جُودة دحمان: أسلاك التربية تدقّ ناقوس الخطر وتحذّر من تصعيد قد يصل إلى مقاطعة الامتحانات    ويتكوف يكشف موعد المرحلة الثانية من اتفاق غزة    تركيا ترسل الصندوق الأسود لطائرة الحداد إلى دولة محايدة    طقس اليوم: ارتفاع في درجات الحرارة    ترامب مهاجما معارضيه في التهنئة: عيد ميلاد سعيد للجميع بما في ذلك حثالة اليسار    رئيس الجمهوريّة يؤكد على ضرورة المرور إلى السرعة القصوى في كافّة المجالات    كوريا الشمالية تندد بدخول غواصة نووية أمريكية إلى كوريا الجنوبية    فوز المرشح المدعوم من ترامب بالانتخابات الرئاسية في هندوراس    تطوير خدمات الطفولة المبكرة محور لقاء وزيرة الأسرة ورئيسة غرفة رياض الأطفال    فاطمة المسدي تنفي توجيه مراسلة لرئيس الجمهورية في شكل وشاية بزميلها أحمد السعيداني    الفنيون يتحدّثون ل «الشروق» عن فوز المنتخب .. بداية واعدة.. الامتياز للمجبري والسّخيري والقادم أصعب    أمل حمام سوسة .. بن عمارة أمام تحدّ كبير    تحت شعار «إهدي تونسي» 50 حرفيّا يؤثّثون أروقة معرض هدايا آخر السنة    قيرواني .. نعم    كأس إفريقيا للأمم – المغرب 2025: المنتخب الإيفواري يفوز على نظيره الموزمبيقي بهدف دون رد    الغاء كافة الرحلات المبرمجة لبقية اليوم بين صفاقس وقرقنة..    نجاح عمليات الأولى من نوعها في تونس لجراحة الكُلى والبروستاتا بالروبوت    الإطاحة بشبكة لترويج الأقراص المخدّرة في القصرين..#خبر_عاجل    مناظرة 2019: الستاغ تنشر نتائج أولية وتدعو دفعة جديدة لتكوين الملفات    كأس افريقيا للأمم 2025 : المنتخب الجزائري يفوز على نظيره السوداني    الليلة: الحرارة تترواح بين 4 و12 درجة    هيئة السلامة الصحية تحجز حوالي 21 طنا من المواد غير الآمنة وتغلق 8 محلات خلال حملات بمناسبة رأس السنة الميلادية    من الاستِشْراق إلى الاستِعْراب: الحالة الإيطالية    عاجل : وفاة الفنان والمخرج الفلسطيني محمد بكري    بابا نويل يشدّ في'' المهاجرين غير الشرعيين'' في أمريكا: شنوا الحكاية ؟    تونس 2026: خطوات عملية لتعزيز السيادة الطاقية مع الحفاظ على الأمان الاجتماعي    الديوانة تكشف عن حصيلة المحجوز من المخدرات خلال شهري نوفمبر وديسمبر    في الدورة الأولى لأيام قرقنة للصناعات التقليدية : الجزيرة تستحضر البحر وتحول الحرف الأصيلة إلى مشاريع تنموية    القصور: انطلاق المهرجان الجهوي للحكواتي في دورته الثانية    عاجل: بعد فوز البارح تونس تصعد مركزين في تصنيف فيفا    زلزال بقوة 1ر6 درجات يضرب هذه المنطقة..#خبر_عاجل    عدّيت ''كوموند'' و وصلتك فيها غشّة؟: البائع ينجّم يوصل للسجن    تزامنا مع العطلة المدرسية: سلسلة من الفعاليات الثقافية والعروض المسرحية بعدد من القاعات    قفصة: إصدار 3 قرارات هدم لبنانيات آيلة للسقوط بالمدينه العتيقة    عاجل/ بعد وصول سلالة جديدة من "القريب" إلى تونس: خبير فيروسات يحذر التونسيين وينبه..    قائمة سوداء لأدوية "خطيرة" تثير القلق..ما القصة..؟!    حليب تونس يرجع: ألبان سيدي بوعلي تعود للنشاط قريبًا!    هام/ المركز الفني للبطاطا و القنارية ينتدب..    عاجل: هذا موعد الليالي البيض في تونس...كل الي يلزمك تعرفه    قابس: أيام قرطاج السينمائية في الجهات ايام 25 و26 و27 ديسمبر الجاري بدارالثقافة غنوش    عركة كبيرة بين فريال يوسف و نادية الجندي ...