سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
تضامن ونضالات ومواقف نالت الإعجاب وسيذ كرها التاريخ من تاريخ الاتحاد العام التونسي للشغل أزمة سنة 1978 (الحلقة السادسة والعشرون)
بقلم: الأستاذ منصور الشفي
بعد مرور ما يقارب الشهر والعشرين يوما بدأ قاضي التحقيق الثاني يحضر القيادة الشرعية للاتحاد لإستنطاقهم، ففي يوم 15 مارس 1978 أحضر خير الدين الصالحي وحضرت أنا وزميلي المرحوم محمد محفوظ معه في التحقيق ، وكان الأستاذ محفوظ قد تعهد بالاهتمام خاصة بخير الدين الصالحي والحسين بن قدور وعبد العزيز بوراوي بالإضافة الى الاهتمام بالحبيب عاشور. كان خير الدين متشجعا ومتيقنا من البراءة بالرغم من قساوة التهمة ولم يكن وحده في ذلك بل كان كل النقابيين متشجعين ومتضامنين، وقد زادتهم هاته المحنة وحدة على خلاف ما كان يحدث غالبا من أن المتهمين السياسيين كما حدث للحبيب بورقيبة ورفاقه سنة 1938 لا يستطيعون الإبقاء على الانسجام بينهم فتكون محنة التحقيق مناسبة بروز خلافات الا أنه في موضوع النقابيين قد ساد بينهم التضامن والوفاق طيلة المحاكمة وكانوا مؤمنين ببراءتهم وان ما سلط عليهم هي مظلمة تاريخية لا تلبث الأيام حتى تثبت عكسها. وكانت التهم التي وجهت لخير الدين الصالحي أولا ثم لبقية رفاقه واحدة فقد نسبت اليهم جرائم الإعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولةوحمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي، والإمداد بالأسلحة جموعا بقصد النهب والاستيلاء على الأمتعة والأملاك وإفسادها ومحاربة القوة العامة حال مقاومتها لمرتكبي ما ذكر وإحداث الحريق عمدا بمكاسب الدولة والخواص. وكانت هاته التهم الرهيبة في واد والتحقيق في واد آخر، فقد سئلوا جميعا نفس الأسئلة التي دارت حول الميثاق الإجماعي، وقيل للقيادة أنها تنكرت له وسئلوا عن الزيارة الأولى والثانية للحبيب عاشور الى ليبيا وحضور المصمودي مع الحبيب عاشور والقذافي دون أن يبين حاكم التحقيق مقصده من ذلك، فإن كان يرمي للقول أن اتفاقا حصل بين ثلاثتهم للتأثير على الحكم في تونس فإن الهادي نويرة كان يخشى هذا القول الذي قد يجعله في موقف معاد لليبيا، وسئلوا عن إحتداد لهجة جريدة الشعب عندما نددت بارتفاع الأسعار. وسئلوا عن الاضرابات الدورية التي قامت بها عديد القطاعات إحتجاجا على عملية التهديد بإغتيال الحبيب عاشور وعن موقف الاتحاد من تدخل الجيش في قصر هلال لفرض الهدوء. وقد كانت كل هاته المحاور التي دارت حولها استنطاقات قاضي التحقيق هي مواقف سياسية لا غير، لاتصطبغ بأية صبغة إجرامية وإيمانا من القياديين الموقوفين ببراءتهم قاموا جميعهم وبدون إستياء بالدفاع عن منظمتهم وعن مواقفهم وأظهروا بأنه على العكس مما وقع إتهامهم به فإن التآمر واقع عليهم هم. وقد أعانهم المحامون في هذا الموقف المشرّف، وقد كان بإمكان العديد منهم وهو ما طلب منهم بالفعل إلقاء المسؤولية في السفر الى ليبيا على الأمين العام والتنكر له في مواقفه الأخرى ولكنهم وبكل شجاعة وقفوا الموقف الموحد دون ان يتفاهموا في ذلك مسبقا نظرا لحالة العزلة التي كانوا عليها في سجن الايقاف. بل عبّر كلّ واحد منهم عن شعوره الحقيقي وما يؤمن به وما كان هو الحقيقة. فأثاروا حقيقة إعجاب الشعب التونسي الذي كان يتابع ما يجري بواسطة الصحف وخاصة جريدة الرأي . وفي استنطاقه ندّد خير الدين الصالحي بمقترح الحزب في اجتماع اللجنة المركزية المنعقدة في 20 جانفي 