك بين العناصر في اطار فلسفة ورؤية شمولية بافق عالي، وخاصة عملية "رسكلة" عقود SIVP في صيغة جديدة، اسماها "عقد شغل الكرامة" بأجرة 600 دينار تتكفل الدولة منها ب 400 دينار على امتداد سنتين، مستدركا ان الامر يستهدف فقط 25 الف من جملة مئات الاف اصحاب الشهائد، وكان مشابها لمقدم حلول ال "bricolage"، المهم ان يتم "تسكين" الاوجاع. ولكن ما شد الانتباه بغرابة هو جزمه بانه "يلزم رموز الفساد يشدوا الحبس" وتأكيده بأن "رؤوسا كبرى ستسقط" في الصدد، بعد ان اعطى تعليمات حاسمة لوزيري العدل والداخلية في الصدد، متجاهلا الاتهامات المتلاحقة المتصاعدة حول اختراق اغلب رموز الفساد لحزبه، وتمويلاتهم لحملاته الانتخابية، ومتجاهلا ايضا مشروع قانون المصالحة الهادف لتبييض الفاسدين الذي لا يزال يتمسك به "وليّ النعمة" السبسي. وتبقى "حزمة" الاسئلة "البارعة" التي ختم بها "المُستجْلَب" خصيصا من "موزاييك" غاية في "المهنية" و"الابداع"، وكان حقا "احسن" دليل على واقع الاعلام المستقبلي، اذ بعد سؤال تبريري لضعف الأداء في منطلق الحوار بأن الشاهد انطلق مباشرة بحكومته ب"اطفاء الحرائق"، كانت "القفلة" غاية في "الروعة" بأسئلة: "شنوة الحلم اللي تحلم بيه".. و"شنوة الرسالة اللي حبيت توجهها كيف قابلت معلمتك".. وعن "تسليم المشعل لمجموعة الشباب التي تحيط بك".. و"هل ستقبل (متناسيا الاعتراضات العنيفة والشرسة من كثير من الاطراف الندائية) لتكون رئيس الهيئة السياسية لنداء تونس"...!!! (*) قانوني وناشط حقوقي