وأخيرا انكشف المستور، وأعلنت صحافتنا الماجدة، عن الجهة التي حيرت المخلوع آخر أيام حياته، ونزعت القناع عمن وصفهم بالمُقنّعين. أخيرا عرفنا "س" ثورات الربيع العربي التي أنهت عصر الدكتاتوريات، في مصر كما كشف "الصندوق الأسود لعمر سليمان" حين اعتبر أن حماس خططت بالتعاون مع الإخوان المسلمين لإسقاط مبارك، وشباب الإخوان بالتعاون مع حماس قد يكون هو من أطلق النار على ميدان التحرير، ومن قام بموقعة "الجمل" ومن داس المتظاهرين أمام الكاميرات بعربات الشرطة. وفي تونس نفس السيناريو تقريبا تحدث "الصندوق الأسود لبن علي" في الطور الاستئنافي من المحكمة العسكرية عن تسلل عناصر أجنبيه أثناء الثورة - أمام دهشة الجميع وتساؤلهم عن صمته منذ بداية المحاكمة والسبب الذي دفعه لتقديم تلك الرواية في ذلك التوقيت وبعد مرور سنتين على هروب المخلوع- ، ليدخل الاعلام على الخط ويكشف لنا الذين قنصوا شهداء القصرين. هم ليسوا من الأمن ولا حتى من المجموعة التي تنتمي إلى جنسيات أوربية مختلفة التي القي عليها القبض في شارع مختار عطية على مستوى دار الثقافة ابن رشيق بالقرب من مقر الحزب الديمقراطي التقدمي سابقا، بل من تنظيم القاعدة وقد يكونون على صلة " بإرهابيي النهضة" بالطبع!! أخيرا تبين أن الذين أثاروا البلاد وأزعجوا المخلوع في أواخر أيام حياته، السياسية، وحرقوا المراكز الأمنية، واستهدفوا المقار الرسمية، هم من تنظيم القاعدة. هذا ما جاء في إحدى الصحف اليومية التونسية، بالبنط العريض وفي صفحتها الأولى، "متوعدة" بكشف المزيد. ونفس هذه الصحيفة ذكرت منذ فترة أنّ السلطات الجزائرية تمكنت من رصد كمال القضقاضي وألقت القبض عليه وسلمته لتونس قبل 6 أيام من نشر المقال، وأنّ السلطات الأمنية لم تعلم قاضي التحقيق بذلك. وأضافت الصحيفة أنّ هناك مخاوف من تصفيته (القضقاضي) جسديا لأنّه قد يكشف عن تورط شخصيات سياسية وحزبية في الجريمة. الصحيفة التي حاولت "التعمية" على ما جرى خلال أحداث سليمان وادعت أن المواجهات التي كانت جارية هناك، والتي سمع أزيز رصاصها في حمام الأنف ورادس وبومهل، مجرد مناوشات بين تجار مخدرات ورجال الأمن، دعمت مصداقية إعلامنا، الذي بات مختصا في التسريبات الأمنية، وبات يصدر منتجات عبقريته التي مكنت صحفيا من اكتشاف "ضابط مخابرات جزائري" ينشط في تونس متخفيا في زي واحد من مليوني سائح جزائري يزورون تونس سنويا!! لقد تجاذبتني وأنا أقرأ الخبر صباح يوم أمس مشاعر متناقضة تراوح بين الضحك من سخافة ما أقرأ، والبكاء على الوضع الذي تردى إليه الإعلام في بلدنا مهد ثورات الربيع العربي. فهل إلى هذه الدرجة انحدر مستوى صحفيينا؟ أ إلى هذه الدرجة يمكن أن يصل التحيز ببعض وسائل إعلامنا؟ هل الى هذه الدرجة يمكن أن تبلغ بنا الخصومة السياسية؟ أ إلى هذه الدرجة يبلغ بنا التلاعب بالمصالح العليا لبلادنا، وبأمننا القومي ومستقبلنا ومستقبل أبنائنا؟ طرحتُ العديد من الاسئلة، ووضعت العديد من فرضيات الاجابة، وكانت نتائج بعض الفرضيات لو صحت مرعبة لنا كتونسيين. وهي حقائق كنت أشرت إليها في العديد من الافتتاحيات على صفحات الضمير، ومحصلتها أن البعض لن يتوانى عن حرق البلاد بما فيها، مثلما فعلت الكاهنة يوما ما من أجل فرض فشل تجربة طرف سياسي في الحكم. ما يحدث في تونس ومصر تحت ستار "فوضى الإعلام" لا يمكن أن يكون عفويا، والتزامن الغريب يدل على وجود "يد خفية" تقود الثورة المضادة في العالم العربي، وتنشط في إطار لعبة أجهزة أو لوبيات مال وسياسة أو أجندة تلتقي فيها مصالح المتضررين من سقوط الدكتاتوريات برابط أيديولوجي واه. أمراء السياسية، من قادة لبعض أشباه الأحزاب، وهم يدعون إلى التدخل الفرنسي في بلادنا، أو يستدرجون الجزائر للتدخل في تونس يعلنون بصراحة عن فشل كل محاولاتهم لإجهاض الثورة، ولجوئهم إلى الورقة الاخيرة وهي محاولة إشعال فتنة وحرب أهلية بين أفراد الشعب الواحد. وإلاّ كيف نفهم نشر مثل هذه الأخبار وفي الوقت الذي تشهد فيه ولاية القصربين بالتحديد، مواجهات عنيفة مع بعض العناصر المتطرفة، بالإدعاء بأن القاعدة وراء قنص شهداء القصرين، بالتحديد، وليس شهداء المناطق الأخرى؟ وما المراد من ذلك؟ هل يراد للمحاكمات الجارية الآن والتي يتابع فيها المتهمون بقتل شهداء الثورة، والموثقة بالشهود وأولهم عائلات الشهداء، هل يراد لها أن تتوقف؟ هل يراد من عائلات الشهداء أن يتحولوا إلى منطقة القصرين للثأر لأبنائهم؟ إن الشعب التونسي الذي لم ينتقم من جلاديه الذين نكلوا به طوال عشرات السنين، وهو ما خلف عشرات الشهداء في السجون والمخافر الامنية، أذكى من أن يقع في الحبال الشيطانية، لبعض صناع الفتن في بلادنا، ولن يتورط في مخططات تقسيم وتدمير البلاد التي يتمناها البعض، حتى يتجنب المحاسبة. الخشية كبيرة من أن تكون بعض المخططات التي تدبر لبلادنا أخطر وأخبث من ذلك بكثير، وأشبه بتجربة مجموعة "ايرجينيكون" التي اتهم أعضاؤها بتنظيم انقلاب، بعد وصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم في تركيا، وأوقف خلالها نحو 400 شخص، منهم سياسيون وصحفيون ومحامون ... لعل في هذه التجربة ما يدفع أكثر الى الحذر. ... سؤال آخر طرحته على نفسي وأنا أتطلع على تلك "التقارير" وهو التالي: هل يعتقد أصحاب تلك المقالات، والصحف أن ما يوردونه من "خبال" على أنه مقالات، وعلى أنه سبق صحفي، واكتشافات غير مسبوقة، يمكن أن يصدقها النّاس؟ الإجابة واضحة وقطعية: لا طبعا؟ فلماذا إذن الإصرار على الكذب وعلى الدفع بمثل هذه النوعية من التقارير؟ .. هل هي فقط الإثارة الإعلامية، ومحاولة جلب أكبر عدد من القراء؟ هل هي خدمة مدفوعة الأجر؟ أم هو تمهيد، لما هو أخطر؟ هل يمكن أن تكون هذه المقالات لافتعال أعمال ضد هذه المؤسسات الصحفية، والصاقها ببعض الأطراف؟ سؤال أخير أين نقابة الصحفيين التونسيين من هذا العمل غير المهني وهذا التحريض؟ بل أين ذكاء أصحاب هذه المؤسسات التي لم تعد تنجح في إخفاء تناقضاتها ومنها من تورط في الحملة الشرسة على قطر واحتلالها لتونس، لتتصدر الإعلانات القطرية واجهة صحفه. هل المال القطري حلال عندما يكون إشهار للمؤسسات الإعلامية الخاصة وحرام عندما يذهب لخزينة الدولة أو للنسيج الجمعياتي الوطني؟ إننا نجدد احترامنا لكل المؤسسات الصحفية ولسنا من دعاة التمييز أو الشيطنة أو الدعوات الثورجية، ولكننا لا نستطيع الصمت حيال سلوك لا علاقة له بالمهنية - وهذا لا يعني أننا في موقع من يعطي دروسا في المهنية فلنا أخطاؤنا وعثراتنا واجتهاداتنا التي تخرج أحيانا عن الموضوعية- وهو يذكرنا للأسف وكلما حاولنا نسيان ذلك بأن بعض من يعمل الآن بوضوح ضد النهضة والترويكا عموما بمنطق التحريض والتضخيم، كان يعمل بمنطق التعتيم والتشهير مع النظام السابق وضد خصومه. هل هو الحنين إلى الماضي؟ هل هو التحالف المتواصل بين الإعلام ومن يريد إعادة النظام السابق؟ نؤكد أننا نحترم زملاءنا وإن أخطؤوا، وننقدهم ونحن نؤمن بأنهم شركاء في تونس ولا يحق لاحد أن يمنّ عليهم بهذه الشراكة، ولكن ندعوهم إلى أن يراعوا هذه الشراكة، لأن أي ضرر يلحق ببلادنا لن يكون فيه أي نفع لمن انخرطوا اليوم بوعي أو بغير وعي في لعبة قذرة شريرة لا تريد طرد النهضة أو الإخوان من السلطة بل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى عصر الدكتاتوريات التي لفظتها الشعوب، وستلفظ كل من يحاول إحيائها من جديد.