78 وإقرارها لمبدأ الإشراف على التصرف المالي والإشراف على الجلسات الانتخابية للنقابات وإعتبر الاتحاد ان هذا الاقتراح لا يتماشى مع الحق النقابي وقال: (انه بالرغم من حلول كرستين الأمين العام لل»سيزل« بتونس يوم 24 جانفي وتعدّد مقابلاته مع الوزير الأول لمحاولة الصلح بينه وبين المنظمة وبالرغم من ان الأمين العام للمنظمة النقابية الأمريكية »جورج ميني« قد وجه برقية الى الرئيس بورقيبة يطالب فيها بالكفّ عن الاعتداء على دور الاتحاد واصلاح ما تضرر منها، إلا ان الاعتداءات على النقابيين وعلى دور الاتحاد لم تتوقف ولذلك كان الاتحاد محقا في إقراره للإضراب العام الإحتجاجي ليوم واحد إستثنى فيه قطاع الغاز والكهرباء والماء. كما تمسك خير الدين الصالحي بأنه نائب بالبرلمان وأن رفع الحصانة عنه غير قانوني. لكن هذا الدفاع المحق ووضوح الحقيقة لم تمنع حاكم التحقيق من إصدار بطاقة ايداع ضد خير الدين الصالحي وضدّ كل أعضاء المكتب التنفيذي وبقية قياديي المنظمة وكان حاكم التحقيق يستقدم كل يوم عضوا من المكتب التنفيذي فيستنطقه وذلك بإعادة وضع نفس الأسئلة وغالبا بنفس الترتيب ثم في نهاية الإستنطاق يصدر بطاقة ايداع ضدّه. ومن الغد أحضر حاكم التحقيق عضو المكتب التنفيذي الأخ الصادق العلوش بعد ان أعلمنا وأعلم بقية محاميه قبل يوم باستنطاقه، وكان حاكم التحقيق ورغم احتجاجاتنا قد إمتنع من تسليمنا نسخة من محضر الأبحاث التي تمت لدى مصالح الأمن، وحضر مع الأخ الصادق العلوش المحامون (منصور الشفي وتوفيق بودربالة ومنير الباجي وأحمد شطورو والدالي الجازي) . وكان الصادق العلوش في هاته الفترة عضوا بالمكتب التنفيذي للرابطة التونسية لحقوق الإنسان وكان المحامون المذكورون زملاء له بالرابطة. وضعت للصادق العلوش نفس الأسئلة وأسهب في ردّه في الحديث عن دور الاتحاد طيلة السنوات الأولى للسبعينات في سنّ التشريعات الاجتماعية المتطورة والتي كانت مكاسب للطبقة الشغيلة ولتونس . كما بيّن ان الاتحاد لم يوقف مطلقا من جهته الحوار الاجتماعي وإنما التشدّد بدأ بعد الخلافات التي سعى الاتحاد دوما لتطويقها، ومن الغد أحضر الأخ الصادق بسباس ووجهت له نفس التهم المرعبة ووجهت له نفس الأسئلة التي لا صلة لها بالتهم. وكان قد حضر معه من المحامين (منصور الشفي وعبد الرحمان الهيلة) وكان الصادق بسباس قويا في إجاباته بما تعرض له النقابيون من مظلمة وبعد الأيام الأولى للاستنطاق تبين ان الأبحاث المجراة لدى أمن الدولة لم تثبت أي شيء من الجرائم المنسوبة للمتهمين وأن هاته التهم قد احتوتها في الواقع خطب وتصريحات الوزير الأول الهادي نويرة، فهو أول من ذكر ان ما قام به الاتحاد هو مؤامرة للوصول الى الحكم، وأن الحبيب عاشور كان يخطط للوصول الى السلطة وردّد صداه عبد الله فرحات ومحمد الصياح. لكن هذا الكلام لم يكن مقبولا من الشعب لأنه يعلم انه لا صحة لذلك. وفي يوم موال أحضر الأخ الطيب البكوش (وحضر معه من المحامين منصور الشفي ومحمد محفوظ وعبد الرحمان الهيلة والدالي الجازي والحبيب العمري والبشير الخنتوش والصادق مرزوق ). وقد سئل بالإضافة الى الأسئلة التي وجهت الى زملائه عمّا اذا كان على علم من رسالة التأييد التي تلقاها الاتحاد العام التونسي للشغل من أعضاء حركة الوحدة الشعبية أحمد بن صالح وابراهيم حيدر والمنجي الفقيه فأجاب اني أجهل وقوع ذلك كتابة وقد إطلعت على رسالة المنجي الفقيه ولم يتعرض فيها لحادث التهديد بالإغتيال حسبما أتذكر