شنوا الحكاية ؟    درجة الحرارة تهبط...والجسم ينهار: كيفاش تُسعف شخص في الشتاء    هذا هو أحسن وقت للفطور لخفض الكوليسترول    عاجل: تغييرات مرورية على الطريق الجهوية 22 في اتجاه المروج والحمامات..التفاصيل    صفاقس: تركيز محطة لشحن السيارات الكهربائية بالمعهد العالي للتصرف الصناعي    تونس: حين تحدّد الدولة سعر زيت الزيتون وتضحّي بالفلاحين    بول بوت: أوغندا افتقدت الروح القتالية أمام تونس في كأس إفريقيا    مع بداية العام الجديد.. 6عادات يومية بسيطة تجعلك أكثر نجاحا    عاجل/ العثور على الصندوق الأسود للطائرة اللّيبيّة المنكوبة..    اتصالات تونس تطلق حملتها المؤسسية الوطنية تحت عنوان توانسة في الدم    عاجل: اصابة هذا اللّاعب من المنتخب    وزارة التجهيز تنفي خبر انهيار ''قنطرة'' في لاكانيا    عاجل/ قضية وفاة الجيلاني الدبوسي: تطورات جديدة..    كأس الأمم الإفريقية المغرب 2025: برنامج مباريات اليوم والقنوات الناقلة..#خبر_عاجل    دعاء السنة الجديدة لنفسي...أفضل دعاء لاستقبال العام الجديد    مع الشروق : تونس والجزائر، تاريخ يسمو على الفتن    في رجب: أفضل الأدعية اليومية لي لازم تقراها    برّ الوالدين ..طريق إلى الجنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التلاعب بخرائط الجغرافيا السياسية
نشر في الشعب يوم 21 - 04 - 2012

قادة النهضة ومن خلال جملة مواقفهم السياسية ولقاءاتهم الاعلامية هم الآن بصدد نفخ أهميتهم وأهمية انتصارهم الانتخابي فسياساتهم في الحكم تتعرض لما لم تتعرض له اية سياسة من قبل الى هزء العالم بأسره. ان انتقالهم المباشر من الاسلاموية المتطرفة الى حزب سياسي مدني يميني وسطي وإصلاحي جعلهم يعيشون اياما سعيدة، انهم يخاطبون الجماهير باستمرار ووجوههم تشع سعادة فهذه الايام هي أسعد ايام حياتهم لقد أصبحوا قادرين على تصوير منافسيهم وخاصة منافسهم الألد «اليسار الديمقراطي» لشيخ في أقصى درجات العجز، محتضر ولا يمكن شفاؤه.
سياساتهم متواضعة وتقدمهم يتوقف بشكل جوهري على نجدة خارجية، كانت الفكرة واضحة وتتكرر باستمرار وعلى ألسنة كل القيادات تقريبا واحيانا بعبارات شبه مشجية وعلى شكل تسولات مبحوحة: «أصدقاؤنا في الخليج في قطر والسعودية وفي امريكا يتطلعون الينا بأمل كبير، اننا نستمع الى اصواتهم تقول اصمدوا قليلا سوف نهرع لنجدتكم» ويقولون ايضا «الادارة وقفت مع الثورة في أحلك ايام محنتها ويجب ان نكافئها ونصالحها سنعمل مع ادارة بن علي ولا نعير اي اهتمام لتلك الاشاعات والظنون التي رمتها وترميها بالفساد وترى ضرورة المحاسبة». انهم لم يستوعبوا بعد انهم بمثل هذه المواقف والسياسات هم الآن بصدد الخروج نهائيا من الحقبة البطولية لحركات الاسلام السياسي المتصورة لمشروع عالمي يعادي الامبريالية أو ما يسميه خطابهم المتطرف السابق بالغرب الصليبي ويعادي الأنظمة المدنية او ما يسميه خطابهم العقائدي القديم بالانظمة الوضعية او الجاهلية الجديدة وفقا للصياغة التي لم تعد أثيرة صياغة مفكرهم الكبير «السيد قطب» ان جوهر المشروع الثورجي بالذات هو الذي تم تكذيبه هكذا في احدى وجوهه الأكثر أهمية، الاعتماد على الامبريالية الامريكية في الخارج وعلى الفساد البورقيبي النوفمبري في الداخل.
