لئن عرف المشهد السياسي في الآونة الأخيرة، ومباشرة بعد الثورة، غزارة في العناوين السياسية، وكثافة في البرامج والتوجهات، وأعطت الاحزاب الوافدة حديثنا، زخما للحياة السياسية وخلقت حراكا اجتماعيا وثقافيا واعلاميا، لم تألفه تونس من قبل، فإ نها ايضا لا تخفي عتمة تلقي بظلالها على المستقبل، وغموضا يلفّ الخطوات، خاصة في ظل ارتباك حكومي لم يستطع ان يحسم مواعيد الاستحقاقات المهمة ولا نوعيتها ولا آليات العمل داخلها. ذلك ان حالة الاكتظاظ داخل القاطرة السياسية لا يمكن ان يخفي عن المراقبين الاستعداد للفرز في أقرب محطة قادمة، ولا يخفي ايضا ان كل الاطراف لم تكشف بعد أوراقها كاملة، بل قد تكون تتعمد ان تخفي اكثر مما تعلنه. اليسار يحشد قواه... رغم اتساع الهوّة اليسار التونسي ليس هجينا ولا هو بغريب على الساحة، بل هو أحد مكوناتها الرئيسية حتى وان غاب لفترات او انحنى تحت الضربات المتلاحقة لكل سلطة حكمت البلاد، فو يحافظ على مواقعه التقليدية في النقابات المهنية والمنظمات الطلابية والحلقات الثقافية. ولئن لم يعرف اليسار ذلك المدّ الجماهيري الذي يمكّنه يوما في اكتساح الساحة، الا انه بقي دوما اهم العناوين فيها، وبقي ايضا المحرار الرئيسي الذي تقاس عليه درجات التأزم والانفراج في المراحل المختلفة، رغم ما عرفه طوال تاريخه القديم والحديث من تشرذم في صفوفه وتشظّ في مكوناته. وقد شهدت فترة ما بعد اسقاط بن علي عودة قوية لأحزاب اليسار، التي بدأت عملية تفاوض مضنية داخل مختلف تياراتها من اجل توحيد القوى واعادة الاعتبار لهذا التوجه الايديولوجي والسياسي الذي حُرِم من حقه في الحضور طويلا، ووقع الالتفاف عليه واخراجه عنوة في المعركة في عديد المراحل. البداية كانت بأقصى اليسار، أو بما يطلق عليه اصطلاحا بالجناح الراديكالي في اليسار، وهو حزب العمال الشيوعي التونسي، الذي لم تهدأ قيادته منذ الثورة عن حشد انصارها ولعب دورها في فرض عديد الاختيارات على الحكومات المؤقتة المتتالية، وكذلك بالدور الذي لعبه مناضلو الحزب وكوادره في قيادة وتأطير تحركات القصبة واعتصامات وأشكال الضغط في المناطق الأخرى. أما الحزب الاشتراكي اليساري الذي اختار الوسطية، والذي حاول خلال مؤتمره المنعقد الاسبوع الفارط ان يحشد العدد الاكبر من ابناء اليسار ومناضلي مختلف المراحل، جاعلا من برنامج الحزب مفتوحا لكل ابناء هذا التيار وحاول ان يكون الممثل للوسطية اليسارية التي بلغت حالة النضج في التعاطي مع الاحداث الوطنية والمتغيرات السياسية. وباتساع الحزب الاشتراكي اليساري وضمه عديد الوجوه الحقوقية والنقابية والثقافية اضافة الى شريحة طلابية وشبابية لا بأس بها، فانه قد استطاع ان يضيف بمؤتمره الاخير لبنة جديدة في بناء التيار اليساري الاشتراكي الفاعل. أما من الناحية الاخرى من المشهد اليساري، أو ما يعرف اصطلاحا بالعائلة الوطنية، فرغم تعدد عناوينها واختلافاتها التنظيمية، الا انها استطاعت من خلال تشبثها بخطاب راديكالي، ومن خلال حضور رموزها في مواقع متقدمة في دوائر القرار، وحضورها الاعلامي ان تشكل اضافة نوعية للمشهد السياسي، خاصة بعد الندوة الصحافية والاجتماع العام الذي نظمته حركة الوطنيين الديمقراطيين، ووزعت خلالها برنامجها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الذي حاولت فيه ان تكون متوازنة في تعاملها مع الاحداث والمستجدات مع تشبث بالثوابت الماركسية وبالاهداف الكبرى للحركة والتيار اليساري عامة. القوميون... ومحاولة لمّ الشمل لئن اختلفت المنطلقات الفكرية والايديولوجية بين القوميين العرب واليساريين الماركسيين، فان عديد المراحل النضالية سواء على المستوى الطلابي او النقابي والشعبي شهدت تحالفا وتلاحما بين هذين التيارين وقرب في وجهات النظر، ولئن استطاع اليسار ان يصل الى مرحلة التبلور فان القوميين مازالوا في مرحلة الفرز، ذلك ان الفترة الطويلة التي قضوها في السرية والخلافات السياسية بين مكوناتهم الداخلية اضافة الى النزعة الزعامتية، كلها عوامل ساهمت في جعل المشهد القومي يتمايز بكثير من التشرذم رغم محاولات الجمع والتي توجت بالاندماج بين حزب الشعب وحركة الوحدويين التقدميين، في حين مازال التيار البعثي يسعى على مختلف الأصعدةإلى لمّ الشمل واقامة جسم موحّد قادر على المنافسة. التيار الإسلامي... والزحف الصامت يمتاز الخطاب السياسي للاسلاميين، خاصة في الاعلام بمحاولة دؤوبة للظهور بمظهر الاعتدال والمحافظة على ثوابت المجتمع التونسي، في حين يأخذ خطابهم في المساجد والتجمعات الجهوية، منحى اكثر تشددا، كما يقوم الفعل السياسي للاسلاميين على العمل المباشر بعيدا عن الاضواء والاعلام، وقد استطاعوا خلال الاشهر القليلة الماضية، استعادة مكانة لا بأس بها داخل المشهد السياسي التونسي واستطاعوا ايضا تشكيل رأي عام شبابي على شبكة الانترنيت والفايسبوك يتبنى توجهاتهم ويدافع عن اختياراتهم بكل قوة.