صرّح أحد جرحى الثّورة موجّها كلامه إلى الشعب التونسي قائلا «ألا يخجل هذا الشعب من نفسه» هذه العبارة المربكة جعلتني أطرح سؤالا علميّا وهو تأثير الحراك الثوري في سلّم القيم المرتبط بثقافة المجتمع التونسي؟ لقد مثّلت المرحلة الثورية التي عاشها المجتمع التونسي اختبارا حقيقيّا لتشخيص ثقافة المجتمع من جهة ولدور النّخب في تجاوز اضطراب المعايير وصيانة نظام القيم من جهة أخرى. غير أنّ الباحث المنخرط بالضرورة في الأحداث العاصفة لا يمكنه في المرحلة الراهنة إلاّ تسجيل ملاحظات أوّلية قد تمكّنه في مرحلة لاحقة من مقاربة علميّة للديناميكية الرمزية التي أنتجها الحراك الثوري في تونس. لعلّ المكسب الثابت الوحيد الذي حقّقه الحراك الثوري في تونس يتمثّل في ذلك الرأسمال الرّمزي الذي حقّقه الشعب التونسي باعتباره صانع الربيع العربي الذي ولئن اتخذ في بعض البلدان العربية منحى تراجيديا إلاّ أنّه مازال يتمثّل نموذجا لتحرّر الشعوب وانعتاقها. كان للفعاليات النضالية التي قام بها أجيال المناضلين ضدّ دولة الاستبداد في تونس الأثر الكبير في تهيئة الشروط الموضوعية لاندلاع حراك 17 ديسمبر 2010 غير أنّ نجاح هذا الجيل في خلع الرئيس السابق بتلك الطريقة المتفرّدة ومن خلال تلك الشعارات الأصيلة جعله يهدي إلى تونس رمزيّة الشعب الفاتح ويكرّس أسبقيّته التاريخية في مسار التحرّر والكرامة في المنطقة. هذه الأسبقيّة التي يبرّرها التاريخ السياسي والاجتماعي الحديث بدءًا بقرار عتق العبيد سنة 1846 مرورًا بإصدار أوّل دستور مكتوب في العالم العربي سنة 1861 وصولا الى مجلّة الأحوال الشخصية في سنة 1956، هذه المنعرجات الكبرى هي التي نحتت تاريخانيّة متمايزة عن المحيط الإقليمي بالرّغم من عدم النجاح في الوصول إلى مرحلة الحداثة السياسية بالمعنى الفلسفي والحضاري. كما أنّ نجاح الحراك الثوري 17 ديسمبر قد مكّن كذلك من تأكيد ما يمكن وصفه بكاريزما الشعب التي لا يبرّرها شعار «الشعب يريد» فحسب بل أساسا قدسيّة بيت أبي القاسم الشّابي. إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابدّ أن يستجيب القدر هذه الأيقونة الشعريّة التي كثيرًا ما ردّدناها في نشيدنا الوطني وردّدها معنا ملايين البشر التائقين إلى التحرّر كشفت كلّ أسرارها في تلك اللحظة أي لحظة 14 جانفي. غير أنّ تلك اللحظة نفسها هي التي أعلنت عن بداية سرقة الحلم وكان الفصل 56 من الدستور أولى الأدوات المعتمدة، كان وذلك الظهور الأوّل عبر الشاشة هو الصورة الأولى التي شوّهت المشهد وأجهضت هستيريا فرحة الشعب والحقيقة أنّ استمرارية الدولة ما كانت لتبرّر هذه العمليّة الاجهاضيّة حيث أنّ الاعلان المباشر عن اعتماد الفصل 57 كان سيؤكّد عمليّة الخلع التي تجسّم وحدها استمرار الدولة بإرادة الشعب الفاتح... لقد كانت الفعاليات الاغتناميّة الصورة الأولى للمشهد الاجتماعي والسياسي الذي أعقب خلع الرئيس السابق يوم 14 جانفي 2011 حيث عاثت العصابات الإجراميّة فسادًا ونهبًا وترويعًا للمواطنين منذ اللحظات الأولى لنسائم الحريّة ووجد المواطن التونسي نفسه في مواجهة تحدّيات لم يتعوّد عليها مجبرًا على حماية نفسه من خلال لجان أحياء وبمعاضدة المؤسسة العسكرية في ظلّ غياب شبه كلّي لقوّات الأمن التي فقدت في تلك المرحلة كلّ معاييرها ومرجعياتها. غير أنّ تلك الفعاليات الاغتناميّة التي قامت بها العصابات الإجراميّة لم تكن لتثير اهتمام الباحث بفعل منطق الأشياء ولكن المثير فعلا هو اغتناميّة النّخبة ولاسيّما النّخبة السياسيّة التي يفترض فيها أن تكون صمّام الأمان الوطني. تترجم مأساة عائلات شهداء الثّورة وجرحاها وصمة عار حقيقيّة ليس على جبين الطبقة الحاكمة فحسب بل على جبين كلّ فعاليات المجتمع المدني وتجدر الإشارة إلى أنّ أقصى درجات الانتهازيّة تتجلّى في هذا المستوى عندما وظّف ملفّ الشهداء والجرحى في الدعاية الانتخابيّة ثمّ يقع التنكّر بل تشويه رموز الثّورة بعد النجاح في الانتخابات. إنّ ما وقع من محاولات اندساس حقيرة في قائمات الشهداء والجرحى لا يمكن أن يبرّر البتّة التلكؤ في معالجة هذا الملفّ الذي يمثّل ملفّا مركزيا في المحافظة على الرأسمال الرمزي للثّورة التونسية بل وفي تغيير نظام القيم الذي يكرّس الخنوع والانتهازيّة والذي غذّته الطبيعة المليشيوية لنظام بن علي، إنّها فرصة تاريخيّة كي يتمكّن أحفادنا من احترامنا ومن الوقوف خاشعين في مقبرة ليترحّموا علينا لا باعتبارنا جيل الفاتحين فحسب بل باعتبارنا الجيل الذي عمل على تكريس نظام قيم يمجّد التضحية في سبيل الآخرين وينبذ الخنوع والانتهازيّة ويقدّس قيم الحريّة والانعتاق.