ان النهضة وحكومتها وتحالفها وجماهيرها تتبع سياسة واقعية باردة. حكومة الترويكا تعرف وتعترف ان الاقتصاد التونسي لا يمكن ان يعاد بناؤه دون دعم الاقتصاد الرأسمالي والاحتكارات الدولية وموافقة امريكا واللوبي الصهيوني وبانتهاج سياسة ليبرالية خدومة للاستعمار الجديد لذا فهي تعلن عن حاجاتها اللهوفة الى الرأسمال العالمي وتمنحه الربح الذي يطلبه والحق في الاهانة وهدر كرامة التونسي اذا لزم الامر تصريحات رئيس حكومة النهضة في ألمانيا وايطاليا ذهبت الى أبعد من ذلك تفريطا في السيادة الوطنية انه يستقدمهم ليستفيد من تجاربهم في كتابة «الدستور التونسي» والاشراف على الانتقال الديمقراطي كأفراد وكقادة متجذرين في النهضة. قادة يمينيون متلوثون بالنزعة الميكيافلية وبالتعاون الطبقي واقعين بالتأكيد تحت اغراء المشاريع الامريكية التي كانوا ينوون التخصص بها وادارتها لا فقط في تونس بل وفي كامل منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، انهم الآن يقودون قاعدة جماهيرية غريبة عنهم بالكامل من حيث أهدافها وروحها. الحالة هذه يعقدها ايضا واقع ان هناك صراع مع السلفية تفرضه النزعة الاصلاحية تلك وتستخدمه بحنكة ومهارة خطط ثقافات وسياسات، وهذا يفتح اكثر من باب للاضطراب داخل المنظمة نفسها وفي العلاقة بين المنظمة تلك وبيئتها وأحزمتها، ثم ان الاصلاحية أو البراغماتية تلك تحتمل اشكالا شتى. الشيخ المفكر والقائد لم يجدد في الفكر الديني بل يستخدم نفس منهج الفقهاء الحسي الذي يعتمد على ظاهر النص ولا يرى وراءه شيئا، الشيخ وعلى عكس «محمد عبده» مثلا لم يثبت لنا في كتاباته انه بالفعل مفكر اسلامي وانه عاش ذروة الصراع بين الاسلام والمسيحية وبين الاتجاهات المختلفة في مجتمعنا المعاصر لم يعش الصراع بين السنة والشيعة والاشعرية والمعتزلة والفقهاء والفلاسفة والمتصوفة، ان كتاباته الدينية ضحلة جدا لم نجد فيها اي اثر لأي توتر أو قلق يعكس واقع المسلمين على مستوى العقيدة هذا ناهيك عن المستويات الاخرى. ففي واقع هذه البلبلة والاعتباط اللّذين يسودان راهنا مفاهيم الدين والتاريخ والسياسة نجد الشيخ او فكره يتخذ من آيات «القرآن» وبعض الأحاديث النبوية المتداولة مجرد مزامير، ماذا سيكون عندئذ من أمر تلك العناصر العديدة الحائرة التي كان ولوقت قريب صدق مشاعرها الدينية والتنظيمية فوق الاتهام لكن كان ثمة شك كبير في قدرتها على العمل السياسي واستيعاب تكتيك الانكفاء، فالسيد «الصادق شورو» مثلا معصوم على مستوى الايديولوجيا لكنه عاجز تماما عن الحركة. السيد «الحبيب اللوز» مثال نموذجي ثانٍ والأمثلة لا يمكن ان تحصى أو تضبط. على صعيد النظرية والمبادئ والقناعات جرى التشديد ولزمن طويل على ضرورة اشاعة ونشر فكرة «اليسار الكافر» و «الديمقراطية الشيطانية» وان الوطنية وقيم الجمهورية مشروع ماسوني صهيوني معادٍ للاسلام والمسلمين ومعطل للخلافة وللجهاد. لقد كان يجب ان تتضح لهذه القناعات والمبادئ ضرورتها بالنسبة الى كل منتسب «للاتجاه الاسلامي» ولحركة النهضة فيما بعد وهي ضرورية لكل حركي اسلاموي اخواني، سلفي جهادي أو سلفي دعوي لقد كانت تلك المجاميع التنظيمية كثيرا ما تجري تطهيرات دورية بهدف اقصاء العناصر المتعاونة مع الديمقراطية ومبادئها ورموزها، حصل ذلك مع «صلاح الدين الجورشي» ومجموعته وحصل ايضا مع «حسن الغضبان» ومع «حميدة النيفر» وشيوخ منابر عديدين، لقد عبروا عن بعض تعلق حقيقي بالعقلانية ومقت مبرر للتطرف الديني ولم يعتبروا التراث «مقدسا» بقدر ما حاولوا نقده ورمي جانب كبير منه بسمات التخلف وثقافة الاستبداد اللعين. في الواقع رغم كراهية الشيخ «راشد الغنوشي» القصوى للإصلاحية والوسطية وارادته ان يجعل من النهضة منظمة قتال اخواني صرف كان مع ذلك يبدي من المرونة اكثر مما يبديها «حمادي الجبالي» ذو الميول الاكثر تشددا وتعصبا.
