خلال شهر جانفي 2011 وفي حين كانت الطبقة السياسية الوطنية في تونس تبحث عن بدائل وطرق للتعامل مع المستجدات في الشارع الذي كان يطالب بالتغيير كنت وجهت مع المناضلين عماد الدايمي وسليم بن حميدان رسالة وضعنا فيها تصورنا للحل [انظر رسالة نداء الكرامة المؤرخة 9 جانفي 2011]. وقد توقفت عند محاور هذه الرسالة اليوم وأنا أتابع المشهد السياسي والاجتماعي ورغم أنه لا تجوز المقارنة مطلقا بين نظام الاستعمار المباشر/بالوكالة وبين نظام وطني مسنود بإرادة شعبية، ولكن مع ذلك لا بد من التوقف عند نفس المحاور ولو من زاوية مختلفة. أولا: المؤتمر الوطني الديمقراطي: جميل أن ينعقد اليوم المؤتمر الوطني للمحاسبة الذي تنظمة حركة وفاء للثورة مع ثلة من الأحزاب والجمعيات وذلك للقطع مع منظومة الفساد وتحصين البلاد والعباد ضد هذا الطاعون القاتل ولكن في نفس الوقت عرض على شعبنا العديد من المبادرات بعضها مشبوه والآخر يسعى لإيجاد حلول لإشكالات حقيقية. وليس خافيا الآن بأن المبادرات التي تسعى إلى إرجاع التجمعيين والدساترة المتورطين في إفقار الشعب على كافة الصعد ونهب ثروات البلاد مآلها الفشل والازدراء الشعبي...لاطالما رفع الشعب الثائر شعارات تطالب بمحاسبة التجمعيين وكل من أجرم في حق البلاد ولا يجوز البتة الالتفاف على هذه المطالب المتجذرة بمبادرات مشبوهة. وأصبح واضحا وجليا أن التجمعيين والفاسدين استفادوا كثيرا من بعض التردد والبطء في المحاسبة واعتبروا ذلك ضعفا ووجدوا دعما داخليا انتهازيا وخارجيا امبرياليا للالتفاف على الشعب من جديد. ووصلت الوقاحة ببعضهم أن أعلنوا تشكيهم لمؤسسات دولية ومحاولة الاضرار بالبلاد ومصالحها العليا عبر أساليب تآمر مكشوفة. ورغم أن هذه المحاولات هي في الواقع مجرد سراب يلهث وراءه من يمني نفسه بدعم خارجي يعوض به عن الرفض الداخلي. ولا يمكن لهذه المطالب أن تسيء إلى سمعة تونس الثورة ولا يعقل قبولها شكلا فضلا عن مضمونها. والثابث في الأمر أن هذه المطالب تثبت تخبطا واضحا وجهلا بدائيا بآليات عمل المؤسسات الدولية. ولكن حذار من الثورجيين الجدد فهم أخطر على الثورة من التجمعيين أنفسهم. ثانيا: القيادات السياسية: إن حكومة الترويكا تمر بمرحلة حساسة ودقيقة وعليها أن تثبت بأنها قادرة على تجاوز الصعاب والمطبات التي أوجدها البعض لتعطيل مسار الإنجاز. وليس خافيا اليوم بأن أداء بعض الوزراء وكتاب الدولة لم يكن في المستوى المأمول رغم الجهد المبذول كما أن بعض الخيارات في التسيير لم تكن موفقة بالشكل المنتظر وذلك راجع إلى عدة عوامل بعضها ذاتي والآخر موضوعي. ويشتكي الجميع من البطء الإداري والإشكالات العقارية ومحاولات البعض إيجاد عراقيل وحواجز لإرباك الدولة مما أدى إلى عزوف ملحوظ من رجال أعمال محليين وأجانب عن إنجاز مشاريعهم في المناطق التي تكثر فيها التحركات الشعبية والتي لا شك أن بعضها مشروع ولكن آلة الخراب والهدم كانت أيضا فتاكة في كثير من الأحيان. ولا بد من اتخاذ قرارات شجاعة ومؤثرة خلال هذه الأيام لطمأنة الشعب على مسار ثورته ونظامه السياسي الذي أصبح محل إعجاب كل متابع للشأن التونسي. فمن غير المسموح لزعماء الترويكا تحديدا وحماة الثورة بصفة عامة التراجع أو التردد. فدقة المرحلة تقتضي تشريحا وعلاجا فعالا وإن كان مؤلما. ثالثا: لجان المساندة الوطنية: إن جمعيات المجتمع المدني الوطنية هي صمام الأمان والمقياس الحقيقي لنجاح المسار الثوري والحرص على عدم تراجعه أو تلونه. إن الشباب الواعي والمتجذر في هويته هو وحده الذي سيبقى شعلة الحرية مضيئة وتتوارثها الأجيال بنفس الحماسة والإرادة والتصميم. إن بعض الطفيليات تشوش على المشهد السياسي والإعلامي اليوم وكثر "التوافه من القوم يتحدثون في الشأن العام" وسارع الكثيرون إلى لبس جبة ليست على مقاسهم ولكن عورات هؤلاء مكشوفة للجميع وهم كالمومس التي ترتزق ببيع جسدها وتنتقد لباس جارتها لأنه يكشف كعبها. ويرى المواطن "إعلاميين وساسة ونشطاء ما بعد 14 جانفي" يسممون المشهد ويسعون لتشويه صورة تونس وثورتها وهذا كله مفهوم وطبيعي أن يصدر من مثل هؤلاء. ولكن الشيء الذي يعجز بعضنا على فهمه وتقبله هو التأخر في المحاسبة ومصارحة الشعب بحقيقة التحديات وما يحاك لهذا البلد وثورته من مؤامرات.
