الناصر الرقيق رحم الله زمانا كان الواحد منّا لا يقدر على رفع ربع رموش عينه في مواجهة أستاذه ليس في القسم بل في الشارع و رحم الله زمانا كان الأستاذ حين يطلّ من باب المعهد ترتعد فرائصنا و تنقبض أنفاسنا حتى تكاد الروح أن تغادر البدن و رحم الله زمانا كان فيه للأستاذ هيبته أمام تلاميذه و أمام المجتمع كلّه و رحم الله زمانا كان التعليم مطمحا و حلما لجميع التلاميذ حتى أنه حين كان أحدنا يسأل و نحن صغار " آش تحب تولّي كيف تكبر " يجيب دون تردد " نحب نطلع أستاذ " و رحم الله زمانا كان الأستاذ يقدّم فيه دون حساب فكانت دروس التدارك تقدّم مجانا رغم الحاجة الماسة للمال في ذاك الوقت و رحم الله زمانا كان الأستاذ تتخرّج على يديه أجيالا صالحة تنفع الوطن و المواطن فتحيّة من أعماق القلب لأساتذة الأيام الخوالي الذين تحمّلوا المشاق و الصعاب في سبيل تنوير العقول و محاربة الجهل لكن اليوم تغيّر الوضع نحو الرداءة في جميع المستويات حتى أصبحنا كلّما نشاهد واقع التعليم نكاد نقيم عليه و على ممتهنيه مأتما و عويلا...! فأساتذة اليوم للأسف الشديد و بإسثناء القليل منهم أصبحوا لا همّ لهم إلا المال فقد أصبحنا نراهم خاصّة بعد الثورة - التي من المفترض أنها قامت لتشغيل العاطلين المعطلين البطّالة منذ أمد بعيد - يشنون الإضراب تلو الإضراب و يجمعون لذلك جميع الحجج و البراهين حتى يقنعوا الرأي العام بوجاهة ما قاموا به و أنه حقهم المشروع في أن يحصلوا على زيادة أخرى تنضاف لرواتبهم غير تلك الزيادة التي حصلوا عليها خلال إضرابهم الماضي و غير تلك الزيادة التي كانوا تمكنوا من الحصول عليها قبل ذلك كما أنه من حقهم المطالبة بتخفيض ساعات العمل لأنهم يعملون كثيرا و يمضون الأيام و الليالي في العمل مما يؤثر على مردودهم و هو ما يحتّم حصولهم أيضا على منحة العمل الشاقّ غير تلك المنح التي جنوها سابقا ثمّ و بعد كل هذا نجد في المحصّلة الأخيرة أن أكثر من نصف تلاميذنا يتعاطون المواد المخدرة...! كان يجب على الأساتذة بدل أن يضربوا من أجل مطالب مادية و هم المرفّهة أوضاعهم مقارنة بعموم الشعب الكادح أن ينكبوا لتدارس واقع التعليم و أسباب إنحسار دور المربي في تنشئة أجيال قويمة السلوك، سليمة التفكير فما نشاهده من إنهيار للمنظومة القيميّة و الأخلاقية و تدني مستويات التعليم ينذر بكارثة حقيقة ستحلّ علينا نظرا لإنغماس أساتذتنا المكرّمين في المطالب المادية التي لا قيمة لها أمام الرسالة العظيمة التي يحملونها و التي كان من الواجب عليهم إحترام قدسيتها خاصّة في هذا الظرف العصيب الذي تمرّ به تونس لأن الحقيقة التي يجب أن تقال أن صورة الأستاذ لم تعد لدى تلميذ اليوم كما كانت عليه في الماضي و الأسباب لذلك عديدة لكن أهمّها ما ساهم فيه و يساهم الأستاذ نفسه حيث أصبحنا نشاهد أساتذة بطريقة تفكير و بثقافة و مظاهر معينة لا تمت للتعليم بصلة و إذا ما أضفنا على ذلك كثرة الإضرابات و ظهور الأساتذة بمظهر غير مسؤول تجاه سواء تجاه تلاميذهم أو تجاه الوطن فإن كل سيساهم في تعميق الهوة و رسم صورة سيئة عن التعليم. أعتقد أن كثيرا من البطّالة الذين كانوا وقودا و حطبا لهذه الثورة لو يعود بهم الزمن قليلا إلى الوراء و هم يشاهدون اليوم هذه اللوحة السيئة الإخراج لفكروا ألف مرّة قبل الخروج للتظاهر لأنه من غير المعقول أن تقوم الثورة لتنصف المظلومين فنجدها أو بالأحرى نجد المنطق المعكوس للثورة المضادة التي ليس من تجلياتها فقط الإنقلاب على السلطة الشرعية بل أيضا الإنقلاب على المطالب الشرعية لهذا الشعب المسكين لأنه حين نجد من يطالب بالزيادة في راتبه بأكثر من مائة و خمسين دينار ( التي هي راتب شهري لشخص يعمل بالحضائر ) و هو الذي يتقاضي الألف دينار شهريا و لا يفكّر في غيره فهذه في إعتقادي نوع من أنواع الإلتفاف على الثورة و محاولة لإجهاضها بهذا المنطق الأناني و الغريب بعد كلّ هذا تجد هؤلاء يلومون العاطل عن العمل لماذا يحتج أو لماذا يقوم بغلق طريق أو منشأة عمومية و تراهم يغرقون في التحليل و التنظير في المقاهي لتنتهي الجلسة بذاك الجمع كل نحو بنكه لسحب الراتب و العودة محملا بشتى أنواع البضائع فهنيئا مريئا لجميع أساتذتنا الجهابذة العظام الذين قتل منهم العشرات و جرح منهم المئات خلال أحداث الثورة و الذين هم يجتهدون صباحا مساءا ليخرجوا لنا جيل مدمن...!