التنوع الايديولوجي واشاعة «الديمقراطية»:
قال عوف بن مالك في خلافة عمر: يا طاعون خذني! فسُئِل لماذا؟ فقال: «أخاف لستّ: خلافة بني أمية وأمارة السفهاء من احداثهم والرشوة في الحكم وسفك الدم الحرام وكثرة الشرطة ونشْأ ينشَؤون يتخذون القرآن مزامير» شرح نهج البلاغة.
كان التنوع الايديولوجي الذي ميز بدايات الحركة الاسلاموية في تونس ناتجا بوجه خاص من واقع ان هذه المنظمة التي ألهمها وقادها زيتونيون ذَوُو قناعات إخوانية سلفية واضحة وكانوا قد حصلوا على خبراتهم السياسية والتنظيمية الاولى ضمن الحركة الدستورية والحركة النقابية بشقيها العمالي والطلابي والتي مارست إغراءاتها الاولى على عائلات سياسية متنوعة للغاية، كان ثمة بين المنتسبين الأوائل للاتجاه الاسلامي. أناس ذَوُو ماض أقل جذرية بما لا يقاس. وقد كانت لهم دائما صلات وثيقة بالرموز الدستورية وتحديدا بالرموز التي كانت تمقت اليسار الديمقراطية دون حدود لقد كان اليسار في السبعينات يباشر بلا هوادة معركة اشاعة «الديمقراطية» ويهدد «المجاهد الأكبر» في سطوته التي لم تكن تتغافل عن استخدام سلاح «التشنيع الديني»، لقد قدمت رموز الدكتاتورية البورقيبية للحركة الظلامية تلك مجلوب التراث البورقيبي المراوغ والماكر فيما يخص العلاقة بالدين وفيما يخص العلاقات بالآخر الاستعماري، ولعل الشيخ «عبد الفتاح مورو» و «الشيخ باللخوة» و «الزمزمي» كانوا الاكثر من عبروا عن العلاقات والصلات تلك، ولم يكونوا الوحيدين كل حال . ان عددا كبيرا من السلفيين قد اصبحوا الآن الأنصار الاكثر صدقا لسلطة النهضة فهم لم يكونوا معادين للنهضة والنهضويين الا بسبب سوء فهم القيادة او بصورة أدق لانهم كانوا يعتقدون ان النهضة وقياداتها في المنفى قد تكون كانت تخون المشروع وتسقط في الانتهازية الديمقراطية. انها فعلت ذلك حين كانت تختبر البيانات المنددة بجهاد القاعدة وغزواتها الأصولية.
«حزب التحرير» حاول ان يستفيد من ذلك فروج لتلك الخيانة النهضوية بكل همة ونشاط، وكذلك فعلت بعض شيوخ السلفية خاصة أولئك الذين كانت لهم بعض التجارب التنظيمية في ظل قرب الشيخ راشد الغنوشي وتحت عنايته الشخصية وفصلوا من الحركة بعد ذلك لأي سبب من الاسباب، لقد تعلقوا راهنا بالنقاوة والطهارة المبدئية فشيخ السلفية «خميس الماجري» لا يتردد في رمي شيخه وأستاذه القديم بالخيانة والنفاق وفي كل «خطبة جمعة» يصب جام حنقه على حليف النهضة الودود السيد «منصف المرزوقي» لقد كان في مقدمة من استضافوا الشيخ «مجدي غنيم» بالكبارية ولم تمضِ اقل من اسبوعين على تلك الحادثة حتى دعت النهضة «الشيخ خميس الماجري» الى مغادرة «منبر الجمعة» والعودة الى فرنسا حيث يقيم.