ملحق: (هذه الرسالة التي أشار إليها الكاتب في مقاله) أنور الغربي عماد الدائمي سليم بن حميدان 09/01/2011 كلما تصاعدت انتفاضة الكرامة لشعبنا الأغر كلما ازداد الأمل في قرب تحررنا من براثن دكتاتورية هي اليوم بإجماع كل الفاعلين والمراقبين في ربع ساعتها الأخير ولا يتوجه هذا النداء لغير المقتنعين بهذه الحقيقة التي أضحت اليوم من المسلمات كما كانت لدينا منذ أشهر قليلة خلت من حتميات المصير المحتوم لمن أمن مكر الشعب واستهان بدموع الثكالى وآهات المقهورين. غير أن هذا الأمل العزيز الذي نستعد قريبا جدا لمعانقته يطرح علينا جميعا أسئلة وجودية كبرى تتعلق بمصيرنا الوطني وتحديدا بمعالم مستقبل نظامنا السياسي القادم والمأمول. نعتقد اليوم جازمين أن جماعات المصالح ولوبيات الضغط و دولا إمبريالية ذات أطماع ونفوذ، قد خططت منذ مدة أو هي تعمل بشكل حثيث لإعداد بدائل جديدة تضمن لها استمرار هيمنتها وإبقاءنا أزليا في درجة سفلى من التبعية والإلحاق الحضاري وصرفنا عن قضايا الوحدة والتنمية وتحرير أراضينا المحتلة من سبتة ومليلة غربا إلى فلسطين والعراق والجولان شرقا. وليس من باب التخوين أبدا بل هو تحمل لمسؤوليتنا الوطنية كاملة التنبيه إلى وجود أذرع خطيرة لهذه القوى داخل الأحزاب والجمعيات والتحالفات القائمة اليوم والتي تدعي بكثير من الحيطة والمكر انخراطها في النضال الجماهيري أو مساندتها له. وقبل الخوض في هوية المشروع الوطني البديل الذي نتوق إليه جميعا ينبغي علينا بادئ ذي بدء وضع الشروط الأساسية التي لا معنى له ولا طائل بدونها : أولا- المؤتمر الوطني الديمقراطي إنه الشرط الرئيسي في كل تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة، من جنوب إفريقيا إلى دول أمريكا اللاتينية، حيث تجتمع القوى الوطنية حول برنامج حكم مؤقت يمهد لانتخابات حرة ونزيهة تكون تعبيرا حقيقيا عن الإرادة الشعبية السيدة والمتحررة من كل سلطان خارجي عدا حقوق الإنسان وحرياته العامة والفردية. إنها مرحلة خطيرة وحاسمة في تاريخ الشعوب لأنها يمكن أن تنتقل بها إلى بناء الدولة الديمقراطية الحقيقية وولوج عالم الحداثة السياسية كما يمكن أن ترتكس بها إلى أتون الحرب الأهلية والصراع البدائي حول العقيدة والقبيلة والغنيمة, ومن حسن حظنا، فقد أنجزت المعارضة الوطنية، من خلال هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات، رؤية تونسية مشتركة لأسس الدولة الديمقراطية بعد حوار مستفيض شارك فيه إسلاميون ويساريون وقوميون وليبراليون، مما يضعنا على سكة الفرضية الأولى ويقينا شبح الإقتتال والفوضى التي نسأل الله تعالى أن يجنب بلادنا الحبيبة ويلاتها ويبعد عنها كل المتسببين فيها. يمكن إذن لوثيقة "طريقنا إلى الديمقراطية" أن تشكل أرضية اللقاء التاريخي الأول بين فرقاء المؤتمر الوطني الديمقراطي تجنبا للبدايات الصفرية من جهة وإعلانا مبدئيا عن هوية النظام السياسي القادم وانعقاد إجماع مبدئي حول معالمه الكبرى، الأمر الذي من شأنه أن يبعث الطمأنينة والأمل لدى جميع الأوساط داخل البلاد وخارجها. من الناحية الإجرائية المحضة، لا يمكن لهذا المؤتمر الوطني الديمقراطي أن يبدأ أشغاله ويعقد أول لقاءاته في الظروف الراهنة إلا خارج البلاد باعتبار أن الدكتاتورية قررت تصويب الرصاص الحي