كُثرٌ هم المرتزقة والسماسرة والخارجون عن النص باسم الثورة في مجالات شتى. لكن الأغرب من الخيال رغم حدوثه هو ما حصل في جامعة منّوبة يوم السابع من مارس الجاري إنّه بدعة ستتداول رمزها الأجيال لأنّ تبريرها لا يعقل ولا يقبل ولو وقع التسلّح بما يعرف ب «التسامح المسيحي» نظريا على الأقل لأنّها تأبى عن التعريف والحدّ والحصر والزّجّ بها في أيّة خانة من الخانات الممكنة جدلا ولا يمكن تمريرها تحت أيّة لافتة ولا أيّ وجه من الوجوه. إنّها علامة في تاريخ تونس فارقة ولحظة لابد أن يتوقّف عندها الزّمن لأنّها باعثة على الذّهول بكل المعايير. ولا ندري إن كانت نتاج فائض من الحماس الجهلوتي أم تتويجًا لحالة من الانفلات المنهجي أصبحت باعثة على القرف والغثيان. إنّ العلم الوطني رمز للضمير الجمعي «La conscience collective» والأهداف المشتركة والقيم العليا، يرى فيه كلّ تونسي ملمحا من ذاتيته وهويته وانتمائه لتونس العظيمة ممّا يجعل الاعتداء عليه جريمة في حق كل فرد انتمى إلى هذا الوطن وينتمي إليه وسينتمي وسوف ينتمي إليه مستقبلا. وانّ السكوت عن الجريرة تكريس لها وقبول بها بل مشاركة فيها بشكل من الأشكال وإلاّ ما الذي يمكن أن نقول لقوافل الشهداء عبر الأجيال؟ أهكذا يزنى «الأحفاد» بالمقدّسات الوطنية والتاريخية؟ وفي أيّة زمرة يمكن أن يصنّف هؤلاء الذين لا يفقهون أبجديات الاختلاف وحدوده ووسائل التعبير عنه وطرقها ومناهجها؟ لقد رأيت أحد الوطنيّين الصادقين الشرفاء يشرف بالدمع ويتقطع صوته عند عرض ما حدث في موقعة العلم ويتهدّج وتهرب منه الكلمات لأنّ الحادثة أكبر في فظاعتها وإيحاءاتها من شاعرية المتنبي أو بلاغة سحبان! لكن هل يعني ذلك الاكتفاء بمجرّد الانفعال العاطفي بالأحداث ومسح الدموع والانكفاء على الذّات واجترار الصّمت الثقيل؟ هل نترك لهؤلاء «الدّينيين غيرا» الحبل على الغارب لهيجانهم و«إمارستاناتهم» الحلم وسوادهم وأعلامهم المستوردة استيراد شيوخ من بعض الأقطار العربية يفقّهوننا في ديننا على طريقتهم وينشرون الدعوة بيننا ونحن في بعض روافدنا وفروعنا سليلو جامع القيروان والزيتونة وأبيس زمعة البلوي وعلي بن زياد وأسد بن الفرات والإمام سحنون وابن خلدون ومحمد الطاهر بن عاشور وغيرهم؟ هل يذكروننا بإسلامنا أم يدعوننا إلى فهم الشريعة على طريقتهم التي يسوّقونها عبثًا؟ إنّه لمن الموخز / المؤلم / المؤسف أن تسعى بعض الأصوات الرسمية إلى تبرير ما حدث بوصفه نتاج «التصحّر الثقافي» طيلة مرحلة الحكم السابق! إنّنا نقول لهؤلاء «المطبّعين» أنّ الوطنية عقيدة وإيمان وأنّ الكثير من شهداء المرحلة الاستعمارية و«الفلاّقة» العظماء مثّقفون بالسليقة والانتماء وطنيون على السجيّة مدركون أنّ العلم راية ينضوي تحتها الجميع من أبناء هذا الوطن الشامخ وكم من شهيد قضى ماسكا الرّاية فيأخذها أحد الرفاق ليرفعها شامخة من جديد هاتفا بالحياة لتونس ثم... هل مازلنا اليوم قادرين على تمثّل التخمة من هذه المهاترات واستيعابها والمسائل بيّنة؟ هل يمكن أن تتراجع تونس عن انخراطها في الحداثة والاعتدال؟ هل هي قادرة على التنكّر لثوابتها وأصالتها وتفتّحها على الشرق والغرب والشمال والجنوب عنوان إثراء مع حرصها على ذاتيّتها؟ هل أنّ الدّعوة إلى تعدّد الزوجات مثلا وإعادة الرّقّ والجواري يمكن ان تجد لها امكانية التكريس في الواقع التونسي؟ أليست هذه الدّعوات باعثة على السّخرية والإضحاك والرّثاء لظلامية القرن الحادي والعشرين؟ أليس الأجدى أن تكرّس الجهود كلّها للانكباب على ملفّات التشغيل والتنمية ومحاسبة الفاسدين وإصلاح التعليم والإسراع بكتابة الدستور والخروج من ظاهرة ما بين الأبيض والأسود ومكافحة الغلاء النّاري ووضع النقاط على الحروف بصيغة الجمع؟ إنّ قضايا النّقاب والاعلام السوداء وغياب أبجديات الوعي بالعمل السّياسي والحسّ الوطني ترف لا يلزم إلاّ أهله ومريديه. وإنّ حادثة العلم رغم كونها ممارسة بائسة فإنّها قد نزعت ورقة التوت عن أصحابها فأوجبت مرّة أخرى شرعية التصدّي لهم حتّى تبقى الثّورة كما هي في عيون العالم مثالا نادرا ومعجزة تقبس منها الشّعوب شعلتها المقدّسة.