قادة النهضة المتجذرون في فكر الجهاد والمتمسكون الى حد اللحظة بكل حرف وكلمة من كتابات «السيد قطب» وكتابه الشهير «معالم في الطريق» اي الذين رافقوا «خميس الماجري إبان قيادته لهم تحت ادارة واشراف الشيخ راشد الغنوشي والكثير منهم قد تقلدوا الوزارات يروجون راهنا لتبريراتهم سياسات «النهضة» ويؤكدون ان ديمقراطية الحكومة الائتلافية والتكتيك الراهن لا يعدو ان يكون الا مجرد حيلة وكذب مشروع ومبرر شرعيّ وان تنطع «خميس الماجري» وأمثاله عن قرارات شيخهم المجتهد والمجاهد ليس له اي مبرر وان الشيخ الحاذق والمتحرر من كل هواجس الخشية من رميه بالمروق عن الدين وعن فكر الاخوان المسلمين هو الذي ضاق صبرا بقلة انضباط اولئك القادة الميدانيين الوزراء «عبد اللطيف المكي» والهاروني والمستشار الدكتور الوزير «لطفي زيتون» يصرحون بمثل هذه التفسيرات. فلقد كان على تلك الرموز والقادة المتشددين أن لا يهتموا كثيرا بأن يعمد الشيخ المجتهد الى استخدام اللهجة الديمقراطية كلما اقتضى الامر وان يترفع بين الحين والآخر عن التفسيرات الحرفية القديمة للآيات القاتلة بكفر من لم يحكم بما انزل الله والقائلة بأن النهضة وهي تشارك في انتخابات المجلس التأسيسي وتتبنى النظرية الدستورية ويعبر وزراؤها عن «الروح الوطنية» الخالصة فانها اصبحت تعد في الاطروحة الفقهية السلفية المتشددة من الفاسقين والظالمين مثلها كمثل شركائها في الحكم والمعارضة! الهجوم الاخير الذي شنته النهضة بادارة البعض من اجنحتها وقاداتها ضد أيمة السلفية واطردتهم عنوة من الجوامع والمنابر، يريد ان يضعنا امام الوضعية القائلة بأن فشل «النهضة» أو فشل المعتدلين داخلها يعني انتصارا للتطرف السلفي والتعصب العقائدي، النهضة تشيطن «السلفية» تماما كما فعل «بن علي» حيث شيطن «النهضة» ليؤسس لدكتاتوريته وفساده واستبداده.
افتعال الوقائع الثابتة:
«... ان هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في نيتها ولا في كتابها وإنما اختلفت في الدينار والدرهم» عمر بن عبد العزيز سير السلف والبداية والنهاية».
«أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتلو آخرها أوّلها..»(النبي تاريخ الطبري الاستيعاب.)