نحو صدور الأحرار من أبناء شعبنا ولا يستبعد أن يدخل قريبا مرحة التصفية الجسدية لزعماء المعارضة وقياداتها الميدانية البارزة والعنيدة ثانيا- القيادة السياسية لا بد لأي حركة وطنية من قيادة سياسية تتولى السهر على تنفيذ المشروع والإقناع به لدى الحكومات الأجنبية والرأي العام الدولي بما يمهد لمرحلة حكم ديمقراطي مستقر يوفر تنمية داخلية متوازنة وتقسيما عادلا للثروة ويساهم فعليا في إرساء دعائم سلم عالمية حقيقية. هذه القيادة السياسية موجودة منذ سنوات عديدة وهي من الكفاءة والشجاعة والنزاهة والمصداقية بما يجعلها قادرة على الإضطلاع بمسؤوليتها الوطنية والتاريخية على أحسن وجه. إن زعماء كبرى أحزاب المعارضة الوطنية وتحديدا السادة : منصف المرزوقي عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية مية الجريبي أو أحمد نجيب الشابي عن الحزب الديمقراطي التقدمي راشد الغنوشي عن حركة النهضة حمة الهمامي عن حزب العمال الشيوعي التونسي مصطفى بن جعفر عن التكتل الديمقراطي من أجل الحريات والعمل أحمد بن إبراهيم عن حركة التجديد يمكن لهؤلاء بما يتمتعون به من شرعية التمثيل الجماهيري (عامل الثقة) وتجربة تاريخية في حقل العمل السياسي ومن علاقات عربية ودولية (عامل النجاعة) أن يتولوا وبجدارة مهمة الإشراف على أشغال المؤتمر الوطني الديمقراطي ويوفروا ضمانة نجاحه وعدم انحرافه عن خط التحرر الوطني والديمقراطية الحقة كما يكون من أوكد مهام هذه القيادة قطع الطريق أمام كل الحلول المغشوشة التي سيعرضها علينا الإستبداد قريبا من أجل إنقاذ نفسه أو تجديد قشرته وفي حال رفض إحدى هذه القيادات أو بعضها الإضطلاع الفوري بمسؤوليته كاملة أو تردده أو محاولته التنصل منها لاعتبارات حزبية أو إيديولوجية فإنه على باقي القيادات مواصلة العمل باعتبار أن قطار الأحداث لا ينتظر المترددين وأنه يمكنهم ركوبه في محطات قادمة إذا تبين لهم فيما بعد سلامة الوجهة وأمن الطريق ثالثا –لجان المساندة الوطنية في تونس والمهجر مع بدء الإعداد للمؤتمر الوطني الديمقراطي لا بد من الإنبعاث الطوعي للجان المساندة الوطنية ا داخل البلاد وخارجها بما يوفر للزخم السياسي الذي ستحدثه القيادة السياسية امتدادا أرضيا مباشرا تستعيد فيه القوى الوطنية الصادقة التحامها مع جماهير شعبها البطل. لقد عمل النظام المتهاوي للدكتاتور العجوز بن علي طيلة فترة حكمه على كسر التضامنات الأهلية وتدمير القنوات الوسيطة بين النخبة المناضلة وباقي الجماهير عملا بقانون الإستبداد الأزلي "فرق تسد" وغاب عنه أن الشعب أكثر عبقرية وشجاعة من لجان تفكيره وزمرة المنظرين الفاشلين التي يعتقد واهما أنه حصن بها حكمه الفاشي البغيض. لقد تجسدت هذه العبقرية على أرض الواقع بالإنبعاث التلقائي والسريع للجان المساندة لحركة 18 أكتوبر المجيدة داخل البلاد وفي أغلب العواصم التي يتواجد بها المهجرون التونسيون وخاضت ملاحم صمود سياسي وإعلامي دام لأشهر عديدة بل لسنوات كما هو حال لجنة باريس التي لا تزال تواصل إلى اليوم لقاءاتها وأشغالها إن مستوى وعي شعبنا ويقظته ونباهته وحسه السياسي المرتفع وأشواقه وتطلعاته نحو الحرية والديمقراطية والعدالة تشكل جميعها شروط قيام لجان مساندة جهوية وقطاعية للإنخراط في مشروع التغيير الديمقراطي وتحويل انتفاضة الكرامة لشعبنا الأغر إلى ثورة سياسية تفتح بها تونس للشعوب العربية أبواب الحداثة وتعلن للعالم أننا لسنا أهلا للديمقراطية فحسب بل قادرون على فرضها رغم القيود والأعاصير. نحن اليوم في أشد الحاجة إلى شجعان يغيرون حاجتنا إلى أذكياء يحللون، فإلى مسؤولياتنا التاريخية حتى نمنع الطغاة من مزيد سفك الدماء ونرفع صور شهداء انتفاضة الكرامة في ساحات مدننا ونزين بأسمائهم شوارعنا. ولا نامت أعين الجبناء