اما اتصال أحمد بن صالح فقد وقع مع الحبيب عاشور وكان هاتفيا وأما المكاتبة فلم تكن الا من المنجي الفقيه. . وفي نهاية الاستنطاق أصدر قاضي التحقيق في حقه بطاقة ايداع بالسجن المدني بتونس حيث أبقي بسجن إنعزالي مثله مثل البقية وعندما يودع نقابي بالسجن يمكّن محاميه من الغد من زيارته. ولم نتوان جميعا عن القيام بهذا الواجب بصفة شبه مستمرة ، فكنا نحن المحامون صلة الوصل بينهم وبين العالم الخارجي. ثم في يوم لاحق مثل الأخ عبد العزيز بوراوي أمام قاضي التحقيق وقد حضر معه من المحامين :(الشفي، شطورو، عبد السلام القلال، محمد محفوظ والذي إهتم بعبد العزيز بوراوي بصفة خاصة بطلب مني والعادل كعنيش وتطوع معنا شاب لم يمر على دخوله للمحاماة سوى بضعة أشهر وهو الأستاذ محمد حمودة وهو الآن أستاذ مبرز في القانون ومن أبرز أساتذة كلية الحقوق. وكان عبد العزيز مستحضرا لكامل تفاصيل الحياة النقابية طيلة السبعينات وواثقا من نفسه ومن أجوبته وقد تمكن في عديد المناسبات من إحراج قاضي التحقيق وأظهره في مظهر من يعرف الحقيقة ولكنه يكابر في الاعتراف بها.. وقد تعهد محمد محفوظ بزيارته المتكررة للسجن وقد أوفى بعهده. ثم في يوم لاحق أحضر الأخ محمد عزالدين (وحضر معه في التحقيق الأساتذة الشفي وعبد الرحمان الهيلة وجمال الدين بن علي). وقد تمكن محمد عزالدين بالحجج الدامغة من نفي التهم عن الاتحاد وأبرز كيف أن الاتحاد كان الضحية. وأودع في نهاية التحقيق بالسجن وفي يوم لاحق مثل المرحوم الأخ حسن حمودية أمام قاضي التحقيق (وحضر معه من المحامين منصور الشفي والحبيب بن عبد الله وابراهيم بودربالة). ووضعت له نفس الأسئلة وأجاب بكل شجاعة بأن الاتحاد العام التونسي للشغل هو قوة خير في هاته البلاد ولا يعمل الا لصالحها. وبعد ساعات طويلة من الاستجوابات صدرت ضدّه بطاقة ايداع مثل زملائه لينتقل مثلهم من حالة الإنعزال بمقرات ادارة الأمن الى حالة الإنعزال بالسجن المدني. وفي يوم لاحق مثل الأخ الحسين بن قدور وقد حضر معي للدفاع عنه الزميلان محمد محفوظ وعبد الرحمان الهيلة. وكان في نفس مستوى زملائه من الشجاعة والثبات وصدرت ضدّه هو ايضا بطاقة ايداع بعد نقاشات وجدال حول نفس المواضيع، فقاضي التحقيق يسأل نفس الأسئلة والنقابيون يجيبون بنفس الأجوبة. وفي يوم لاحق أحضر المرحوم الأخ مصطفى الغربي (وحضر معه المحامون الشفي ومحمد الرافعي وأحمد شطورو) وأجاب مصطفى الغربي بروح تضامنية عالية مع بقية أعضاء القيادة ومع الأمين العام. ثم في يوم لاحق أحضر عضو المكتب التنفيذي عبد الحميد بلعيد وحضر معه المحاميان عبد اللطيف بن للونة وعبد الحميد السحيمي. وكان عبدالحميد بلعيد والذي ينتمي الى قطاع المناجم قد تمت معه محاولات عديدة من طرف السلط الجهوية بقفصة لعزله عن القيادة وشاركهم في ذلك وزير الفلاحة حسان بلخوجة ولكن عبد الحميد بلعيد أصر على تضامنه مع رفاقه في المكتب التنفيذي ومع الأمين العام للاتحاد وبعد التحقيق وايداعه بالسجن وكنت قد تغيبت عنه في التحقيق أرسل لي مع عائلته طلبا في زيارته بالسجن، فقدمت إعلام نيابة عنه وزرته وقد وجدت روحه المعنوية عالية وايمانه كبير بالانتصار وحدّثني عن كافة الضغوط والإغراءات التي تعرّض لها. لقد كانوا جميعا في مستوى رسالتهم وستبقى الحركة النقابية التونسية مدينة لهم بالكثير عمّا قدموه من تضحيات وصمود سجلوا بها صفحات مضيئة في تاريخ المنظمة وسأتناول في الحلقة القادمة الحديث عن بقية الأبحاث.