أقدمت النهضة على ذلك الهجوم ضد أيمة السلفية يوم الجمعة الذي خصصته تلك السلفية نفسها وبإعانة البعض من اطراف النهضة نفسها للتظاهر امام المجلس التأسيسي والمطالبة باعتبار الشريعة المصدر الوحيد للتشريع، اختيار التوقيت المناسب في العمل السياسي شرط جوهري لنجاح او فشل العملية بالكامل. قادة النهضة في الحكومة وفي التآلف الحاكم بعد ان حاولوا قدر جهدهم التهوين والمراوغة فيما يخص عملية الاهانة التي الحقها التطرف الديني بعلم الجمهورية عادوا ليختلقوا عمليات مناورة مفضوحة تلحق الأذى والاهانة نفسها بالقرآن الكريم وبمدخل «جامع الفتح» بالعاصمة هذا الجامع الذي شهد منذ سنة او اكثر وعند كل «جمعة» مواجهات وتشابكات، لقد فعلوا ذلك ليفتعلوا وقائع ثابتة تؤكد لهم وجود تطرف يميني يقابله تطرف يساري او علماني فالنهضة تريد ان تأسرنا الى اجل غير مسمى في اطار المثلث الذي اكسبها التفوق الانتخابي علمانية متطرفة تقابلها سلفية مقاتلة وتكون النهضة بهذا التقابل والتضاد الاهوج والدموي في موقع الحكمة والعقل والاتزان والاعتدال والوسطية فمع هذه البلبلة والاعتباط اللّذين يسودان راهنا مفاهيم الدين والسياسة والتاريخ والدولة بحق يمكن ان يكون شيخ النهضة مجددا عبقريا لامعا، اننا في تونس الراهنة لا نعاني من تطور العلمانية وتطرفها ومن تطور العقلانية والنقدية بل من عدم تطورها بشكل كاف فالى جانب مصائب العهد الحديث ترهقنا كثيرا المصائب الموروثة التي لا تزال قائمة بسبب ان اساليب القمع الفكري العتيقة البالية وما يلازمها من علاقات اجتماعية وسياسية متقادمة العهد لا تزال تحيا بيننا حياة بلادة وخمول وركود وجمود وافلاس للقيم الروحية وللوجود بجميع مستوياته دون الانحناء لمستوى الشرائح المتخلفة والبائسة في قاعدة دعاة «الدولة الاسلامية» أو الخلافة والانحناء لهم لا فقط بالحوار الفقهي المزدري لهم ولإفتاءاتهم وانما بانتشالهم من قاع هاوية الفقر والتشريد والخصاصة والحرمان. دون ذلك الانحناء ستفشل النهضة في مواجهة الديمقراطيين وبالتفريط في مبادئها التأسيسية الظلامية ستفشل النهضة ايضا في مواجهاتها جميعها. «النهضة» ملزمة ومقدر لها حتميا ان لا تعقد اية مساومات بلب يجب عليها ان تحتفظ بصفاء مذهبها وباستقلال تطرفها. رسالتها تقتضي بأن تسير في مقدمة التطرف الاسلاموي والتشدد الديني دون ان تتوقف أو تنحرف عن طريقه. عليها ان تسير بصورة مستقيمة باتجاه التطرف الجهادي نفسه وباتجاه معاداة الجمهورية والديمقراطية والتقدم، هذا ملخص ما ستعلمهم اياه التجربة، ان قرار تمكينهم من السلطة هو قرار نهايتهم نفسه وهو ليس القرار الذي سيحقق آليا نهاية التطرف الديني اي ان سبب فرحهم وسعادتهم هو نفسه الذي كان وسيكون سبب تعاستهم، لقد فاتهم ان يدركوا ان ثورتنا الديمقراطية حتى تنجح لا يجب ان تستمد شرعيتها وسموها من الماضي أو التطرف بل من المستقبل فحسب ولم يكن سعيها ان تبدأ هي نفسها قبل ان تتخلص تماما من كل معتقد باطل، النهضة جملة من المعتقدات السياسية الباطلة فلن تستطيع ان تحكم الثورة دون ان تتخلص تماما من جميع تلك المعتقدات اي ان تتخلص نهائيا من وجودها نفسه.
النهضة راهنا معلقة وتتأرجح بين خطابين مصاب اغلب الوقت بالريب العميق تجاه المبادرات التي تقوم بها الجماهير الشعبية ويرى في مساندتها تآمرا على سلطاته ويكرر ما كانت البورقيبية تدعي لنفسها من وسطية واعتدال و «وحدة وطنية» تقاوم التطرف اليساري واليميني وخطاب ثانٍ يحتفي بالثورة ويدعيها لجهده الخالص وجهد محنته المقاومة لسياسة «بن علي الدكتاتورية» التي حاولت استئصاله بفعل ذلك ويروج له وهو يدعي الانتساب الى الديمقراطيين دون ان يرى اية فائدة في الدفاع عن قيم الديمقراطية وثقافة الحرية والتقدم راهنا ولا يرى انه معني بالهجوم الشرس الذي تخوضه سياسات الاستبداد الديني ضد مؤسسات المجتمع المدني انه يعود منكفئا كما كان أول أمره حين كانت مطالب الحرية والديمقراطية والتقدم يشار اليها في الخطاب الرسمي على انها مطالب يسارية متطرفة يمكن بحسب رأيهم ان تمهد لأعمال ارهابية ويذكرها التيار الاسلامي آنذاك على انها فتنة يقودها شباب ماجن ومنحل أخلاقيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.